أرواح الحجر بين صض وريلكه

أرواح الحجر بين صض وريلكه

ج داير

ترجمة: غ اسكندر

في كتاب جون بيرجر الفن والثورة حول النحات السوفييتي إرنست نيسفيزتني وكان لرودان تأثير مهم على نيسفيزتني، ولكن قبل الحديث عن أعمالهما التي قدم عنها بيرجر نظرة عامة عن علاقة النحت بالفضاء.إذ يقول بيرجر عن “مقارنة عمل نحتي بشجرة في الشتاء.

بسبب أن الشجرة عندما تنمو تكون حالاتها عرضة للتغيير ويكمن هذا الأمر في أش المرة الأولى التي أقرأ فيها عن أوغست رودان كانت كالها وتكويناتها، لذلك فإن علاقتها بالفضاء المحيط بها تبدو وكأنها علاقة معدلة”. ومَن ثم يقارن بيرجر عملاً نحتياً ببناية أو آلة. وبعد أن يتم له ذلك، يصبح جاهزاً لتحديد الطريقة التي “يبدو فيها العمل معارضاً للفضاء المحيط به”. ويضيف: “أن حدود العمل مع ذلك الفضاء نهائية. وتتمثل وظيفته الوحيدة باستخدام الفضاء في مثل هذه الطريقة لإضفاء معنى عليه. إنه لايتحرك أو يصبح قريباً. ويؤكد تناهيه بكل الطرق الممكنة. وبذلك فإنه يستند إلى مفهوم اللاتناهي ويرفضه. ويوضح بيرجر بأنه “إدراكاً منا لهذا التعارض التام بين العمل النحتي والفضاء المحيط به فإننا نفسر ما ينتجه بعبارات زمنية. ولكنه سيقف ضد الزمن كما سيقف ضد الفضاء».

المرة الثانية التي واجهت فيها رودان كانت عن علاقته بالشاعر رينير ماريا ريلكه الذي وصل الى باريس في سنة 1902 لكتابة دراسة عن النحات. وخاطب رودان في حزيران / يونيو من تلك السنة بالقول: “سأذهب الى باريس هذا الخريف كي ألتقي بك وأُغمس نفسي في إعمالك الإبداعية”. وعلى رغم الحاجز اللغوي، إذ أن فرنسية ريلكه في ذلك الوقت كانت ضعيفة ورودان لا يعرف شيئاً من الألمانية، فقد كان إعجاب الشاعر الشاب بالفنان الكبير عندما قابله، كسحره بأعماله الفنية. وقضى ريلكه وقتاً طويلاً من الوقت في صحبة رودان حيث كتب كتابه عنه في شهر واحد واستأنف تجواله في شهر آذار / مارس التالي. إلا أن رودان أظهر اهتماما قليلا بالكتاب، لكنه عندما قرأ ترجمته الفرنسية في عام 1905 كتب بحرارة الى الرجل الذي “تأثر كثيراً بعمله وبموهبته”. وتعبيراً عن تأثره واعجابه، دعا رودان ريلكه الى البقاء في بيته بميودن. وبعد اشهر قليلة، حصل ريلكه من لقائه الثاني برودان ثانية على كل ما يأمله. فقد وجد نفسه ليس فقط مندمجاً بحلقة رودان المليئة بالنشاطات والالتزامات، بل في المساعدة في تنظيمها. وكانت خطوة محسوبة واحدة، أو ربما، للإغواء، خطوة غير محسوبة، ليصبح الشاعر سكرتيرا للنحات. ومشى الترتيب بشكل جيد لفترة، لكن ريلكه سرعان ما بدأ يضيق ذرعاً بواجباته. وفي آيار / مايو من عام 1906 وجد رودان أن السكرتير أصبح يتدخل أكثر من اللازم في مراسلاته مع بعض اصدقائه فطرده على الفور “مثل خادم سارق” كما قال بحزن ريلكه المجروح.

وبسبب رودان اقتنع ريلكه بالأهمية القصوى للعمل الدؤوب وبالتفاني المخلص لانجازمهمته. فقد كان رودان، في ما يبدو، مَن نصحه بـ “فقط اذهب وانظر الى شيء ما – على سبيل المثال الى حيوان في جاردن دي بلونت– وحدق فيه ملياً إلى أن تكتب قصيدة عنه”. ويمكن أن تكون قصيدة “النمر” نتيجة مباشرة لهذا الاقتراح. وبوجه عام، فإن ريلكه كافح من أجل ترجمة لما يعتبره الميزة الأكثر استثنائية للنحات وهي قابليته على خلق الأشياء، الى “قصائد الأشياء THING -POEMS». ويستلزم هذا شيئاً أكبر من نظرة مجردة؛ وكما هي الحال مع رودان، “فيمكن القول أن ظواهر الأشياء لا تهمه بقدر ما تهمه معايشة وجودها”. وإن الطريقة التي أوقضها رودان في داخل ريلكه في الرغبة بكتابة قصائد تكون معادلاً لفظياً للأعمال النحتية واضحة جدا. “أغنية التمثال”، على سبيل المثال، تسجل التوق الى:

«يعاد من الحجر

الى الحياة، الى الحياة محرراً».

وفي زيارة من زيارات ريلكه الأولى الى استوديو رودان في رو دي ليونيفيرستي، أدهش ريلكه نحتٌ بارز BAS - RELIEF يدعى نجمة الصباح: “رأس لفتاة شابة بجبين ناصع وصاف وجميل ومضيء وبسيط الى درجة الدهشة، وفي عمق الحجر تظهر يد تقي عيون الرجل بحذر من الزهاء. وهذه العيون هي تقريباً في الحجر (ذلك ما أعرب عنه هنا من دون وعي وبدهشة كبيرة)”. وفي اليوم التالي من زيارته الأولى الى جناح مودون، كان ريلكه متعباً من كمية الأشياء المعروضة ومن بياض سطوعها الثلجي حتى أنه من شدة الضوء تأذت عيناه. وتأملاً في مصادر إحساس رودان بمهمته، تسائل ريلكه عن آثار العصور القديمة التي يجب أن يكون رودان قد رأها في شبابه في اللوفر وأمكنة أخرى: “كانت هناك أحجار نائمة وكان المرء يشعر بأنها ستفيق في يوم حساب ما، الأحجار التي لم تكن لها علاقة بالموت، والأخرى التي تجسد حركة أو إيماءة وتحتفظ بهذه النضارة التي يبدو انها محفوظة هنا فقط حتى يحصل عليها طفل يمر بقربها يوما ما كهدية».

وعبر رودان نفسه في كاتدرائيات فرنسا عن ايمانه في النحت بوصفه “تعزيماً أُسقطت الروح بوساطته في الحجر”. وقد كان مندهشا بمشاهدة أعمال الفنانين القوطين “وبقدرة المرء على التقاط حقيقية الروح في الحجر ليحبسها قروناً”. فأحياناً، كما قال رودان، عقدة من الخشب أو كتلة من الرخام تبدوان لي “أن شكلاً كان سجيناً هناك من قبل وعملي يكمن في إزالة جميع الحجر الخشن الذي يخفي تلك الروح عني”. ودوّن أبياتاً من شاعر آخر، هو بودلير، على قاعدة العمل البرونزي أنا جميلة تبدأ بالبيت الآتي:

«أنا جميلة

جمال حلم من حجر».

وكما نرى من مجموعة الاقتباسات المختلفة هذه، بأن العلاقة بين هذه الافكار المتصلة ليست ثابتة- لا تمكث في الحجر، إن صح التعبير. فهناك حركة مائعة ولينة بين أفكار الحجر سجناً واحتواء، في نومه وحلمه، بيقظته وعودته الى الحياة. ويحتوي الحجرعلى الشكل ويتحرر الشكل من سجون الحجر ويبقى الوجود الحي محصوراً فيه. ومهمة كلمات ريلكه – في شعره وفي كتابه عن رودان – كانت لتسجيل هذا الاحساس العفوي الاعمق لبواطن الجوهر الحلمي في صمت الحجر ولتسجيل اليقظة الدائمة لوجوده. وفضلاً عن ذلك وخلافاً لمايكل أنجلو الذي تحدث عن تحرير الأشكال من الحجر، فإن العملية معقدة بالنسبة الى طريقة رودان التي هي ليست نحتاً فقط. فقد كان فناناً يصنع أشكالاً طينية بيديه. ومن القوالب المستمدة من هذه الاشكال الطينية ومن النسخ الجصية التي يمكن أن تكون قوالب؛ ومن الاشكال الجصية التي يمكن أن يصنعها طين اخر، ومن قالب برونزي يمكن أن يصنع في النهاية. (كل نسخ أعمال رودان الرخامية نحتها مساعدون). وبعبارة أخرى، فإن هناك سلسلة متوالية من القيد والتحرير، ومن السجن والحرية، ومن الايجابي والسلبي؛ هناك قلب مستمر لفكرة الداخل والخارج، للعميق والسطحي. وكما عبر ريلكه عن ذلك بإيجاز بارع “يجب أن يكون ما يحيط بالعمل موجوداً في داخله».

وكتب واصفاً تكنيك رودان “ببطء، وبتفحصٍ، قد انتقل من الداخل خارجاً الى سطحه، وفي الوقت نفسه تُمد يد من الخارج الى الأمام وتقيس هذا السطح وتحدده من الخارج بالقدر نفسه الذي تحدد به الداخل”. وطبقاً لريلكه فإن رودان كان أفضل مَن يرى بأن جمال الناس والحيوانات والأشياء معرضة لمخاطر الزمن وتقلبات الظروف. وقد كيّف أشياءه في محاولة منه للحفاظ على الجمال المهدد “ الى فضاء أقل عرضة للخطر وأكثر سكوناً وخلوداً”. وبينما تقدم عمل رودان فإن العلاقة بين العمل وما يحيط به تغيرت؛ “في حين أن أعماله في ما مضى قد وقفت في منتصف الفضاء، وبدا الأمر كما لو أن الفضاء يختطفها اليه”. وما جرى في أعماق الأشكال امتصه السطح. لذلك فإن الاثارة الملفتة لعمل رودان هي معنى أن يكون السطح ممتلئاً بما في الداخل.

وبصورة عامة فإن أعمال رودان عن الناس تظهرههم في حالة من العذاب والحسرة. وأسهم رودان بشكل أكبر في صناعة فكرة أنه بوصفه المبدع فإن كل تلك النسخ من يد الله، لكن ابداعاته الذكورية قلما اقرت بذلك العرفان. وعلى الأصح تتصرف مثل آدم، تندب فشله في الفردوس المفقود (في أسطر استعملتها ماري شيللي كتصدير لكتابها فرنكينشتاين):

«هل طلبتك؟ أيها الصانع

عندما كنت طينا

لتجعلني انسانا

هل توسلتك

من الظلمة لتنشئني...؟».

إن أشكال رودان الذكورية تظهر عذاب المجيء الى الحياة. ولنعبر عن ذلك بشكل غير ملائم الى حد ما، تعبر أشكاله عن الألم في أن يكونوا احياء. وهذه الصدمة الشديدة للوعي تظهر بشكل أكثر وضوحاً في مواطني كاليه BURGHERS OF CALAIS، حيث كان الالهام الفوري لنصب رودان التذكاري من حادث جرى عام 1347 عندما وافق إدوارد الثالث أن يعفو عن الباقي من سكان مدينة كاليه المحاصرة إذا سلم ستة رجال أنفسهم اليه. وبوحي من مثال أُوستاج دي سانت بيير تطوع خمسة آخرون من مواطني كاليه البارزين للالتحاق به. ويذهب معنى العمل المنجز بعيدا الى ما وراء أصل الحادث (وعلى أية حال فإن أكثرنا اليوم يتجاهله). ويظهر عمل رودان رجالا أثقلهم الحزن ليس بسبب القدر بل بسبب اختيارهم، نادمين على القرار الذي شجعهم، مدركين وواعين للعمل الذي قاموا به. وخطورة ما فرضوه على أنفسهم سبب في أن السماء انعطفت عليهم بقوة شديدة. ودعوة الى تقديم بادرة من التضحية الذاتية فإن تعظيم المثل الاعلى للاستشهاد هو تقويض للخيانة من خلال إيماءاتهم. وكانت المقالة التي كتبت بنقد لاذع رداً على ماكيت بعرض قدمين أنجزه النحات ونشرت في “باتريوت كاليه” في الثاني من آب / أغطسس من عام 1885خاطئة جدا في حكمها لكنها دقيقة في عرضها لـ “المشاعر المنبثقة من العمل عموما”ً بوصفه “حزنا وقنوطا واكتئابا لا حدود له”. وضع الرجال أنفسهم الى الامام بارادة كافية لكن قوة القرار لم تكن كافية لتحمل نتائجه. ومع كل العظمة، إلا أن هناك شعوراً ثابتاً باللاجدوى بكل معنى الكلمة. “هل لأن الصلصال أصبح شاهقاً؟”، منذ أن سأل ويلفريد أوين في عام 1918 في قصيدته “اللاجدوى” وايماءات الحسرة “للمواطنين” أُعيدت ورددت في ليس فقط في الصور الفوتوغرافية للحرب والعذاب، بل في الرياضة وفي الشوارع. وكما يرى رودان فإن بعض الإيماءات تشير الى الأبدية، ولكن لا يتبع هذا ان معناها ثابت لا يتغير. وما صوره رودان في عمله “المواطنون” كان ولادة لشكل حديث لليأس على وجه التحديد: الرضا بأن ليس هناك مصدر خارجي للإعتاق ومعرفة ان حياة المرء ليست لها القدرة على توليد قدرتها على الانعتاق.

ولكن ما هو عزاؤنا في مواجهة هذه الورطة؟ الإحتمال الأول ان العمل (“لعنة آدم” كما عبر عنه ييتس)، تكريس مباشر لبراعة أثرت بريلكه الى حد كبير. أما الاحتمال الآخر فهو التعهد الجنسي الذي قدمته النساء. وانجز رودان في سنواته مزاوجة مفرحة للغاية بين تلك الاحتمالات، مكرساً الساعات تلو الساعات لعمل آلاف الرسومات لنساء عاريات، دائما في حالات من النشوة الجنسية. وشرح ذلك “يقول الناس إنني أفكر كثيرا بالنساء”. مضيفاً: “وحتى الآن، فما هو أكثر أهمية للتفكير به؟” في ميلتون، كما هو في الأنجيل، فقد جاء السقوط الذي جاء بعد أن تذوق آدم حواء في كل جوانب شهوانيتها. وقلب هذا حقيقة الموقف: لأن إغراء الجنس أحد الأشياء التي تجعل حالات السقوط ليس مجرد مُحتملة بل مرغوب فيها. وعلى دراية أو من غيرها، يقدم ميلتون لمحة عن الجنة تمكن استعادتها الى ما لا نهاية:

«يلقي هو على حواء رغبة جسدية تلتهب،

وهي بنظرات شهوانية تردها إليه...».

ودرّب رودان نفسه على رسم النساء اللائي كن سعيدات بتسليم أنفسهن اليه، من دون أن يرفع عينيه عليهن، بينما كان يمنع نفسه عن التحديق. (وليم روثنستن، الذي اليه ابدى رودان ملاحظة عن أهمية المرأة، مذكراً إياه بـ “بملامسة (موديلاته) بعينيه وبعض الأحيان بيديه أيضاً”). فتشتغل يداه مثل إبرة ماكينة عالية الجودة، ويكيف نفسه لموديلاته في كل حركة. إنه لا يريد لأي شيء، حتى نفسه، أن يعرقل المرور المتدفق بين الموديل والورقة. فكانت مشاهدة الفن وابداعه واحدة. وهذا الهوس المتأخر في الرسم لم يؤسس بداية جديدة أو تغييراً مع ممارسته المبكرة. ووصف رودان نحته بأنه “رسم بتعمق”؛ فبالنسبة الى المشاهد يبدو أنه ليس أقل من يقظة حجر