العشاء الأخير.. آخر الذكريات

العشاء الأخير.. آخر الذكريات

مجيد القيسي

لا أدري كيف ابدأ في نعي الفنان الصديق منصور البكري وعلى قافلة الرحيل كوكبة ممن سبقوه. إن رحيله ترك لدينا فراغاً فنياً واجتماعياً لايعوّض. لقد كان الراحل متنوع النشاط. متميز في فنونه وهواياته. أحب الرسم ومارسه بشوق.

كانت حقبة السبعينات بداية عمله الناجحة في” دار ثقافة الأطفال العراقية” وكان أصغر الرسامين سنا في مجلة “ مجلة والمزمار” فهو من مواليد 1956 في بغداد. كان في حينها يجمع بين العمل والدراسة حتى تمكن من نيل شهادة البكلوريوس الجامعية من اكاديمية الفنون الجميلة في بغداد. ورغم امكانيته المحدودة اتجه صوب ايطاليا التي امضى فيها فصلاً ممتعاً ومفيداً زار خلاله اكاديميتها الفنية عام 1981 واكتسب بعضاً من معارفها. لكنه اختار فيما بعد لأسباب اجتماعية وفنية ومادية المانيا الأتحادية مكاناً لإقامته. هناك في برلين الغربية سابقا شرع بدراسة الفنون العالية ـقسم التصميم والكرافيك. في تلك المدينة المقسمة المحاطة بالجدار ,الذي فرضته الحرب العالمية الثانية تعرفت على الفنان منصور البكري فوجده يقترب من معاناتنا في الغربة ولديه احساس وطني رافض للديكتاتورية والحرب.

لقد كنت طالباً في جامعة برلين الحرة وأحد قيادي جمعية الطلبة العراقيين وكان منصور في جامعة الفنون العالمية في برلين وقبل ان نتعرف عليه كنا نستعين لنشاطاتنا بالمثقفين والفنانين العراقيين وبحركات التضامن حولنا. ومن هؤلاء الفنانيين: أحمد أمير, عبد الرحمن الجابري, حسام البصام, فيصل لعيبي وغيرهم من الأحبة...وأخيراَ كانت فرصة اللقاء معه في بداية الثمانينات من القرن الماصي مثمرة جدا. لقد خفف العبئ علينا كثيراَ. كان بارعاً في فنه وفي إدارة وتخطيط المهرجانات ومبدعاَ في الرسم والمحاضرات والعروض السينمائية, ومن أجمل ما قدمناه من الفعاليات في جمعية الطلبة العراقيين احتفالية الذكرئ الخمسينية لتأسيس اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية التي دعي اليها الكاتب هادي العلوي والكاتب فالح عبد الجبار والشاعر شاكر السماوي,والفنان سامي كمال, و كمال السيد,والفنان حسين نعمة لاحقا. ومن نشاطاتنا الأخرى أعياد المرأة وأحياء ذكرى ثورة الرابع عشر من تموز... ومن المحاضرين في تلك الأحتفالات الدكورة نزيهه الدليمي والسيدة هناء أدور والدكتور كاظم حبيب والعديد من الآدباء والمثقفين. وحين انتخبنا لإدارة نادي الرافين الثقافي كان البكري مشاركا نشطاً في الاعداد والتخطيط للمهرجانات الثقافية. فقد كان يعد البرامج “لأيام الرفدين الثقافية” فنياً ,محفوفة بأجمل لوحات الفنانين والفنانات العراقيين: مثل الفنانة عفيفة لعيبي, والفنانين ستار كاووش, جبر علوان, فيصل لعيبي وغيرهم من المبدعين...

لقد كان منصور فخوراً بلوحات كلكامش وبالفن السومري والثقافة العراقية بماضيها وحاضرها. ولن تنأى معارضه بعيدا عن تلك المشاعر والأحداث, بل كان يحيطها بسياج معرفته وارثه الثقافي ولم ينس أن يرسم للعراق دمعة ,بل طافت ريشته بعناية على ملامح شخوصه السومرية في” الدمعة” التي جسّد بها كلّ التفاصيل المرعبة الأحداث الملوّنة بالدماء والمأساة التي طال أمدها واتسعت بشاعتها. وعلى سعة المأساة تقسمت لوحاته بأشكالها الموفجعة ورموزها المحاصرة بالقنابل والجوع والأوبئة. تلك الصور أظهرت حزنه العميق لما يحدث في العراق أرضا وشعبا على يد الغزاة وتجار الحروب. جراح الضحايا وصراخهم فوق الملامح السومرية كإرث حضاري احتفظ به أكثر الفنانين العراقيين التشكيليين بأساليبهم المتنوعة.ولم يغفل الفنان منصور البكري بشاعة الأعلام وسكوته المتعمّد على ما حدث ويحدث من بشاعة وانتهاك للقيم الأنسانية. إن الرمز والإ سطورة في أعماله يبتعدان ويقتربان. فهو لم يبتعد عن هموم الناس المتنوعة, تارة يجسدها بالكاريتير وتارة بالبورتريت: فقد رسم أضافة الى ما أشرنا, عددا من الفنانين والمثقفين العراقيينوالعرب وغيرهم مثل الشاعر عبد الوهاب البياتي و الفنان المسرحي عوني كرومي, والشاعر الألماني غنتر غراس والشاعر الفلسطيني محمود درويش و الشاعر سعدي يوسف والممثل المسرحي منذر حلمي والكاتب كاظم حبيب و كذالك صديقه فيصل لعيبي.كما لن أنسى إنه كرمني أيضا بجائزة مماثلة تعبيرا عن صداقتنا وعملنا الثقافي المشترك.

إن تلك النشاطات المكثفة والسهر الطويل مع الفنانين والمثقفين عبر شبكات التواصل الألكترونية فيها لذّة له ,ولكنها لم تخل من المشقة احياناَ. كل ذلك انعكس تدريجيا على صحته, ولاسيما وأنه كان يعيش أزمة قلبه الكليم وتكرر نقله الى المستشفى, رغم اصطحابه الدائم للجهاز المساعد لحركة القلب. وحين غادر منصور البكري المستشفى دعاني في الحادي والثلاثين من شهر اكتوبر/ تشرين الأول الى مأدبة عشاء في بيته مع أخيه وصديق أخر. لقد كان عشاءا لايشبه غيره في وفرة القِرى “الطعام” وخصوبة الوجه وسعة الأنطلاقة, حتى بدا لي كأنه العشاء الأخير جلسنا نشاركه لحظة الفرح, وفجأة رن جرس التلفون, نهض العندليب فالتقط السماعة مرحبا بأحد الأصدقاء ومعبرا عن فرحته بأغنية لشاديه من أحد أفلامها المصرية , كانت تلك الأغنية لحنا للحوار ومدخلاً للذكريات شارك فيه الأثنان عبر سماعة التلفون. إذ كلاهما من عشاق الأغاني العربية الكلاسيكية وحين انتهت المكالمة قال منصور مًبتهجاً: “كلوا أيها الأصدقاء إنّها أكلة عراقية بحتة سجلت محتوياتها وطريقة طبخها من أحد برامج الطهي, فيها من الفن ما يشبه التشكيل... هنك الوان عراقية لذيذة أخرى نفتقدها في الغربة” ثم رفع كأسه قائلاً: “ هذا لبن صنعته بنفسي, عوضا عن الشراب, كلوا “البرياني” أيها الأصدقاء. أكاد أطير فرحا بلقائكم..” وانطلق يحدثنا بدراية عن عدد من الفنانين المصريين المشهرين في الموسيقى والغناء و السينما ولهم اخوة وأخوات دخلوا عالم الفن, لكنهم لم يبلغوا شهرة أخواتهم وإخوانهم “ و قبل أن يدسّ يده في الطعام قال لي ناولني علبة الأدوية من فضلك. وحرص أن يكون لحن ,أم كلثوم, عطر طعامنا ومفتاح شهيّتنا. ونهض منصور فيما بعد ببطئ متجهاً الى المطبخ المكتظ بالقدور والصحون والأدوات الاخرى, ليجلب الشاي الذي فاحت رائحته الينا. وفي لحظة الصمت القصيرة تحدث أخوه طارق الينا بصت منخفض جدا: لماذا لم أكن أنا في هذه المحنة.التي يعيش فيها أخي. إنه مازال في مرحلة الشباب وله آمال كبيرة ويستطيع أن يقدم الكثير...ثم توقف فجأة حين دخل منصور حاملاً أكواب الشاي ليضعها على الطاولة...وفي هذه الحظة كانت تنقصني الكلمات للتعليق على أمنيته وعمق حزنه على معاناة أخيه, لأني كنت متفائلاً بحصوله على “القلب الموعود” والتخلص من الجهاز الثقيل المنشط لقلبه الكليم المربوط بخاصرته...جلس منصور وهويحتسي شايه, ليعلن أنه سيعود الى المستشفى ثانية لتحويل مربط الجهاز واجراء بعض الفحوصات المتعلقة بالقلب.والواقع أنا لا أشعر بألم, ولازلت قادراً على الرسم والمراسلة مع الأخوات و الأخوة و الأصدقاء, وارفد “صحيفة الصعاليك” ببعض من رسوماتي “.قلت له وكنت مستغربا من هيئته التي تغيرت بعض الشئ. “إنك أصبحت بدينا نوعا ما أليس كذالك؟”. قال: “لا تقلق هذه ليست سمنة. هذا ماء تجمع في الجسم من كثرة المغذيات التي كنت أحصل عليها. ثم ضحك وقال: “اشربوا شايكم”. إن واجبي قد انتهى وعليكم غسل المواعين” فقد قمنا بهذه المهمة بكل سرور وعبرنا عن شكرنا الجزيل لهذه الدعوة وهذه الأمسية النادرة ولم نكن ندري بأنها ستكون “العشاء الأخير”. وبعد ثلاثة أيام اتصل الفنان الصديق منصور البكري من المستشفى بالصديق فارس وابلغه بعدم ارتياحه من نتائج الفحوصات وأن لللأطباء رأى أخر... ففى فجر الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني رحل الطائر الويع حاملاً قلبه بين جناحيه.

كانَ المساءُ ملوناً

ملوناً أيضا كان اللقاء...

فوقَ أ ديمِ الحياة تمرّ الذكريات...

نهرٌ من الألوان يرسم لوحة...

تحت خيوط الشمس تسبح دمعةً

جلس الغريبُ يتأمل زورقاً

يتفحصُ لوحة الرحيل...

صورة العشاء المقبل...

يغيب في العطر الشرقي....يحلمُ لحظةً

تباً لطعام المستشفى...

أكلةُ اليوم ستكون عراقيةً...

سأخط تشكيلتها بنفسي...

مرحباً...مرحباً أيها الأحباء...

الهاتف يقرع مرتين... السماعةَ تفتح إذنيها.

اغنيةٌ كانت لشادية...

وحول مائدة الطعام لحنٌ آخر...

أم ُ كلثوم مفتاح ذكرياتنا...

ودجلة يجري في العروق...

القلبُ يرقص للبقاء كعادته...لكنه سراً يلهثُ للرحيل

لم ارَ رسماً لحقيبةِ فوق الرصيف...

لكنني ألمحُ فزع الغريب...وصهيلَ العاصفة...

زاهيةً كانت الأيامُ حقاً...

وفجأةً غابت الألوان...اللوحة انقلبت...

رحلَ الغريبُ وقلبهُ بين جَناحَيه

وداعاً ايها الطائرُ...وداعا أيها الصديق

برلين/ 19/اكتوبر/تشرين الأول/ 2021

مجيد القيسيي