مرتفعات وذرينغ: قراءةٌ في الجمالِ الخَشِنْ

مرتفعات وذرينغ: قراءةٌ في الجمالِ الخَشِنْ

هند عزت

لم تكتب “إميلي برونتي” طيلةَ حياتها غيرَ “مرتفعات وذرينج”، وأصبحت الرواية واحدة من أعمدة الأدب الإنجليزيِّ؛ لخوضها في أعماقِ النفسِ البشريَّة، من دون إسهابٍ في المثاليات؛ كالعديدِ من الروايات التي تصنعُ من أبطالها واجهة للخير فقط،

ورغم ذلك تركت في نفس كلِّ من قرأها غضةً مريرة، وشجناً يلازمانه كلما سمع، أو رأى غلاف رواية “مرتفعات وذرينج”، كما تعدُّ إحدى أهم الروايات العالمية؛ لاحتوائها على أعمق المشاعر الأنسانية وأكثرها تعقيداً، فلا تتخيل عزيزي القارئ أنك تستطيع تمييز الخير أو الشر بسهولة عندما تتعامل مع شخصيات الرواية، فهناك أنت ضائعٌ بين محبة الأبطال أو كراهيتهم، حتى “the villain” – شرير الرواية – تجدُّ نفسك دائماً ما بين الحنق، أو الشفقة عليه!

تقعُ أحداثُ الروايَةِ في الريف تحديداً في “مرتفعات وذرينج”، حيث تقطن فيها عائلتان فقط وهما عائلة “ايرنشو” و عائلة “لينتون”، وتبدأ القصة بتبني السيد “ايرنشو” لطفلٍ مشردٍ وجده أثناء رحلةِ عملٍ وحيداً بالشارع ومنحه اسم “هيثكليف”، يشابه اسم طفل العائلة المُتوفى، وتبدأ الصراعات بين أطفال السيد “ايرنشو” وهما “هاندلي” و “كاثرين” أو “كاتي”- كما أعتادوا أن يلقبوها- و بين الطفل الجديد “هيثكليف”؛ حتى تنضم “كاتي” إلى صفه؛ لتكونَ بدايةً لقصة حب جامحة، أطاحت بكلّ من أعترض سبيلهم، مهما كانت قرابته، فكانت شديدة الجمال والخشونة في الوقت ذاته، ومع وفاة السيد و السيدة “ايرنشو” زاد اضطهاد “هندلي” لـ “هيثكليف”؛ فكان يعتبره لصاً سلب قلبَ و حبَّ والدِه منه، فكان يحطُّ من قدره ويمنعه من التعلُّم مع “كاتي”، وتلقى “هيثكليف” كل هذا بصبر، ولطالما كانت “كاتي” معه، تلقنه ما تتعلم، حتى توطدت علاقة “كاتي” مع “ال لينتون” بالصدفة، ومن وقتها انقلبت الأحداث بتغيير علاقة “هيثكليف” و “كاتي”؛ التي وصلت إلى حد قبول “كاتي” الزواج من “ادجار لينتون” وعندما علم “هيثكليف” بهذا؛ خرج من المزرعة، ولم يعد إليها إلا بعد سنواتٍ.

ومن ثمَّ تم زواج “كاتي” و “ادجار” في هدوء، وعاشوا في مزرعة “آل لينتون”، ولكن انقلب الهدوء على عقبيه إبان عودة “هيثكليف” ورغبته في رؤية “كاتي”، والانتقام من “هندلي” و “ادجار” و بدأ “هيثكليف” في تحقيقِ انتقامه عندما سلبَ “هندلي” أمواله، وهرب مع “ايزابيللا لينتون” بعيداً عنِ المزرعة، وتزوجها رغم أنف “ادجار”، وبمرض “كاتي” و موتها دخل “هيثكليف” في نوبة اكتئاب؛ فكان يعيش على أمل اللحاق بها بعدما حقق أهدافه، وفقد الانتقام لذته فكان مجتمعاً تحت سقف واحد في نهاية المطاف مع “هيرتون” ابن “هندلي” الراحل، و”كاثرين لينتون” ابنة ” كاتي ايرنشو” الراحلة و”ادجار”، ولكنه لم يقوى علي القضاء عليهم والتنكيل بهم كما تمنى، وبالنهاية لحق بها كما تمنى، وانتهت “مرتفعات وذرينج ” بخطوبةِ “كاثرين ادجار” من “هيرتون ايرنشو” لتعود المرتفعات إلى سابق عهدها من السلام.

“إنها أعلى منهم مقاماً، و من أي أحد آخر على الأرض، أليس كذلك؟”، لطالما تساءلت عمَّا يعنيه “هيثكليف” عندما وصف “كاثرين” بتلقائية مفرطة للمربية “نيللي”، هل نستطيع وصف “هيثكليف” بالنرجسية بهذه البساطة؟ كلّما تعمق القارئ في أحداث الرواية يجد صعوبة في تحليل مشاعر شخصية “هيثكليف”، فهو مزيجٌ غريب بين المحب المتفاني، والمنتقم الذي لا يلين قلبه لأحد غير “كاتي”، وكأن “إميلي برونتي” تصفه هو بذاته عندما أسهبت في وصف طبيعة المرتفعات، وأراضي يوركشاير البور.

على غير المعتاد في تحليل الرواية تثيرني دائما شخصية “كاثرين ايرنشو” أو “كاتي” فأسعى في كل مرة أقرأ بها الرواية إلى فهم أبعاد شخصيتها، فبالرغم من طغيانِ شخصية “هيثكليف” على باقي الأبطال إلا أن “كاثرين” تستحق أن تُقرأ قراءة منفردة، فهي لم تكن الرفيقة المثالية بأي حال من الأحوال، حتى وإن شاب كلامي بعض القسوة.

في طفولة “كاتي” و “هيثكليف” كانا شديدي الالتصاق لدرجة أثارت أعصاب كل من في منزل “ايرنشو”، فكان من الغريب استطاعتها المكوث في منزل ” لنتون” طيلة خمسة أسابيع من دون رفيقها الذي كان أقصى عقاب يوقّع عليها بالأبتعاد عنه! و عندما عادت إلى المزرعة تعجبت من مظهر رفيقها بطريقة وقحة أمام “هندلي”، وهي أكثر الناس إدراكاً لكره “هندلي” له، ورغبتها الشديدة في إيذائه!

و لأول مرة يُدرك “هيثكليف” أن وسامته الخشنة لن تصمد أمام عيون “آل لينتون” الزرقاء وبشرتهم الفاتحة، كيف لكاثي أن تتنمر على رفيق روحها، ونصفها الآخر وهي لاتزال تتمتع ببراءة الطفولة؟ وحتى عندما كانت “كاتي” لاتزال رفيقةً مخلصة على حد قول “نيللي” المربية، ارتدت أجمل فساتينها وانتظرت “ادجار” و “ايزابيللا”، ووبخت “هيثكليف” و اتهمته بأنَّه لا يجيد التحدث وتسليتها وأن صُحبته ليست صُحبة على الأطلاق.

وفي نفس اليوم أخبرت “نيللي” أنها توافق على الزواج من “ادجار لنتون” لأنه حسن المظهر، وحلو المعشر، وسيكون ثرياً على حد وصفها، فأرادت أن تكون أعظم سيدة في المنطقة رغم إقرارها لنفسها ولنيللي أنها مخطئة بترك رفيق دربها “هيثكليف”.

كانت هذه نقطة النهاية إلى “هيثكليف” الذي سمع عن ما أفصحت به “كاتي” و بأن زواجها به سوف يحط من قدرها؛ فخرج عندئذ ولم يعد فكيف له أن يتحمل الانفصال عن “كاتي” التي بدونها؛ سيصبح بلا صديق في العالم على الأطلاق.

لم يشفع لها من وجهة نظري مرضها؛ فشعرتُ أن الإحساس بالذنب الذي اعتراها امتزج مع الدهشة، فكبرياؤها لم يتحمل فكرة ترك “هيثكليف” لها، فكيف لمن اعتادت خضوعه وتحمله لرغابتها، أن يتركها ببساطة هكذا بدون وداع!

و كم أشفقت على “هيثكليف” عندما عاد وكاد يحترق لرؤيتها مرة أخرى، وتعجبت من قوة مشاعره تجاه رفيقته الخائنة ولم أتعجب سلوكها تجاه زوجها الذي تحمل معها مرضها وجميع تقلباتها العنيفة، وتحمل ما ألمَّ به من تلك العلاقة في صبر ووفاء مطلق.

حتى “ايزابيلا” لم تنجو من الأذى عندما سارعت “كاتي” بإخبار “هيثكليف” أنها مغرمة به بادعاء براءة مريب وهي تعلم رغبة “هيثكليف” في الانتقام من “ادجار”؛ فعاقبت المسكينة التي تجرأت على حب ما هو ملك لـ “كاتي” التي لا تقبل نزاعاً على ممتلاكتها وبالأخص قلب “هيثكليف”.

لم يكن “هيثكليف” وحده الراغب في الانتقام في هذه الرواية، فدائماً ما شعرت برغبة “كاثرين” في الانتقام من الجميع لا لشيء إلا لأنانيتها المفرطة، والتي تسببت في معاناة كل من حولها وكأن الكون يدور لإرضاء رغباتها وكلما شعرت بمعارضة لإحدى طلباتها الحمقاء – كرغبتها على سبيل المثال في بقاء حبيبها السابق في بيت زوجها كلما رغبت في رؤيته- عادت إليها النوبات العنيفة التي تُركع الجميع خوفاً علي صحتها!

ولم ترغب في أن تّلقي اللوم علي نفسها في أي شيء، فعندما واجهتها “نيللي” بأنها السبب في هروب “هيثكليف” قاطعتها، بل قامت بلوم “ايزابيلا” على المعركة التي دارت بين “هيثكليف” و”ادجار” و عزّت ايضاً السبب إلى غيرة “ادجار” وأنانيته في إسقاط مباشر لكل ما قامت به، وقررت عقاب الجميع وكسر قلوبهم؛ عن طريق كسر قلبها على حد قولها إلى “نيللي” التي كانت أكثر شخص يعي شخصية “كاثرين” الأنانية فلم تمتثل للكثير من رغباتها الحمقاء، وحاولت حماية الجميع قدر إستطاعتها.

للأسف لم تكن نهاية “كاتي” نهاية لمتاعب الجميع فظل “هيثكليف” في حالة من الجنون استمرت حتى لحق بها وانتقم من “هندلي” و”ايزابيللا” وكل من له صلة بـ ” كاثرين ايرنشو” حتى ابنتها لم يشفع لها عيون “كاتي” التي ورثتها وكانت تذكره بها في كل لحظة.

أما “ادجار” انتابه الحزن حتى أخر يوم و في عمره ودفع ثمن اخلاصه لزوجته كما تحمل أيضاً انتقام “هيثكليف” من أخته “ايزابيلا” في صبر، وضرب مثلاً رائعاً للحب والإيثار، فكلما تأملت شخصيته وجدت أنه كان شخصاً متصالحاً مع نفسه، ويتسم بالوضوح عكس باقي شخصيات الرواية تقريباً.

ليس لصلة الدم علاقة بالطبائع فالأمر الذي يستدعي الإعجاب هو صمود “كاثرين” ابنه “كاتي” و “ادجار” -التي تم تسميتها تيمناً بأمها التي لاقت حتفها أثناء ولادتها – في وجه المصاعب، كأنها لم ترث من أمها سوى عينيها وباقي الخصال الحميدة تلقتها من والدها و”نيللي” التي قامت برعايتها منذ ولادتها، وكذلك “هيرتون” ابن “هندلي” الذي نال الانتقام من “هيثكليف” نيابة عن أبيه بعد وفاته، فلم يؤثر به كل ما تعمد “هيثكليف” أن يقوم به لإيذائه، وجعله عبداً خاصاً وفيّاً له، وكأنها إرادة السماء بأن يرى “هيثكليف” كل ما سعى لأجله يتحول إلى شيء بلا معنى على الاطلاق.

فكان المشهد الذي جمع بين “هيرتون” و”كاتي” عَذباً و رائعاً فهو كطبيعة “مرتفعات وذرينج”؛ عندما تكون في أحسن أحوالها الجوية، فرائحة الزهور الحلوة التي عبّقت الجو مع صوت “كاتي” العذب كرنين الجرس الفضي، له وقع مريح في نفس القارئ الذي عاش معاناة شاقة طيلة الرواية و كأن “إميلي برونتي” تطيب جروح القارئ في النهاية برفيقين يعدان غاية في البراءة و الوفاء.

هذا الدرس الذي تلقنه لنا “إميلي” بالطريقة الصعبة بعد أن عزفت سيمفونية من الحزن العذب المحبب للنفس رغم كل شيء، ففي عالم “مرتفعات وذرينج” لا تمل من القراءة، فكل المشاعر عميقة مختلطة باللون الرمادي وتترك لقلبك وحده الفصل، فلتطب روحك “إميل.

عن المصري اليوم