هكذا أدركت جسر بغداد وشوارعها في العشرينيات

هكذا أدركت جسر بغداد وشوارعها في العشرينيات

حسين جميل

في سنة دخولي الثانوية سنة 1923 استقال شقيقي الاكبر مكي جميل، الذي يكبرني بست سنوات، من سلك التعليم الابتدائي ليدخل طالبا في مدرسة الحقوق ويأتي فيسكن معي ايضا في دار عمنا عبد الجبار. كذلك فعل ابن عمي (عبد العزيز بن عبد الجبار جميل) الذي يكرني بثماني سنوات وهو شقيق علي حيدر. وهكذا سكنت في دار واحدة مجموعة من الشباب ربطتني بهم صلة وثيقة.وكنت اتطلع وبشوق واهتمما الى ما يدور على اسنتهم من احاديث.

كانت بغداد مدينة صغيرة، ولا ازال الحمل في ذاكرتي صورة لها وانا بعد ابن السادسة من العمر في1914ثم وانا على عتبة الشباب في سنة 1924 وما تلتها من سني الدراسة الثانوية. وكان من وسائل التسلية، عى قلتها انذاك، التجوال مع اقراني في اطراف المدينة والتنقل احيانا عبر النهر بواسطة الجسرالبدائي الوحيد بين “ الرصافة” و” الكرخ”، او التجول في اشارع العريض الوحيد في المدينة وكان يسمى” الجادة».

ولم تكن طرقات بغداد مرصوفة في ذلك الحين.. فما ان يسقط المطر في الشتاء حتى تفيض الازقة بالمياه وتصبح الاماكن المنخفضة بركا ويصبح تراب الدروب طينا. وعندئذ يتعذر على الناس في بعض الامكنة العبور من جهة الى اخرى فكان الحمالون يقفون على استعداد لحمل من يريد العبور على ظهورهم لقاء اجر زهيد. لم يكن هناك الا طريق واحد فقط مرصوف بالصخر، وهو الطريق المؤدي الى الجسر، والذي يسمى اليوم “ شارع المأمون” ولذلك كان يسمى “عكد الصخر” وهذا الطرق يؤدي الى الجسر الوحيد الذي شيد في موقعه بعد سنين الجسر المسمى اليوم جسر الشهداء. كان ذلك الجسر عائما على مايسمى “ باجساريات” اي حاملات الجسر، وهي عبارة عن سفائن صغيرة من الخشب بنيت لهذا اغرض. ومن اطرف ماكان يشاهده العابرون ثلاثة مقاهٍ صغيرة من خشب تقوم كل واحدة منها على سفينتين من حاملات الجسر، فأذا كان عبورهم من “الرصافة” الى “الكرخ” صارت المقاهي الى يسارهم وقد ارتفع عليها العلم العثماني مرفرفا بلونه الاحمر وفي وسطه الهلال والنجمة (وهو لايزال علم تركيا اليوم) فيتوقف في واحدة من ذهذ المقاهي من يريد الاستراحة ليحتسي فنجانا من القهوة او “ استكانا” من الشاي، او من “ الشاي حامض” الذي هو “نومي البصرة” المغلي.

كان الجسر يقطع من منتصفه برفع اجزاء منه لإتاحة الجال لمرور السفن، ويجري هذا القطع ضحى كل يوم في ساعة معينة ولمدة تكفي لذلك الغرض. فأذا وجد اناس الجسر مقطوعا تجمع اكثرهم عند رقبة الجسر انتظارا لفتحه للمرور، ولكن بعضهم لم يكن ينتظر و يعبر النهر اما بركوب قارب، ويسمى”بلم”،اويركبون قفة، ويرابط عدد منهما على جانبي النهر فيما يسمى بالشريعة، واجرة العبور زهيدة، وهي على زهدها اق في القفة منها في القارب، اذ ان راكب القفة يبقى واقفا لعدم وجود ما يجلس عليه، اما ركاب القارب فيجلسون.

وبعد احتلال بغداد ن قبل اجيش البريطاني في الحرب العالمية الاولى شيد جسر ثان عى دجلة في العاصمة باسم “جسر مود” عى الجنرال “مود” الذي فتح بغداد، وكان موقعه في مكان جسر “ لاحرار” اليوم. كان ذلك الجسر الجديد يعوم على حمالات ايضا كنه يختلف عن الجسر العثماني القدم “فجسارياته” من الحديد.

لم تكن في بغداد في أواخر العهد العثماني سوى دار سينما واحدة،وكانت تقع فيما يسمى اليوم بشارع المستنصر. وعندما أخذت “مدرسة السلطاني” تلامذتها لمشاهدة احد الأفلام في تلك السينما، وكان من بينهم أخي مكي و إبن عمي عبد العزيز، صنع الأهل لهما “ كليجة “ أخذاها معهما ليأكلاها إذا جاعا هناك، كما يأخذ المسافر “متاعاً “ أو زاداً معه في سفره وفي أول عهد الإحتلال البريطاني كانت توجد في بغداد دار سينما إسمها “سينما أولمبيا “ أقيمت في الحديقة التي كانت تدعى في العهد العثماني “ملت بقيحة سي” قرب” جسر السنك “اليوم ,

ولم يكن في بغداد شارع عريض حتى سنة 1916 , وفي تلك السنة فتح الوالي خليل باشا،عم أنور باشا وزير الحربية،أول جادة إخترقت بغداد من شمالها عند “باب المعظم “ إلى جنوبها عند “الباب الشرقي “ فأسماها “خليل باشا جادة سي “ , وكان هذا الأسم مخطوطاً على رقعة من المزجج الأزرق معلقة في مدخل شريعة جامع سيد سطان علي،وتظهر عليها الكتابة باللون الأبيض،وظلت معلقة هنك سنين عديدة ,وتللك الجادة هي التي تطورت فيما بعد واصبحت تعرف باسم شارع الرشيد , ويقال (ان القطعة الخزفية مزلت موجودة،مثبتة في جدار أحد مباني شارع الرشيد).

و”باب المعظم” اسم لا يزال يعرفه الناس ويعرفون موقعه مع إنهم لا يرون أثرا لباب. ولكن الباب كان موجودا الى سنة 1925. وهو احد أبواب سور بغداد العباسي. وكان مكانه حيث شيدت بعدئذ “قاعة الملك فيصل الثاني” واتي سميت بعد ثورة 14 تموز 1958 “قاعة الشعب”. وكان ذلك الباب ضخما وهو في بناية من طابقين فيها غرفة او غرفتان في الطابق الأرضي ومثلهما في الطابق الأول، وكان الناس يمرون من داخل هذه البناية للعبور شمالا الى “ الاعظمية” او جنتوبا نحو “ محلة الميدان”؛ وكان سور بغداد العباسي متصلا ببناية هذه الباب، ثم هدم جزء من السور لإحداث فتحة فيه تربط شارع الرشيد بالطريق المؤدي الى “الثكنة الشمالية” و “الاعظمية».

ولم يكن في بغداد تنوير كهربائي حتى احتلالها من قبل الانكليز، فكانت الطرقات تضاء قبل ذلك بمصابيح نفطية، وهي على شكل صندوق زجاجي مستطيل يدق في الجدران، وفيه باب يفتح وفي داخله مصباح نفطي. وفي عصر كل يوم يبدأ مستخدمو البلدية بالمرور على هذه المصابيح يحمل كل واحد منهم سلما خشبيا فيركنه على الجدار بجوار المصباح،ويتسلقه ليفتح باب القفص الزجاجي فينظف زجاجة المصباح التي تسمى “لمبة” ولعلها تعريب كلمة «lamp الانكليزية، ثم يملا الخزان بالنفط ويولع الفتيل ويغلق الباب. وهكذا ينزل لينتقل من مصباح الى آخر. وما ان ينبلج الفجر حتى يعود هؤلاء المستخدمون مع سلالمهم لإطفاء المصابيح. فلما دخلت الكهرباء الى بغداد لأول مرة مع الاحتلال البريطاني كان الأولاد يخرجون الى الجادة عند الغروب لمشاهدة ذلك المنظر الفريد حيث تنار المصابيح الكهربائية فجأة كلها معا برمشة عين من أول الشارع الى آخره.

كانت رقعة مدينة بغداد صغيرة حتى سنة 1930. فقد كانت تمتد في جانب “ الرصافة” من “ باب المعظم” شمالا الى “ الباب الشرقي” جنوبا. وكان يوجد، فيما يسمى ساحة التحرير اليوم، احد أبواب سور بغداد العباسي وهو “باب كلواذي” وقد اتخذته السلطات البريطانية كنيسة انجيلية. وفي الموقع الذي تقوم فيه “ حديقة الأمة” اليوم كان هناك خندق يحيط بسور بغداد، وكانت امانة العاصمة ترمي فيه الفضلات التي تجمعها سياراتها من أحياء بغداد. اما رقعة بغداد من الشرق فكانت تبدأ مما يسمى اليوم “شارع الشيخ عمر” الى نهر دجلة غربا. واما رقعتها في جانب “ الكرخ” فكانت من “ محلة الجعيفر” شمالا الى “ الصالحية” عند “جسر الأحرار” جنوبا، ومن نهر دجلة شرقا الى “ الشيخ عمر” غربا. وفيما عدى هذه الرقعة فهي ارض فضاء باتجاه “الكاظمية” و “ كرادة مريم” في جانب “ الكرخ».

وكان من الأفضل لو تركت مدينة بغداد كما كانت عليه عند الاحتلال البريطاني (1917) وبنيت في خارج سورها ورقعتها مدينة جديدة لمواجهة زيادة السكان وحاجات التطور في العراق. ولو عمل بذلك لكان قد تم الإبقاء على بعض الآثار التي تخلفت عن العصر العباسي، ومنها أجزاء من السور التي هدمت كما هدم البابان فيه (باب المعظم وباب كلواذي) ولحوفظ على شكل بغداد وطابعها الذي كانت قد آلت اليه حتى آخر العهد العثماني.

عن كتاب (العراق شهادة سياسية)