حركةُ نقد الشعر في الموصل منطلقاتُها واتجاهاتُها

حركةُ نقد الشعر في الموصل منطلقاتُها واتجاهاتُها

عبد الحق فاضل

د. عبد الرضا علي

المناقشات:

ونعني بها المقالاتِ النقديةَ التي خُصّصت لمناقشة كتبٍ، أو دراساتٍ تناولت شعر شاعر، أو تجربته، أو سيرته الأدبية بالنقد والتقويم، وهي ما يمكن وصفها أحياناً بـ ((نقد النقد))، ولعلّ ما كتبه ((عبد الحق فاضل)) في كتاب ((طه حسين.. مع المتنبي))

خير ما يمثل هذا اللون فقد لاحظ (عبد الحق فاضل) في كتاب طه حسين ((مع المتنبي)) على وفق ما يقول: ((كثيراً من الخلط الفني … وكثيراً من التلاعب بالحقائق، والاستهتار بمدلولات الألفاظ، مما يدلُّ على حذقٍ موهوب، ومقدرة فائقة)). كما وجد ((غير قليل من التحامل على المتنبي، ومحاولة هدمهِ في رفقٍ وبراعة وانسجام))، فكان أنْ سجّل ملاحِظةُ تلك التي كونت كتاباً في نقدِ كتاب طه حسين نقداً منهجياً لا يخلو من قسوةٍ، أو شدّةٍ في الطرح.

أما أهم المآخذ التي رآها حريةً بالنقدِ فتتلخصُ بالتالي:

1 ـ إنَّ كتاب طه حسين لم يكن كتاباً علمياً بقدرِ ما كان كتاباً اصطنعهُ طلباً للراحة، وإيثاراً للفراغ الذي يخلو فيه إلى نفسه.

2 ـ إنَّ المؤلفَ لم يرجعْ فيهِ إلى المصادر الكثيرة التي يركنُ إلى صحتِها وسدادها ((التي ألَّفها في المتنبي المتقدمون، والمتأخرون، والمستشرقون، والشرقيِّون، ولا رجع فيه إلى شيءٍ من كتبِ التاريخِ، ولا أحتاج حتى إلى هذه الشروحِ التي كتبها القدماءُ والمحدثون يفسرون بها شعره، ويعللونه، وإنَّما اكتفى بديوان المتنبي … وبأيسر طبعةٍ من طبعاتهِ)).

3 ـ لم يستعنْ كذلك بالمراجع التي يستعينُ بها من يتوخَّى الحقيقة.

4 ـ أطنبَ كثيراً، وتوسَّعَ في أماكن ما كان عليه أن يطيلَ فيها، فضلاً عمّا في كتابه من استطرادات، وما فيه من استدراكات، وجمل اعتراضية.

5 ـ إنَّ المؤلفَ سعى للنيلِ من شعرِ المتنبي الذي كان يتكلف نظمهُ تكلفاً حين تدعوهُ المناسباتُ وضروراتُ الحياةِ، تاركاً شعرَه الذي يبرأُ من العيوب البلاغية والبيانية، ويسمو إلى الذروة من الفنِّ والجمال، والعمق في التفكير والسداد جانباً.

6 ـ إنه حاول ما استطاع أنْ يأتيَ بكل طريفٍ جديد من أخبار المتنبي وأشعاره، لا لشيء إلا لكي يفنِّدَ هذه الأخبار، ويضحك من إعجاب الناس بتلك الأشعار.

7 ـ إنَّ طريقة المؤلفِ طريقةٌ وعرة، خطرة الوعورة، ملتوية شديدة الالتواء، لكثرة ما فيها من مغالطات.

8 ـ إنَّ المؤلف لا يمهد للأفكار، ولا يقررها حيث ينبغي تقريرها من سياق الموضوع، ولكنه يوزعها في كل مقالة، ويشيعها في أثنائه من أوله إلى آخره.

9 ـ إنّ طريقة المؤلف في إيراد الشكِّ ليست للوصول إلى اليقين، بقدر ما هي طريقة للالتواءِ ((ليقررَ ما يشاءُ، ويخترعَ ما يشاءُ ووسيلته إلى هذا التكرار الذي يحذقهُ، والسحر الذي ينفثه فيعيد عليك ما يروم في صيغٍ جذابةٍ متنوعةٍ، وأنغامٍ لذيذةٍ مختلفة تلذُّ الأذنَ، وتطرب النفس، وتخدع البصر، وأعني البصيرة، فيطبع في ذهنك بالإيحاء ما أرادَ من غير أن تريدَ أو تشعرَ، وبذلك يفرضُ عليك رأيه فرضاً وأنت تحسبُه إنّما يعرضُهُ عرضا)).

10 ـ ((وإذا أراد المؤلف أن ينقض رأياً عمد أحياناً إلى أوهى الأدلة، وأضعفِها عن الدفاع عنه، فيدنو منه في حيطةٍ ورفق … ثم يضربهُ ضربةً كافرةً يطيرُ لها قلبَ الأدلة الشجاعة)).

11 ـ إنَّ المؤلف قد تمحَّلَ كثيراً في نسب المتنبي، وهذا ينافي الدراسة العلمية التي تبتعدُ عن التمحُّلِ، لذلك يحاجج آراءه محاججةً دقيقةً في شكهِ في نسبهِ، وأمهِ وأبيه.

12 ـ إنَّ طه حسين يعجب بأبيات للمتنبي يراها من أروع ما قال من الشعر، في حين ليست هي في رأيه من الأبيات التي تقبل في إعجاب ((لا حدّ له)) ولا هي من ((أروع)) ما قال من الشعر، ثم يورد تلك الأبيات التي يمدح فيها أبا العشائر ليبين بعد ذلك أن بعضَ الناس قد لا يقبلها في شيء من الاعجاب، سواء أكان ذلك كثيراً، أم قليلاً، وإنْ لم تكنْ من أسوأ شعرهِ.

وعلى وفق هذا يقفُ مناقشاً تحليل المؤلِّفِ لبعض شعر المتنبي، لاسيَّما ما يخصُّ تغرُّبَهُ:

تغرّبَ لا مستعظماً غيرَ نفسهِ ولا قابلاً إلا لخالِقهِ حُكما

ورثاءه لجدته:

ولو لم تكوني بنتَ أكرمِ والدٍ لكان أباكِ الضخمَ كونُكِ لي أُمَّا

وفخره:

وانِّي لمن قومٍ كأنَّ نفوسَهم بها أنَفٌ أن تسكُنَ اللحمَ والعظْما

وقوله:

لا بقومي شرفتُ بل شرفوا بي وبنفـسي فخرتُ لا بجدودي

وبهمْ فخرُ كلِّ من نطقَ الضا دَ وعوْذُ الجاني وغوتُ الطريدِ

فيخالفهُ فيما ذهبَ إليه من زعمٍ في نسبِ المتنبي ومعرفتهِ لامّهِ وأبيهِ، مخالفةً فيها شدّةٌ وقسوةٌ في المناقشةِ إلى حدِّ السخريةِ والاستهجان.

تلك كانت أهمَّ الملاحظِ النقدية التي وجهها عبدُ الحقِّ فاضل إلى مؤلف طه حسين ((مع المتنبي)) وواضحٌ أنَّ تلك الملاحظ كانت تصدرُ عن رؤيةٍ نقديةٍ تمتلك مسوغاتِ الإعلان عنها منهجياً، فملحظُ الإحاطةِ بمصادرِ الموضوع الواحد، واستقراء جميعِ الدراساتِ التي تناولتهُ شرطٌ أساس في منهجِ البحثِ الأدبيِّ اليوم، كما أنَّ انتقاءَ الأمثلةِ بما يناسبُ الموقفَ الذي يسعى إليه الباحث سلفاً، ويترك ما عداها لكونها تتقاطع مع موقفهِ يبعدُ الباحث عن العلميَّةِ، ويفرغ بحثه من الموضوعية، وبذلك يصبح البحثُ مجردّاً من الحيدة. وهو شرطٌ آخر من شروط الناقد، أو الباحث العلمي.

أما اتخاذُ طرقِ الالتواءِ في العرض، وإيراد أوهى الأدلة، وترك ما سواها، والإسراف في التمَحُّلِ في محاججةِ الآراء، فلعلها أيضاً تنضوي تحت شرطِ الموضوعيةِ في النقدِ.

إن مثلَ هذه الملاحظِ النقديةِّ التي يأخذها ناقدٌ شاب على أحدِ عمالقةِ الأدب العربيِّ تعدُّ ملاحظَ نقديةً كبيرة آنذاك، تستحقُّ الإشادة، أو التنويه، وأنْ تقاطعنا معها في بعضِ مواقفها رأياً، لأنَّها تدلُّ على ملكة نقديةٍ ناضجة ٍ، واتجاهٍ حصيف.

نقدُ النصِّ:

كثيراً ما يتصدى الدارسون لنصوصٍ شعريةٍ، أو دواوينَ محققةٍ، أو حديثةٍ بالمراجعة والتقويم، أو بالعرض والتحيّة، فيثيرون جملةً من الملاحظ النقدية التي تفيد أطراف العمليّة النقدية من جانب، وتؤكد حضور المنطلقات الناقدة للكتّاب من جانبٍ ثانٍ، فعبد الحقِّ فاضل لم يكتفِ بنقدِ النقد، إنَّما كان يسهم في نقد النصوصِ الشعرية، وتوصيف شاعر العصر الراهن موقفاً، وأسلوباً.

ففي مقالتهِ النقديَّةِ ((شاعر عراقي)) وقف عند موقفِ الشاعر أحمد الصافي النجفيّ من المغرياتِ التي أحاطت به، فأثنى على إبائه، وبقائه نظيفاً لا يتقبَلُ منّةَ أحد، ولا يدينُ بمعروفٍ لمخلوق ((وفضله مع هذا على العراق كثيرٌ بما أضافه إلى ثروته الأدبية من شعره المبتكر المطبوع، ومنَّتهِ عليه كبيرة بما أضفاه على سمعة العراق من سمعتهِ في الشعر والكرامةِ والإباء)).