حوادث تاريخية أمام الطب العدلي من شهادات أشهر أطباء الطب العدلي

حوادث تاريخية أمام الطب العدلي من شهادات أشهر أطباء الطب العدلي

د. اكرم عبد الرزاق المشهداني

يعد الطب العدلي في العراق من أقدم أجهزة الطب الشرعي في الوطن العربي والمنطقة وكان وما زال لخبرائه وأطبائه المرموقين دور بارز في إسناد أجهزة العدالة وكشف غموض الحوادث وتقديم الخبرة والمشورة الطبية الجنائية ونذكر منهم بالإجلال والاحترام المرحوم الدكتور حنا خياط والمرحوم الدكتور أحمد عزت القيسي والمرحوم الدكتور وصفي محمد،

والمرحوم الدكتور خالد عبدالرحمن الزبيدي والصديق العزيز الدكتور فائق منير بكر ومن جاء بعدهم من الأطباء العدليين العراقيين. وقد كان (معهد الطب العدلي) في العراق عند تأسيسه أوائل العشرينات مرتبطا بمديرية الشرطة العامة في وزارة الداخلية، وبعد سنوات تم ربطه بوزارة العدل، بعدها تم ربطه بوزارة الصحة.

الطب العدلي ومصرع الملك غازي:

يروي الدكتور جلال حمدي فيقول: (تخرجت من الكلية الطبية وكنت يومها خفراً في المستشفى الملكي، وحوالي الساعة (12) ليلا استلمت مخابرة من الاستاذ صائب شوكت وكان مديراً للمستشفى طالبا مني وبسرعة تحضير ادوية ذكرها لي، وذلك لحادث خطر حصل للملك وهو بسيارته، وجاءت سيارة ملكية تنقلني بسرعة شديدة للقصر الملكي، وفي طريقي رأيت الحادث والسيارة وهي مرتطمة بعمود من الكهرباء معوج. فلما وصلت الى القصر واجهتني والدته وهي تبكي بحرقة قائلة “اسرع فان اخاك مصاب”، فلما رايته قبل قدوم باقي الاطباء كان فاقداً الوعي ورأسه مُدمى، وفيه كسر في مقدمة الرأس، وحالته خطرة او ميئوس منها.. وعند ذلك حضر كل من الدكتور صائب شوكت والدكتور سندرسن والدكتور ابراهام. وعند الفحص الكامل قرّروا ان الحالة ميئوس منها، وفعلا توفي بعد مدة قصيرة. فانتقلوا الى غرفة جلوس الملك واخذ سندرسن ورقة وكتب تقريرا ليذاع على الشعب، وكان كما يلي:

((ننعي بمزيد من الأسى والاسف وفاة صاحب الجلالة على اثر اصطدامه بعمود كهرباء)). وقد كتبه طبعا بالإنكليزية وطلب مني ترجمته فلما انتهيت من ترجمته قلت لسندرسن: لا يصح ان ننشر هذا التقرير من قبلنا بل من قبل الحكومة، ويجب ان يكون تقريرنا وصف حالة الملك عند رؤيتنا له ووصف حالة الكسر وسبب الوفاة.. ولكن الدكتور سندرسن رفض واصر على التقرير الذي كتبه.. وكان في وقتها طبيبا حديث التخرج، واصر على ذلك الدكتور / صائب شوكت، وفعلا وضع التقرير من قبلهم. وفي صباح اليوم التالي اعترض على هذا التقرير كثير من الاطباء وكذلك رئيس شعبة الطب العدلي، وفعلا تم نقل جثة الملك من القصر الى البلاط وفحصت اللجنة الطبية مضافا اليها الدكتور / احمد عزت القيسي والدكتور/ صبيح الوهبي، واعيد الفحص عليه من قبل هذه اللجنة ووضع تقريرا اصولياً عن الحادث.

ويضيف الدكتور جلال حمدي:

(يعتقد جميع العراقيين تقريباً ان الملك غازي قد قتل، ولكن للتاريخ نقول ان حادثة الاصطدام كانت قضاءً وقدراً، رغم ان الملك كان مكروها من قبل الانكليز وحتى والدته كانت تعتقد يقيناً أن الحادثة دبرت من قبل الانكليز، وتاكد لي ذلك عند دخول الدكتور سندرسن بصحبته الى الغرفة التي كان نساء القصر فيها ينوي معالجة من يحتاج للعلاج منهن فكانت والدته تصرخ وتقول ان لا يقترب منهن، بل يبقى جلال معهم فقط حتى الصباح. وفعلا شعر الدكتور سندرسن بذلك وترك القصر. وفعلا بقيت معهم حتى صباح اليوم التالي ثم ذهبت الى المستشفى الملكي لأداء اشغالي المعتادة).

ويواصل الدكتور جلال حمدي حديثه فيقول:

((اما ما قراناه في الجرائد بعد الحادث وما صرح به المؤرخون فلا صحة له (حسب اعتقاده) وكان الملك منذ حدوث الحادثة وحتى وفاته فاقد الوعي ولم يتكلم بأية كلمة قطعا، وللمرة الثانية اقول ان حادثة موت الملك كانت قضاءً وقدرا ولو انه كان غير محبوب او مقبول من قبل الانكليز ولراحة ضميري اذكر ذلك. وعلى كل حال فان مقتل الملك غازي رحمه الله بقي موضع خلاف وجدل بين كل العراقيين والعرب والغالبية تعتقد أنه كان قضاء وقدرا.

الطب العدلي ومصرع العائلة المالكة 14 تموز 1958

تذكر المصادر ان جثث كل من الملك فيصل الثاني والامير عبدالاله ومن قتل معهما في الهجوم على قصر الرحاب ارسلت حسب القانون الى معهد الطب العدلي للفحص، وكالطريقة المتبعة في ارسال المجنى عليهم في الحوادث الجنائية الى الطب العدلي للفحص وتقرير سبب الوفاة، وقيل ان الزعيم الركن عبدالكريم قاسم انتقل من مقره بوزارة الدفاع الى بناية الطب العدلي القريبة من الدفاع ليتاكد من وصول الجثث ونتيجة الفحص وللتاكد من وفاة الملك الشاب وولي العهد، وحين تاكد من ذلك خرج عائدا للدفاع وكانت الناس قد تجمهرت عند بناية الطب العدلي لتحيته.

يذكر الدكتور وصفي محمد علي أشهر أطباء معهد الطب العدلي في بغداد:

لقد عاصرت في حياتي احداث كثيرة منها مقتل الملك غازي واقول بايجاز ان بعض وقائع القتل التي اسميها بالقتل السياسي ان صح التعبير كانت لا ترسل الى هذا المعهد من قبل السلطة القضائية للفحص اسوة بغيره وهو ما حدث لجثة الملك غازي وكذلك بالنسبة لجثة رستم حيدر وزير المالية الاسبق، وكان يحصل بعض الضغط على القائمين بأعمال المعهد في مثل هذه الوقائع كما حدث في الوقائع التي ارسلت الينا اثر الانتفاضة الشعبية على معاهدة بورتسموث في سنة 1948 حيث حضر قاضي التحقيق وكنت انا والدكتور جهاد شاهين كمساعد لي نقوم بفحص جثث الشهداء وقد استفسر مني عن السلاح الناري المستعمل فأجبته بعثورنا على مقذوفات نارية مطلقة ببندقية حربية من عيار 303 اي من نوع الاسلحة الاميركية، فعاد ثانية الى المعهد طالبا مني عدم ذكرها في التقرير، فرفضت ذلك، واوضحت له واقول هذا من باب ذكر الواقع لا التبجح، والله على ما اقول شهيد فانصرف، ثم اتصل بي رئيس ديوان مجلس الوزراء طالبا نفس الامر، فرفضت، واخيرا كلمني وكيل رئيس الوزراء وقتذاك بلهجة غير مستساغة، قائلا ان ذكر ذلك سيحرج موقف الحكومة فأجبته باننا كأطباء عدليين نذكر الحقيقة التي نشاهدها باعيننا!!، وبعد الحاح مستمر يشوبه التهديد اجبته باننا نذكر الحقيقة.

وحادثة اخرى حصلت لي في سجن الكوت عندما انتدبت لفحص سجين قتيل اختلف على نوع الالة التي ادت الى وفاته وهل هي اطلاقة من سلاح حربي ام انفجار قنبلة محلية من نوع مولوتوف قام بصنعها بعض السجناء وقد اتضح لي ان الموت كان بسبب مقذوف من بندقية حربية.

عن بحث (مسيرة الطب العدلي وروّاده في العراقودوره في كشف الجريمة)