صباح راهي العبود
عندما إنضم الى قسم التمثيل في معهد الفنون الجميلة ببغداد لم يدرفي خلده ولا في أحلامه يوماً أنه سيصبح موسيقاراً بارعاً وملحناً رقيقاً يشنف أسماع الناس بصوته الدافئ وعزفه الجميل وألحانه الشجية على الرغم مما يملكه من عشق فطري للموسيقى , لكن إختياره ضمن باقة المنشدين في فرقة الموشحات في دار الإذاعة العراقية والتي تحولت الى فرقة إنشاد (الأولى) هي التي فتحت أمامه الطريق الى فن التلحين والعزف.
تلك الفرقة التي أسسها وقادها الفنان روحي الخماش القادم من الأراضي المحتلة في فلسطين عام 1948,وكان يساعده في هذا الشأن الفنان السوري عازف الناي علي درويش القادم من حلب وهو شيخ كبير السن (80عام) ,وكانت فرقة المنشدين هذه تضم فنانين شباب هم إضافة الى رضا علي كل من (أحمد الخليل , ناظم الغزالي , محمد كريم , يحيى حمدي , جميل سليم , خالدة عبد الرحمن). وكان لمرافقة هؤلاء النخبة الفنية الى جانب العازفين في الجوق الموسيقي التابع للإذاعة العراقية الذي أسسه وقاده صالح الكويتي عام 1935, الى جانب قدراته الذاتية وشغفه بالموسيقى ومعايشته لزملائه في قسم الموسيقى في المعهد,دافعاً لرضا علي لتعلم أصول العزف على ألة العود وبوازع ذاتي. ولقد تمكنت فرقة الإنشاد من تسجيل الكثير من الموشحات والأغاني التي كان أغلبها من ألحان صالح الكويتي وأخيه داود قبل إجبارهما على الهجرة الى فلسطين المحتلة مطلع خمسينات القرن الماضي.
قبل الخوض فيما أنجزه رضا علي من ألحان بغدادية عذبة لابد من التحدث قليلاً عن نشأته وبداياته. فهو رضا إبن علي عبد الرحمن النقاش ,من عائلة كردية فيلية دينية متزمتة. نزحت من إيران نتيجة لما كانت تلاقيه من ظلم وقهر وجوع لتسكن في جانب الكرخ ببغداد وتحديداً في منطقة الكريمات بالشواكة. وهنا ولد رضا علي عام 1929 ,أكمل دراسته الإبتدائية ثم المتوسطة في مدارسها ثم تقدم للإنتماء الى معهد الفنون الجميلة فتم قبوله في قسم الإخراج والتمثيل ليتخرج منه عام 1948,وهذا يعني أنه لم يدرس الموسيقى أكاديمياً على الرغم من ولعه بها ومحاولاته لتعلم العزف ذاتياًعلى العود الذي كان يملكه والذي حطمه والده على رأسه لأن والده يعد ممارسة الموسيقى من الموبقات ومؤشرات السقوط الأخلاقي التي لا يجوز الخوض فيها البتة. ومع كل هذا واصل رضا علي العزف والتدرب وتطويرقابليته في هذا الصدد الى أن غدا من أبرز رواد الموسيقى العراقية الحديثة في خمسينات وستينات القرن المنصرم وبتميز واضح.
بعد تخرجه من معهد الفنون الجميلة عيًن معلماً للنشيد في المدرسة الجعفرية الإبتدائية في بغداد ,وهناك أخذ يلحن الأناشيد المدرسية والموشحات. في هذه الأثناء كان شغوفاً بسماع أغاني محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وأم كلثوم وغيرهم من عمالقة الفن والغناء ذلك الزمان, ومغرماً بمتابعة الأفلام التي يشاركون في تمثيلها ليوفرمن خلال ذلك فرصة سماع أغاني هؤلاء الفنانين.وحرص على سماع المقامات العراقية ودرسها عن كثب إذ يعدها رافداً أصيلاً ومنبعاً لكل الألوان الغنائية العراقية الأصيلة, وإن الإلتزام بها واحترام أصولها يعطي للأغنية العراقية نكهتها الفواحة الطيبة وتميزها عن غيرها من الأغاني العربية.
بدأ رضا علي مشواره الفني بتلحين أغنية (حبك حيرني) ,ثم أغنية (ذكريات) التي كتبها زكي جابر ,ثم أغنية (مالي عتب وياك). وكغيره من ملحني تلك الفترة كان يغني الأغنية التي يلحنها قبل أن يعطيها لمطرب غيره إذ كان التنافس شديداً بين ملحني تلك الفترة وهم أحمد الخليل وناظم نعيم وعباس جميل وغانم حداد ووديع خنده وعلاء كامل وغيرهم ,وقد نجح رضا علي في تأدية ألحانه لما يملكه من صوت بغدادي دافئ حنين وذي شجن جعل مطربو تلك الفترة يتزاحمون للحصول على لحن من ألحانه وأولهم المطربة المصرية(من أصول سورية) نرجس شوقي التي كانت تعمل في ملاهي بغداد والتي بدأت مشوارها مع رضا علي بأغنيتها الشهيرة (شدعي عليك ياللي حركت كلبي) وهي من إيقاع الجورجينا العراقي الشجي.
ثم توالت الألحان وانتشرت الأغاني التي لحنها رضا لنفسه والتي بلغت (70) لحناً, ومئات الألحان التي غناها مطربون عراقيون وعرب من الأردن وسوريا ولبنان ومصر. فمن ضمن الأغاني التي أداها بنفسه:-
تدري شكد أحبك , الردته سويته , جيرانكم يهل الدار, تعالي ياحنينه , حك العرفتونه وعرفناكم , عله الميعاد إجيتك , سلملنه يريح الهاب, يا ورد الورود ياورد , ليله من العمر , يدرون لو ما يدرون , مركب هوانه ,الله من هجرانكم , محلا وادينه إو جماله (أبريت مشترك مع المطربة وفاء) , موشح ياهاجري , يحق لك , جاني عتب وياك , غنو يا أطيار , يا صايد كلبي , نيران إلك بالكلب , آني بهوه الحلوين , يا صايم , هاك الروح خلهه تروح , وعيونك ما بدلك , داده دسمعي داده , عذبني كما شئت (قصيدة نزار قباني) , الله وياك روح إتمهل بحبك...... الخ
أما أغنية (سمر سمر) التي بثت من إذاعة بغداد ثم سجلت على إسطوانات من قبل شركة جقماقجي عام 1953 فقد رفعت رضا علي الى مجده الغنائي الذي لم يحلم به يوماً, وفي وقت مبكر من حياته الفنية , ولتصبح أغنية الجماهيرعلى مدى سنين عدة وبدون منافس, وإنتشرت ونالت شهرة غير مسبوقة لأي أغنية أخرى زمنذاك لتصبح أغنية العائلة العراقية على إمتداد البلاد فأخذ يرددها الصغار والكبار في أعيادهم واحتفالاتهم وسفراتهم ومناسباتهم السعيدة لما تمتلكه هذه الأغنية من بساطة الكلمات ووضوح معانيها وسهولة اللحن وعذوبته الذي ينسجم مع أذن السامع العراقي. ومن دلائل محبة الناس لهذه الأغنية هوأن مراكز تسجيل المواليد سجلت عام 1953 اسم (سمر وسمره وسميرة) لكثير من المواليد الجدد من الإناث. ثم إمتدت شهرتها الى الى الدول العربية المجاورة.
من جهة أخرى ونظراً للنجاح الكبير الذي حظيت به أغنيتها (شدعي عليك) إندفعت نرجس شوقي لتغني المزيد من ألحان رضا علي:- هاي خدود يو لاله, يا بوسطجي , أنا بيا حال وانت تلوم بيه , اللوم , يا قاضي الغرام , سلم عليً ويهواني, يا أعز الناس , يا حلو , داده دسمعي داده.... وعندما سُئل رضا علي عن سر نجاح نرجس شوقي في تأدية أغاني باللهجة العراقية الصعبة وهي مصرية أصلاً , كان رده أن نرجس شوقي عاشت في بغداد وملاهيها منذ عام 1947 قبل أن تبدأ بتأدية أغاني باللهجة العراقية ,فكانت تلك الفترة كافية لها لتتعلم تلك اللهجة ولم يكن الأمر صعباً عليها.
أما المطربة اللبنانية نهاوند والتي كانت تغني في ملاهي بغداد آنذاك فقد غنت من ألحان رضا علي أغان عدة منها (أين ياليل صباباتي وأحلامي وكأسي , إتدلل عليً إتدلل , وين ألكه الحبيًب وين ألكاه , وين سكة الحبيب , يبا يابه شلون عيون عندك يابه .ولأغنية (شلون عيون) قصة ملخصها أن نهاوند وقعت بحب شاب طويل وسيم أنيق بغرة بيضاء, واسع العينين بشكل مثير إسمه (س....) كان يحرص على الحضورالى الملهى الذي تعمل فيه نهاوند في كل ليلة خميس على جمعة قاطعاً مسافة 150 كم ليصل بغداد. وتتويجاً لهذا العشق طلبت نهاوند من شاعر الأغاني الشهير (سيف الدين ولائي) أن يكتب لها أغنية تتغزل بالحبيب وعينيه القاتلتين, ثم قدمته لرضا علي ليضع له لحنا , فكانت أغنية يبا يابه الرائعة والتي فاجئت بها حبيبها الذي يراقبها من صومعته في الملهى لتلهب به قلبه العاشق وتحرقه وتزيده ضراماً
أما المطربة السورية راوية فقد غنت هي الأخرى عدة أغاني من تلحين رضا علي طيلة فترة عملها في بغداد ,من هذه الأغاني:- كلب كلب , جايبلي خبر , بلوني بلوني , مريت على باب الدار , صل عالنبي , بعت روحي , تدري بالكلب تدري , أدير العين ما عندي حبايب , ميكفي دمع العين يابويه.
من أشهر المطربات العراقيات اللواتي غنين من ألحان رضا علي هن زهور حسين (إشبيك يكلبي , تفرحون أفرحلكم , نجي لحدج , يابنت البلد غنتها في فلم ورده عام 1957). أحلام وهبي غنت له (إيه لو لا , أريد أشوف الحب , إنت زعلت....). وحيدة خليل (وين ألكه الولف). سهام محمد (ألله من عين الناس). صاحب شراد (عجيبه يحلو والله عجيبه). عفيفة إسكندر (كلب كلب, جاييني بخبر , مريت على بيت الدار, صل عالنبي , أغار من الهوى , بعت روحي , تدري بالكلب تدري , قيل لي قد تبدلا ,يا غريب إذكر هلك). مائدة نزهت (حمد يحمود , حرام , مر يا أسمر, بيا عين جيتو تشوفوني , إنتظار , وجه حبيبي , يناري , يكولولي توب.....).كما غنى من ألحانه داود العاني , عبد الجبار الدراجي , فرج وهاب , لميعة توفيق , ياس خضر , وفاء بغدادي , قحطان العطار , أمل خضير , سعدي توفيق , فؤاد سالم ..... وآخرون كثرمن العراقيين والعرب رددوا وكرروا أغانيه وألحانه.
عندما إلتقى رضا علي المطربة فائزه أحمد ببغداد وهي مطربة لبنانية الأصل لأب سوري قدم لها اللحن الكبير(ميكفي دمع العين يا بويه) الذي تسبب في شهرتها وهي لما تزل حديثة عهد بالغناء ولم تكن معروفة من قبل , إذ رفضتها لجنة الإختبار التي تقدمت لها في دمشق لكن قبلتها لجنة الإختبار في حلب. وبعد النجاح الذي حققتها تلك الأغنية قدم لها رضا علي أغان أخرليرفعها الى مجد لم تكن تحلم به على الإطلاق. من هذه الأغاني:- خي لا تسد الباب , الله وياك و ح تمهل بحبك , الحب يلعب بكيفه , جيرانكم يهل الدار , شبيك يكلبي. وبهذه الألحان يكون رضا علي قد أطلق فائزه أحمد الى الجمهور كمطربة عظيمة قبل أن يلحن لها محمد عبد الوهاب أغنية (ست الحبايب) الشهيرة. وعلى الرغم مما فعله رضا علي وما بذله معها من جهود لنيل تلك الشهرة, فإنها (رحمها الله) لم تذكرإسمه يوماً في أي محفل ومناسبة طيلة حياتها وسيرتها الفنية مع الأسف وهذا ما آلم رضا علي كثيراً.