من ذكريات الاذاعة العراقية..كنت قريبا من عبد الكريم قاسم

من ذكريات الاذاعة العراقية..كنت قريبا من عبد الكريم قاسم

عبداللطيف السعدون

أنني كلفت بعد شهور من مباشرتي العمل في الإذاعة بمرافقة رئيس المذيعين آنذاك المرحوم قاسم نعمان السعدي لمعاونته في نقل احتفال وضع حجر الأساس لمشروع إسكاني في أحد أحياء بغداد يتم برعاية الزعيم عبدالكريم قاسم، ولم أكن قد قمت من قبل بالتعليق الحي على فعالية كهذه، وصادف أن تأخر زميلي عن الحضور لظرف طارئ، وكان علي بحكم الواجب أن أتولى ذلك بنفسي، وخشيت أن أتعرض لخطأ ما قد يودي بي في داهية، ولكن لم يكن أمامي من خيار سوى أن أتوكل على الله وأبدأ !

وتقدمت بشيء من الخوف والتهيب لأقف إلى جنب الزعيم، وهو يتهيأ لوضع حجر الأساس، ويبدو انه لاحظ ذلك مرتسما على ملامح وجهي فالتفت إلي مبتسما، وكأنه يهدئ من روعي.في تلك اللحظة أدركت أن قاسم يمتلك شخصية كاريزمية تجعل كل العيون شاخصة نحو عينيه، فيما كانت عيناه تتقدان حدة وكأنه يخاطب كل امرؤ من الحاضرين لوحده !

كان التقليد المتبع في احتفال كهذا أن توضع نسخ من الصحف العراقية الصادرة في ذلك اليوم، وقطع من العملة العراقية بمختلف فئاتها في صندوق صغير يغلق ويودع عند الحجر الأساس، وقد تقدم أحد المرافقين وهو يحمل مجموعة الصحف وقد استل منها جريدة “ اتحاد الشعب “ لسان الحزب الشيوعي العراقي لتكون الصحيفة الأولى إلا أن فاسم تجاهل ذلك، وامتدت يده ليلتقط جريدة “ صوت الأحرار “ وهي جريدة يسارية مستقلة يرأس تحريرها الصحفي اليساري المعروف لطفي بكر صدقي ثم ليضعها داخل الصندوق قائلا “ نضع أولا صحيفة الأحرار الذين آمنوا بالشعب وصنعوا ثورته الخالدة “، واختار بعدها صحيفة “ الثورة “ لصاحبها يونس الطائي، وهو صديق قديم لعبدا لكريم قاسم، وكان واسطة التفاوض بينه وبين انقلابيي 8 فبراير 1963 قبل استسلامه، وهو موضوع آخر ليس مجال بحثه الآن، وعلق قاسم وهو يضع الجريدة في الصندوق بالقول أن “ هذه هي صحيفة ثورة 14 تموز الخالدة “، وبعد ذلك وضع الصحف الأخرى من دونما تعليق.

وفي مناسبة مماثلة في افتتاح مشروع إسكاني آخر كنت أقف إلى جانب الزعيم عبدالكريم قاسم حاملا جهاز التسجيل القديم الذي عادة ما يستعمله الجيش (جهاز النكرة)، وذلك لتسجيل خطابه، وبينا كان الزعيم مسترسلا في خطابه اكتشفت أن الجهاز قد توقف عن التسجيل لخلل فني لم أكن قادرا على إصلاحه، وعندما انتهى الزعيم من إلقاء خطابه فكرت أن اطلع أحد المسؤولين بما حدث لكي تكون المراجع العليا على علم وربما تجد لمأزقي حلا ينقذني من عقاب متوقع من إدارة الإذاعة قد ينالني لاحقا، وكان أن تقدمت من اللواء أحمد صالح العبدي الحاكم العسكري العام آنذاك، وبعدما شرحت له الموضوع فوجئت بإجابته بأنه لا يمكنه إعطاء رأي في موضوع كهذا وان علي أن أتصرف بما أراه مناسبا من دون أن يعرف أحد أنه قد عرف بالحادثة، وقد فدرت في حينه أنه يخشى غضب الزعيم عليه !

وقد خدمني الخط عندما عدت إلى الإذاعة وأذيع القسم المسجل من الخطاب، ولم ينتبه أحد أن ثمة بقية للخطاب لم يتم تسجيلها، ومر المأزق على خير.

وقي مناسبة ثالثة حضرها قاسم وكنت أحد شهودها تقدمت امرأة من بعيد تبغي الوصول إليه، وكان يحيط به رجال الحماية الذين حاولوا منعها من التقدم لكنها استطاعت أن تصل إلى بعد بضع خطوات منه، وهي تصرخ لتشكو من ظلم ألحقه بها مسؤول إداري، وكان أن نهرها المرافق الأقدم العقيد وصفي طاهر وأمسك بها محاولا إعادتها إلى الخلف فأطلقت صرخة لفتت انتباه الزعيم الذي بدا عليه الغضب، ولمحت الشرر يتطاير من عينيه وهو يأمر طاهر بان يدعها تتقدم قائلا “ إذا لم يستطع المواطنون أن يشكوا إلى الزعيم مما يتعرضون له فلمن يشكون إذن؟ “ وعندما وصلت كانت تلهث فهدأ قاسم من روعها واستمع إلى شكواها وأمر بإنصافها.

ولاحظت أنها ليست المرة الأولى التي يشير فيها قاسم إلى كونه هو “ زعيم البلاد “ فقد كرر أكثر من مرة في خطبه عبارة أن “ الكل وراء الزعيم “، وكان واضحا أنه يرتاح لهذا اللقب أكثر من أي لقب آخر، ويعرف الجميع أنه عندما رقي من رتبة زعيم ركن إلى رتبة فريق ركن باعتباره القائد العام للقوات المسلحة قبل الرتبة طل اسمه مقرونا بلقب (الزعيم)، حتى في المخاطبات والمناسبات الرسمية. ولكنه فضل أن يبقي على لقب “ الزعيم “ الذي يفضله دون سواه، وقد أصاف إليه أنصاره فيما بعد صفة “ الأوحد “ بعد إقصاء عبد السلام عارف الذي كان ينافسه على زعامة البلاد.

وقد حدثني في حينه الصحفي الراحل عبدا لرزاق البارح الذي كان يكتب افتتاحيات جريدة (الثورة) لصاحبها المرحوم يونس الطائي من دون أن يوقعها باسمه، والذي أطلق الدعوة في حينها إلى تأليف حزب سياسي باسم (حزب الزعيم)، أنه كثيرا ما كان يستدعيه قاسم وحده أو مع يونس الطائي ويقضي معهما الأمسية في الحديث وطرح وجهات نظره في مختلف القضايا العامة، وكان البارح يستعين بملاحظات الزعيم في كتابة افتتاحيات الثورة أو التعليقات السياسية لإذاعة بغداد والتي كان البارح في تلك الفترة من ابرز كتابها.

نقل لي البارح أن أبرز ثلاثة كتب كان يرجع إليها قاسم كانت القرآن الكريم و” نهج البلاغة “ للإمام علي بن أبي طالب و” هكذا تكلم زرادشت “ لنيتشه، وانه يحفظ عن ظهر قلب مقاطع من الكتابين الأخيرين إضافة إلى آيات كريمة، كما كان يكرر في مجالسه الخاصة (بحسب رواية البارح) أنه إذا صح أن هناك “ سوبرمان “ يمكن أن يظهر يوما ما فسوف يظهر في العراق، وليس قي غيره لأن العراق سليل حضارات، ووريث تاريخ عريق ! «

كان “ عراقيا “ إذن حتى النخاع، ولم يعرف أنه تبنى موقفا طائفيا أو عرقيا معينا، وكان واضحا من خطبه إيمانه المطلق بالعراق وأهله، وكان غالبا ما يطلق على الجمهورية العراقية صفة “ الخلود “، مشيرا في أكثر من مرة إلى أنها “ أمنع من عقاب الجو « !

وقد قدر لي أن أشهد لحظة دخوله مبنى الإذاعة عند استسلامه يوم 9 شباط (فبراير) 1963 حيث بدا هادئا ومتماسكا فيما كانت عيناه تطوفان في عيون الجنود الذين كانوا وقفوا في صفين على امتداد الممر المؤدي من بوابة الإذاعة إلى المبنى الداخلي حيث أدخل إلى (صالة الموسيقى) وأجريت محاكمة صورية له هناك بحضور عبدالسلام عارف وأعضاء (مجلس قيادة الثورة)، وتم تنفيذ حكم الإعدام قيه رميا بالرصاص لتنتهي بذلك صفحة من صفحات التاريخ العراقي المخضب بالدم ولتبدأ صفحة جديدة ربما كانت أكثر دموية من سابقتها.