توقعات عجيبة في حياة الراحل حسين مردان

توقعات عجيبة في حياة الراحل حسين مردان

عبد المنعم الجادر

ثمة نقاط في حياة بعض الناس قد لا تصدق..لأنها تكون أشبه باستجلاء للغيب..

ومثل هذه النقاط في حياة الزميل الراحل المرحوم حسين مردان قد لا تصدق من قبل البعض.. لكنني لمستها طيلة ملازمتي له خلال ربع قرن أو أكثر.. والنقطة الأخيرة أحدثت دوياً رهيباً في أعماقي على الأقل!.

-في الساعة الثانية من ظهر يوم13-9-1972 كنا معاً- الزميل الراحل وأنا-..وحديثنا كان عن الحياة وقصرها..ويومها قال لي إنه متضايق من لا شيء..وافترقنا على موعد في اليوم التالي.

وفي الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي إنساب صوت أحد الأخوان عبر أسلاك التليفون يقول لي أن((أبو علي)) أصيب بنوبة قلبية وهو يرقد الآن في مؤسسة مدينة الطب..وبعد ثمانية أيام تحسنت صحته وقال لي مبتسماً:

-هذه لمرة الأخيرة..تأكد أنني سأموت!.

وبدعابة قلت ضاحكاً:

-تماماً كما قلتها لألف مرة سابقة!.

-أبداً..هذه المرة الأخيرة..وسأفارق الحياة.

وبعد عشرين يوماً انطفأت شمعته..وانقطع وتره..وغابت الشمس من حياته فانتقل إلى عالم آخر في الموعد الذي وقعه.!

هكذا بسهولة مات((حسين مردان))..صاحب القلب الطيب.. وصاحب أغرب نقاط للتنبؤ..

منذ سنوات طوال!

يوم قدم((حسين) بغداد في الأربعينات قادماً من قريته في أطراف((بعقوبة)) لم يكن قد تجاوز السابعة عشرة..لم يكن يحمل في رأسه أية أمنيات عراض.. أو أية أفكار لمغامرات طوال..بضع قصائد وآراء كان راسه يضج بها بما حفظه عن((كامو)).. و((بودلير)).. و((بايرون)) أو((غوته)) و(نيتش)) مما ترجم لهم ولغيرهم للعربية..وبضع هفهفات من((معلقات)) العرب..وما تركز((للجواهري)) أو من ماثله من شعراء العربية من أبيات قصائد..

ويم صدرت له مجموعة((قصائد عارية)) قال عنه حاكم جزاء بغداد الذي قدم أمامه لإصداره تلك المجموعة صرخ به قائلاً:

-إنك تشابه بودلير شعراً مكشوفاً!.

خطوات المدرسة الأولى!

المتتبعون لحياة رواد المدرسة الشعرية الحديثة..والمدرسة القصصية الحديثة..والمدرسة الصحفية الحديثة فيما بين منتصف الأربعينات والخمسينات يعرفون أن ثمة((مقاه)) تأرجحت مكانتها بين((الشعبية)) و((الأرستقراطية)) كانت بمثابة((مقرات)) لإبارز انفعالات((فرسان)) هذه المدارس..ومن هذه المقاهي كانت((مقهى محمود)) في منطقة باب الشيخ.. و((مقهى التاج)) في منطقة الكسرة و((مقهى زناد)) في البتاوين و((مقهى أكرم)) في شارع الأمين وغيرها من المقاهي التي كانت تجمع((رواد)) المدرسة الحديثة للشعر والقصة والصحافة..ومنهم كان((حسين مردان)) و((بدر شاكر السياب)) و((بلند الحيدري)) و((غائب طعمة فرمان)) و((كاظم جواد)) و((صفاء الحيدري)) وغيرهم.. ومن هذه المقاهي كانت قصائده الأولى..كما كانت قصائد زملائه الآخرين!.

حب ونبوءات و..موت!

الطيبة وحدها لم تكن مزية((حسين مردان)) الوحيدة..بل كانت الحب والوفاء من مزاياه أيضاً..ويوم عمل في جريدة((الأهالي)) اندفع في حبها بكل خفقات قلبه. ويوم تعرضت لشبه اغلاق مرض حسين)..ولم يتماثل لشفاء حقيقي حتى انتهت المضايقات عن الجريدة.

وبعدها بسنوات لقيته في (براغ)) صدفة..وسألني عن الفترة التي سأمضيها هناك..وعند إخباري أياه بأنني سأمضي بضعة اشهر قال لي أنك ستعود للوطن بعد ايام..وصحت قولته، تلقيت برقية بوفاة ولدي.. وعدت إلى الوطن بعد ايام!.

السقطة النهائية!

في الساعة الثامنة والنصف من صباح يوم 14-9-1972 كان في دار الإذاعة يمرر أنامله فوق قرص التليفون ليتصل بصديق.. وفجأة سقط مغمى عليه..وإلى مؤسسة مدينة الطب نقل..وبعد أسبوع تحسنت صحته كثيراً فنقل من قسم((العناية المركزة بالقلب)) إلى الطابق الثامن للمؤسسة. وذات يوم كنت أجلس عند رأسه وقد تماثل للشفاء..وبابتسامة الطفل البريء قال لي بشبه ألم:

-هذه المرة الأخيرة..تأكد أنني سأموت!.

وبدعابة قلت ضاحكاً:

-تماماً كما قلتها لألف مرة سابقة!.

-أبداً..هذه المرة الأخيرة..وسيكون ذلك في مقتبل الشهر المقبل!

اللحظات الأخيرة في حياته..

وبقيت حالته الصحية تسودها الراحة..ويشرف عليها لفيف من أطباء المؤسسة منهم الدكاترة إحسان البحراني ومجيد الشماع وعادل عبد الغفور ومصطفى سليم وحميد الشمري وحسين حبوش وحسان كيسو ووجدي جلال..

وقبل ثلاثة ايام من انطفاء شمعة شعر بأزمة في قلبه فنقل إلى قسم((العناية المركزة بالقلب)).. عولج فارتاح..

وفي الساعة الثانية عشرة من ليلة 3-4/10/1972 حدثت له ما تسمى في عالم الطب حالة ((احتشاء العضلة القلبية)) صاحبتها حالات عدم انتظام في خفقات القلب..واستمرت حالته الصحية تسوء..وتسوء..وفي الساعة الثالثة والربع تماماً من نفس الليلة توقف القلب الطيب عن الخفقان.. وتقطعت الأوتار المرنة في عالم البراءة والطيبة..وتوقفت الخفقات نهائياً.. وارتحل حسين مردان إلى عالم ثان توقع إنه سيلجه في الأيام الأولى للشهر الجاري..

وفي الساعة الرابعة و45 دقيقة من مساء4/10/1972 كانت ثمة دموع..وارتعاشات شفاه..ونشيج..ومن الباب الرئيسية لاتحاد الأدباء العراقي سارت القافلة تودع((أبو علي)) إلى مثواه الأخير في النجف الأشرف..

ج. الجمهورية 1972