لمياء الكيلاني حامية تراث بلاد الررافدين القديم

لمياء الكيلاني حامية تراث بلاد الررافدين القديم

جاين عراف- ترجمة: شيماء ميران

في آخر زيارة لعالمة الآثار العراقية لمياء الكيلاني برفقة كاتبة المقال جاين عراف الى المتحف الوطني العراقي في الربيع الماضي، تحدثت بانبهار وصوت مبتهج عن بعض القطع الآثارية التي تعكس براعة الحضارة السومريّة كالمنجل المصنوع من الطين بقولها “هل يمكنكم تصور ذلك؟”.
تعرفت جاين عليها منذ تسعينيات القرن الماضي، وكانت واحدة من الجيل النسوي البارع والاصيل وغير التقليدي، وأول من شدَّ جاين تجاه العراق.

وعندما اصطحبتها للمتحف قالت وهي تشير الى نصلٍ طيني قديم معروض في صندوق زجاجي يعود الى ما قبل خمسة آلاف سنة، “انظري لعبقرية العراقيين، فلم يكونوا يملكون حجارة في الجنوب، وصنعوا مناجل من الطين. انه فعلا اختراع”.

نشأت الكيلاني في عائلة صوفيّة مسلمة مرموقة خلال فترة الحكم الملكي في العراق، وكان لديها الطموح لدراسة القانون ودخول عالم السياسة، لكنّه كان بمثابة كابوس بالنسبة لعائلتها.

وقالت ضاحكة “كانوا يريدون أن أكون مهذبة وأتعلّم الانكليزية ثم أتزوّج فقط، وكانت الطريقة الوحيدة لإبعادي عن دراسة القانون هي بإمكاني دراسة اي شيء آخر، وإرسالي لبريطانيا”، فالتحقت بجامعة كامبريدج في بريطانيا، وأصبحت اول امرأة عراقية تدرس علم الآثار في الخارج، وتبنّت الموضوع لحبها تاريخ وثقافة بلادها.

العودة بعد الدراسة

عند تخرّجها عادت الى العراق عام 1961، وعملت في المتحف العراقي القديم الذي انشأته مديرة المستعمرة البريطانية جيرترود بيل، ثم في المتحف الوطني الذي أُفتتح لاحقا عام 1966.

وكانت زيارتها للمتحف بعد نصف قرن من الزمان تبدو وكأنها الاخيرة، فحدقت بصندوق زجاجي يحتوي على اختام اسطوانية تعود الى اربعة آلاف سنة كما لو انها اصدقاؤها القدماء، وقالت: “إنها أصلا اختياري منذ عام 1966، ولطالما اهتممت بالاختام الاسطوانية”، وهي القطع الصغيرة المستخدمة للتوقيع في الزمن القديم، تُنقش عادة على حجر الكلس او الرخام او اللازورد، كل واحدة منها تحتوي على مشهد مميز يظهر نقشه عند دحرجته على الطين.

وقالت عند اشارتها الى احداها “هذا مشهد جميل، يُظهر رجلا وامرأة مع القصب، يُحتمل انهم يحتسون البيرة، ويوجد اسفل القصبة مصفاة لمنع كل الديدان”.

قامت بطبع نقوش هذه الاختام على طين وردي عند افتتاح المتحف عام 1966، ولا تزال هذه الطبعات معروضة بجانب الاختام. وقالت الكيلاني لجاين “هذه الطبعات لي، لكن كادر المتحف لا يعلم ذلك، انا من يعلم فقط “.

تجولت في اروقة المتحف آلاف المرات، لكن في كل مرة كانت تبدو فرحة ومبتهجة كما لو انها زيارتها الاولى. ذات مرة قالت وهي تشير الى تمثال لشخصية ملك سومري بدون رأس مصنوع من حجر الكلس عمره اكثر من اربعة آلاف سنة “انظري، ها هو، كم هو جميل”.

اما صديقة طفولتها أيسر عقراوي فتقول “كانت لمياء متعلقة بالمتحف، وتحب كل قطعة موجودة فيه، وكانت دائما تشير للسومريين في العراق القديم بكلمة نحن”.

شهادات عليا

وفي إحدى زيارات الكيلاني وجاين قبل بضع سنوات للمتحف، ذكرت جاين وصف استخفاف كانت قد سمعته عن بقايا الموقع الآثاري العالمي مدينة حضر القديمة، على انه “الفن الروماني- اليوناني الهابط”، لكن هذه المدينة التي يعود عمرها الى القرن الثاني قبل الميلاد بتأثيراتها الهلنستية والفارسية والرومانية من المواقع المفضلة للكيلاني. ودخلا صالة التماثيل لرؤية التماثيل الحجرية الغريبة المميزة بالشعر المجعد والشوارب الكثيفة. وقالت الكيلاني “لا يوجد مكان اخر بالعالم يمكن ان تجدي فيه تجمّع هذه المؤثرات معا”، وفي زيارة اخرى اطلعتا على المحفوظات التي وجدتها مثل رسائل جيرترود بيل في عشرينيات القرن الماضي وصور العائلة الملكية في العراق.

وفي عام 2009 كرّم المعهد البريطاني لدراسة العراق الكيلاني بميدالية جيرترود بيل الذهبية التذكارية، لامتيازها بخدمة علم الآثار لبلاد ما بين النهرين.

عادت الكيلاني الى بريطانيا عام 1970 للحصول على شهادة الماجستير من جامعة أدنبرة والدكتوراه في علم الآثار من كلية لندن الجامعية. وحصلت على الجنسية البريطانية، ورغم انها عاشت في بريطانيا خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي إلا انها حافظت على ارتباطها بالعراق. وعادت الى بغداد عقب الاحتلال الاميركي للعراق عام 2003 فوجدت موظفي المتحف يتجولون فيه بذهول بعد تعرضه للنهب، عودتها كانت من اجل ان تساعد في تحديد الاضرار وترميمها وإعادة فتح المتحف، ومن بين الخسائر التي وثقتها سرقة اكثر من خمسة الآف مجموعة من الاختام الاسطوانية.

نهب آثار المتحف

أصيبت بحسرة وغضب لعدم وجود حماية كافية للآثار العراقية. وألقت في الذكرى العاشرة لنهب المتحف محاضرة في بغداد عن عمليات نهب المتاحف والمواقع القديمة التي بدأت في العراق منذ تسعينيات القرن الماضي. كانت في السبعين من عمرها، انيقة، رأسها اشيب، تتوسط قاعة مليئة بالعراقيين الوقورين والكبار. فجأة تبدلت لغتها العربية الى الانكليزية مكررة قول الضابط الاميركي، وأكدت على نقص معرفته عن الآثار خلال القتال في الحرب، ما هزَّ مقاعد الموجودين. وكانت هذه المرة الوحيدة التي يتم التحدث بهذه اللغة في محاضرة عن علم

الآثار.

تعرضت في شهر كانون الثاني الماضي الى جلطة دماغية في عمان، إذ كانت تقوم بورشة عمل مع علماء آثار عراقيين لتصنيف المتحف، وكان من المقرر ان تعود الى بغداد نهاية ذلك الاسبوع لإنهاء اختيار القطع للمتحف الجديد في البصرة. وكانت تعمل ايضا على تاريخ المتحف الوطني، وكذلك عينتها محكمة دينية بمنصب رئيس صندوق في مرقد الكيلاني الخاص بعائلتها.

تزوّجت تلبية لرغبة عائلتها من ابن عمها النحات عبد الرحمن الكيلاني، وبعد طلاقها منه تزوّجت برجل الاعمال الاردني جورج وير. وأنجبت ثلاث بنات، احداهن نورا الكيلاني التي سارت على خطى والدتها وتعمل امينة متحف الحضارات الاسلامية بمتحف كلاسكو.

قالت نورا خلال حفل تأبين والدتها في المتحف الوطني “شغف والدتي بالتاريخ من طفولتها، قيمته عندها وأهمية معرفة الانسانية من خلال هويتها الثقافية والحضارية دفعها لدراسة علم الآثار والتاريخ عموما والآثار العراقية خصوصا”.

توفيت لمياء الكيلاني سليلة الرجل الصوفي الصالح عبد القادر الكيلاني في الواحد والعشرين من كانون الثاني العام الماضي ودفنت في مزار العائلة ببغداد، بعد تشييعها داخل نعش ملفوف بالعلم العراقي انطلق من المتحف الوطني.

عن NPR الاذاعة الوطنية العامة الاميركية