منى السعودي نحتت الحجر الصلب بروح الشعر وبهائه

منى السعودي نحتت الحجر الصلب بروح الشعر وبهائه

عمر شبانة

ما الذي سنقوله للنحاتة والشاعرة الأردنية منى السعودي في رحيلها الفاجع؟ ماذا نقول للإنسانة، الفنانة والصديقة وهي تدخل عامها السابع والسبعين، وترحل في الخلود والبقاء، مع ما أبدعت في النحت والرسم والشعر والجمال؟ ما الذي نقوله لفنانة بلغت العالمية بجدارة؟ سوف نعود إلى رحيلها الأول وهجرتها المبكرة الأولى من عمان إلى بيروت، حين لم تكن تبلغ الثامنة عشرة من عمرها، لتبدأ حلم الحجارة، وحجارة الحلم.

سبعة وسبعون عاماً من العطاء الفني المتواصل، انطلاقاً من “سبيل الحوريات” في وسط عمّان القديمة، قريباً من حجارة المدرّج الرّوماني، وسلالم جبل القلعة، والمسجد الحسيني بمنحوتتها الخالدة، مروراً ببيروت وزمن المقاومة مع الفنانين والمبدعين اللبنانيّين والعرب، وباريس وروما، وعودة إلى بيروت وعمّان، وانتهاء بقرارها الاستقرار في بيروت التي احتضنت أجمل سنوات عمر الفنانة وأطلقتها إلى فضاءات العالم والحجارة بعد رحيلها الأول.
استطاعت منى السعودي، عبر مسارها الإبداعي، وبجدارة عالية، أن تمتلك صوتاً وهوية، أن تخلق كياناً خاصّاً وتجربة فريدة لا شبيه لها. وقد رأينا في هذه التجربة سياقات من التجريب والبحث ومحاولة التجديد والابتعاد عن النمط السائد. ونؤمن تماماً بأن هذا البحث التجريبيّ ترك بصمة واضحة المعالم، وآثاراً كان يمكن أن ينبني عليها المزيد من الملامح الإبداعية القادرة على تكريسها واحدة من التجارب الفذة، في طريق اختراق الزمان والمكان، وترسيخ النموذج الخاص الذي يُضاف – بقوة – إلى النماذج الرفيعة في الإبداع بعامة، وفي فن النحت بخاصة.
ولعل النشيد في قصائد منى السعودي، ليس سابقاً لنشيد حجارتها، وليس تابعاً له، إذ يسير النشيدان في رحلة تكامل المسيرة الفنية والإبداعية المتمثلة في مسارين لا ينفصلان. يتوالد الشعر من الحجارة المشغولة بروح شاعرية خلاقة، مثلما تتوالد الحجارة من قصائد الروح المحتشدة بعناصر الطبيعة ومكنونات الحضارات المتتابعة، ويجتمع الشعر والكائن الحجريّ الساطع في نقطة لقاء حميم تجسد جوهر الإبداع الإنسانيّ. كما تجسد أحلام الإنسان في رحلته الممتدة منذ فجر التاريخ، ومنذ الرسومات البدائية على جدران الكهوف، مروراً بالمنحوتات الأولى التي نقلت تصورات الفنانين القدماء للآلهة، وصولاً إلى أحدث التشكيلات الفنية في عصرنا. وهو عصر هيمنة التكنولوجيا وتراجع دور الإبداع، ولكنه عصر تتزايد فيه الحاجة إلى الفن بكل أشكاله، الفن الذي وحده يمنع سقوطنا في هوّة الفراغ الكونيّ.
وفي أناشيد منى، الشعرية كما الحجرية، ما يمنحنا هذا الامتلاء الضروريّ لمواجهة الخواء الكارثيّ، ومقاومة ذلك السقوط المروع. في أناشيدها احتفاء بهويّة الإنسان وكينونته، بحُريّته وتعاليه وشموخ وجوده الروحانيّ والجسديّ- الفيزيقي، برغباته وشهواته وأحلامه، بإنجازاته وقيمه وانطلاقاته نحو عالم أكثر عدالة وجمالاً. وبمواصفاته هذه، يغدو عمل السعودي، كما هو العمل الفني العظيم دائماً، يغدو المعبّر الأكثر صدقاً عن روح الحياة وجوهرها، مثلما يغدو النقيض الحقيقي للموت والفناء: “سأنحت لكم حبيبين، دائماً اثنين:/ الذكر والأنثى، الأمّ الأرض، والابن – الجسد/ وشكلاً يعانق شكلاً، حوار – صمت.../ وما يوجد في الحلم يوجد على الأرض /والإنسان نبات حلمه».
عاشت منى السعودي كما شاءت، باذخة العطاء والإنتاج، كانت روحاً تمشي على ساقين وقدمين من العمق والبوح والجمال والنشاط الذي لا يتوقف. صحيح أنها رحلت، لكنها تركت ثروة فنية لن ترحل. كان الحجر والمرمر بألوانه هما عشقها. أجمل لحظات حياتها كانت بين الحجر والإزميل، مع القماش والألوان، بل مع النحت في الحرف والكلمة، فهي أكثر من منى واحدة، هي المتعددة والصلبة والشرسة، ولكن الإنسانة الدافئة أيضاً.
محطّات رئيسة
في العام 1945 ولدت منى السعودي في عمّان، التي كانت حينذاك كما تصفها هي، “مدينة صغيرة تنمو حول ينابيع مياه تأخذ مجراها في ما كان يسمّى سيل عمان، وبين مواقع أثرية قديمة، وجبال صخرية فيها مغاور طبيعية يسكنها الرعيان”. وكانت منى تواصل فتح ذاكرتها، وسرد تفاصيل من طفولتها: “كان بيتنا يقع على مدخل “سبيل الحوريّات”، وتطلّ نوافذه على سوق الخضار، كان يسكن في هذا البيت الواسع أبي وأعمامي، وكنّا جميعاً كعائلة كبيرة واحدة، وكانت اللهجة الشاميّة هي السائدة. إذ كانت العائلة قد هاجرت من دمشق واستقرّت في عمّان أواخر القرن الماضي (تقصد التاسع عشر). وعلى بعد مئة متر تبدأ أطلال المدرّج الروماني، وعلى التلة العالية ترتفع بقايا قلعة عمّان، الرّومانية أيضاً. وكانت ملاعب طفولتي هذه المدرّجات الأثرية، والأعمدة المنقوشة، وبقايا التماثيل. كنت أترك اصدقائي لألعب مع التماثيل وأتأمل صناعتها، وكيف دبّت الحياة في الحجر. كانت هذه التماثيل بالنسبة لي كائنات حية، وكانت هذه الأماكن الحقيقية الخيالية تعطيني الشعور بقدرة الإنسان على عمل أشياء عظيمة تبقى على مدى الزمن».
في العام 1948، راح وعيها يتفتّح على المأساة الفلسطينية حين جاءت عمّتها وعائلتها مشرّدين من “مجدل غزة”. وتضيف بأسى ولكن بقوة: “وحين كنت في العاشرة من عمري، توفي أخي الذي كان المصدر الثقافي الأوّل، فتعرفت من خلاله إلى “نبي جبران” و “جلجامش”، وكانت صدمتي الأولى مع الموت حين نظرت إلى أخي فتحي فرأيته “يبتسم وهو ينام بعمق... عرفت أن الموت هو تحوّل وليس فاجعة، بل جزء من تكوين دائرة الحياة التي تتوالى كالليل والنهار. تركتُ المأتم في البيت، وخرجت أمشي في شارع الهاشمي، كانت الحياة تنبض».
تكبر الصبية في طبيعة تشعل خيالها وتعزز، يوماً بعد يوم، رغبتَها في صناعة تماثيل تنقل إليها أحلامها ورؤاها. تتجول بين الصخور واستدارات التلال وحركاتها المتداخلة. تدخل في جسد الطبيعة البكر. ثم تقرأ الشعر، مع إليوت مروراً بأدونيس وأنسي الحاج، فترى في الشعر “فضاءً آخر من الحرية والسفر في ما وراء المرئي. وترسم وتصنع رؤوساً من الجبس سرعان ما تنهار أمام عدم خبرتها، فتلتحق بمحترف الفنان مهنا الدرة لتعلّم الرسم بعيداً من عيني والدها المحافظ والمتديّن. لقد جذبها عالم الفن. العالم الجميل الغامض وشحذت روحها اللوحات والتماثيل والشعر. ومع نهاية المرحلة الثانوية، كان كتاب “اللامنتمي” يقدّم لها نماذج فنانين وشعراء وفلاسفة فتحوا أبواب البحث والتساؤل. حينها شعرت منى أن عمّان ضيّقة وفقيرة وساكنة، وكانت لديها هي رغبة في معرفة العالم الواسع. حملت رسومها، وسافرت إلى بيروت بلا معرفة والدها، لجأت إلى أخيها الكبير هاني الذي كان يعيش في بيروت، وأخبرته عن طموحاتها، وماذا تريد أن تفعل في حياتها، وكان هذا الأخ الصديق والسند.
في بيروت الستينيات، ما بين معرض حليم جرداق، ومجلة “شعر”، وصالة العرض فيها التي تحمل اسم “غاليري وان”، أخذت الآفاق تتفتح أمام أحلام الشابة المغامرة، كان هناك يوسف الخال وأنسي الحاج وأدونيس، وبول غيراغوسيان، ونزيه خاطر، وميشيل بصبوص. تعرفت إليهم في “مقهى الصحافة” الشهير، فغدَوا أقرب أصدقائها. أعطوها عمقَ خبرتهم وأفكارهم وصُحبتهم، وشجّعوها على مواصلة الطريق عندما أقامت معرضها في ذاك المقهى الذي كان يعد أشبه بخلية الحداثة، والذي كان يقع في الطابق الأرضي من مبنى جريدة “النهار”. كانت رسوماتها بالأبيض والأسود.
في باريس الفن والمقاهي والحدائق وصالات الفنون واللوفر والكتب، تبدأ الفنانة مسارها من جديد. في متحف اللوفر تكتشف “عظمة بلادنا” كما تقول، من المنحوتات النبطية والسومرية والتماثيل المصرية وحجر مؤدب الأسود الذي خط عليه الملك يوشع تاريخ البلاد في ذلك الزمان. وفي مدرسة الفنون تتعلم دروس تشريح الجسد، من خلال الموديلات الحية العارية، والخطوط والاستدارات والحركة، كما تتعلم أن “عري الجسد في الفن هو من عري الطبيعة، وأن الأرض جسد، والجسد أرض. لم تُفاجَأ بهذه الأجواء، بل شعرتْ كم يحاط الجسد في بلادنا بالمحرمات».
أقامت منى السعودي معارض كثيرة لأعمالها في النحت والرسم في العالم العربي وأوروبا والولايات المتحدة وآسيا. ومن أعمالها النحتية “قمر مكتمل” من حجر الترافيرتين، وكذلك “أمزجة الأرض” و”شروق الشمس” و”كسوف القمر”، و”المتشرّد”، و”صبار”، (من حجر اليشم الأردني الأخضر)، و”ماء الحياة” (من العقيق اليماني)، “هندسة الروح” المنحوتة التي تقف أمام معهد العالم العربي في باريس، و”المرأة النهر” (من الغرانيت الأخضر الزمردي). تنتصب أعمالها في عدد كبير من متاحف العالم مثل المتحف الوطني للفنون الجميلة في الأردن، والمتحف البريطاني، ومعهد الفن في شيكاغو ومعهد الفن في ديترويت.
كتبت منى أيضاً كتاباً بعنوان “أربعون سنة من النحت” صدر في 2007، ولها كتابان شعريان “رؤيا أولى” 1970 و”محيط الحلم” 1993. ولها عدة مجموعات من رسوم مستلهمة من وحي الشعر أنجزت كتحية لشعراء عرب وأجانب مثل محمود درويش، وأدونيس، والفرنسي سان جون بيرس وكذلك إلى الشاعر العربي الجاهلي امرؤ القيس.

الاندبندنت عربية