المنفلوطي في ذكرى رحيله

المنفلوطي في ذكرى رحيله

أحمد حسن الزيات

كان في مستهل هذا العصر نفر من الأيفاع الخلصاء ينتقلون بين حلق الأزهر كما تنتقل النحل بين قطع الروض، لا يتشممون غير الزهر، ولا يتذوقون إلا الرحيق؛ وكانوا كالفراش رقاق الجسوم خفاف الأجنحة يتهافتون على أضواء النوابغ المعاصرين أينما تشع؛

وكانت الومضات الروحية الأخيرة للبارودي واليازجي ومحمد عبده وقاسم أمين ومصطفى كامل والشنقيطي قد التمعت إلتماعة الموت لتنطفئ كلها متعاقبة في العقد الأول من عقود هذا القرن، فهيأت الأنفس والأذواق إلى أدب جديد كنا نفتقده فلا نجده؛ وكان إخواننا اللبنانيون في مصر وأمريكا قد فتحوا نوافذ الأدب العربي على الأدب الغربي فأرونا فنونا من القول وضروبا من الفن لا نعرفها في أدب العرب؛ ولكنها كانت في الكثير الأغلب سقيمة التراكيب مشوشة القوالب، فأجمناها على نفاستها كما أجمنا أساليب المقامات من الألفاظ المسرودة والجمل الجوف والصناعة السمجة والمعاني الغثة

وحينئذ أشرق أسلوب المنفلوطي على وجه (المؤيد) إشراق البشاشة، وسطع في أندية الأدب سطوع العبير، ورن في أسماع الأدباء رنين النغم، ورأى القراء الأدباء في هذا الفن الجديد ما لم يروا في فقرات الجاحظ وسجعات البديع، وما لا يرون في غثاثة الصحافة وركاكة الترجمة، فأقبلوا عليه إقبال الهيم على المورد الوحيد العذب.

وكان هذا النفر من الأيفاع المتأدبين يجلسون في أصائل أيامهم الغريرة أمام (الرواق العباسي) يتقارضون الأشعار، ويلهون بإغفال الناس، ويترقبون (مؤيد) الخميس ليقرءوا مقال المنفلوطي خماس وسداس وسباع، وطه مرهف أذنيه، ومحمود مسبل عينيه، وفلان مأخوذ بروعة الأسلوب فلا ينبس ولا يطرف. وكلهم يودون لو يعقدون أسبابهم بهذا المنفلوطي الذي اصطفاه الله لرسالة هذا الأدب البكر، وجعله الأمام المفتي تلميذه المختار؛ ولكن المنفلوطي كان في ذلك العهد الذي قرأناه فيه قد جاوز الثلاثين، فهو قليل الإلمام بالأزهر، لا يجلس إلى شيخ ولا يأوي إلى رواق؛ وكان قد هيأ نفسه ليكون كاتباً لا (عالماً) فلم يجعل همه لامتحان، ولم يشغل ذرعه بشهادة.

وبعد سنتين نشر مختار ما دبج من فصوله في المؤيد في كتاب عنونه بالنظرات، وكان قد حكم على الشيخ عبد العزيز شاويش في مقاله: (طبقات الكتاب) حكماً شديداً ورطه فيه على ما أظن صلته بالمؤيد وبالمغفور له سعد باشا، والشيخ شاويش يومئذ محرر اللواء، بعد مصطفى باشا كامل، ولطه به اتصال، فحرضه على أن ينقد (النظرات) فنقدها ذلك النقد الغاضب الصاخب في ثلاثين مقالة ونيفا لم تدع سبيلاً إلى التعارف بيننا وبينه

ثم زاولت التعليم فكنت أستعيد قراءة المنفلوطي مقسما بين أقلام الطلبة. وفي سنة 1920 ترجمت (آلام فرتر) وكان صاحب العبرات يومئذ قد بلغ الغاية في الشهرة والأدب، فرغب في أن يراني؛ وكان لنا صديق مشترك فجمع بيننا في داره؛ ورأيت المنفلوطي لأول مرة فرأيت رجلا مجتمع الأشد، مربوع الخلق، ممتلئ البدن، غليظ الشارب، حسن السمت، لا تلحظ على وجهه المطهم المصقول مخايل الفنان ولا سهوم المفكر؛ ثم تحسبه وهو يحدثك حديثه المقتضب الخافض سريا من عامة السراة في الصعيد لاحظ له من بلاغة اللسان ولا رياضة القلم. ثم داخلته فتكشف لي عن ألمعية أصيلة تستتر عادة بين الحياء والحشمة؛ ووثق الود بيني وبينه توافق المزاج المنقبض والطبع الحي والوجود المنعزل، فدرسته على ضوء ما أعلم من نفسي فلم أجاوز الحق في تصويره وتقديره

كان المنفلوطي قطعة موسيقية في ظاهره وباطنه؛ فهو مؤتلف الخلق، متلائم الذوق، متناسق الفكر، متسق الأسلوب، منسجم الزي، لا تلمح في قوله ولا في فعله شذوذ العبقرية ولا نشوز الفَدامة. كان صحيح الفهم في بطء، سليم الفكر في جهد، دقيق الحس في سكون، هيوب اللسان في تحفظ. وهذه الخلال تظهر صاحبها للناس في مظهر الغبي الجاهل، فهو لذلك كان يتقي المجالس ويتجنب الجدل، ويكره الخطابة؛ ومرجع ذلك فيه إلى احتشام التربية التقليدية في الأسرة، ونظام التعليم الصامت في الأزهر، وفرط الشعور المرهف بكرامة النفس. ولكنك إذا جلست إليه رأسا إلى رأس، تسرح في كلامه، وتباري لسانه وخاطره في النقد الصريح والرأي الناضج والحكم الموفق والتهكم البارع، فلا تشك في أن هذا الذي تحدثه هو المنفلوطي الذي تقرأه. ثم هو إلى ذلك رقيق القلب، عف الضمير، سليم الصدر، صحيح العقيدة، نفاح اليد، موزع العقل والفضل والهوى بين أسرته ووطنيته وإنسانيته.

كان مولد المنفلوطي كمولد الرافعي في بيت كريم بالدين جليل بالفقه توارث أهله قضاء الشريعة ونقابة الصوفية قرابة مائتي سنة؛ ولكنه كان خِلْفةً لنبعتين مختلفتين: فأبوه عربي صريح النسب إلى عترة الحسين، وأمه تركية شابكة القرابة إلى أسرة الجوربه جي؛ ونهج المنفلوطي سبيل آبائه في الثقافة، فحفظ القرآن في المكتب، وتلقى العلم في الأزهر؛ لا أن للأدباء من أبناء الفقهاء نَبوةً في بعض الحالات على إرادة الوراثة والنشأة؛ فهم يصدفون في منتصف الطريق عن دروس الفقه والأصول والعقائد، إما لأن أذواقهم الأدبية الموهوبة لا تسيغ أساليب كتبها المعقدة، وإما لأن طباعهم المدنية الحرة لا تطيق الحياة الدينية المقيدة. فكان السيد مصطفى على الكره من ورع قلبه ورعاية أبيه لا يُلقي باله كثيراً لغير علوم اللسان وفنون الأدب؛ فهو يحفظ الأشعار، ويتصيد الشوارد، ويصوغ القريض، وينشئ الرسائل، وتسير له شهرة في الأزهريين بذكاء القريحة وروعة الأسلوب فيقربه الأستاذ الإمام ويرسم له الطريقة المثلى إلى الغاية من الأدب والحياة. ثم يستفيد المنفلوطي من قربه إلى الإمام صلته بسعد باشا، ومن زلفاه لدى هذين العظيمين نُفوقه لدى (المؤيد)؛ والإمام المجتهد محمد عبده، والسياسي الخطيب سعد باشا، والصحفي الكاتب علي يوسف، كانوا أقوى العناصر في تكوين المنفلوطي الأديب بعد استعداد فطرته وارشاد والده؛ وأولئك الثلاثة كانوا على ما بينهم من التفاوت في نواحي النبوغ أفهمَ رجال العصر الحديث لحقيقة الأدب وأشدهم حدبا على بؤس أهله.

كان المنفلوطي لا يعمل جادّاً لشهادة الأزهر، وإنما كان يعتمد في نيلها على جاه الإمام، كما كان يعتمد من هم على شاكلته من أبناء العلماء على وساطة والديهم؛ والإمام المفتي مفسر وحي الله، وشارح فن عبد القاهر، ومعيد الأدب إلى الأزهر، كان يقيس كفاية الطالب بمقياس سيبويه لا بمقياس أبي حنيفة. فلما قبضه الله إلى رحمته جزع المنفلوطي فيه على سنده وأمله، وارتد مقطوع الرجاء إلى بلده. ثم نعش الله عاثر أمله بعد فترة من الزمن فهب يبتغي في (المؤيد) الوسيلة إلى النباهة والنجح، وأوى من الوزير سعد باشا حامي النبوغ إلى ركن منيع، فخلق له منصب التحرير في وزارة المعارف فضمن له به رغد العيش ووفرة الإنتاج حتى اختار الله له ما عنده.

كان المنفلوطي أديباً موهوباً حظ الطبع في أدبه أكثر من حظ الصنعة؛ لأن الصنعة لا تخلق أدباً مبتكراً ولا أديباً ممتازاً ولا طريقة مستقلة؛ والنثر الفني كان على عهده لوناً حائلاً من أدب القاضي الفاضل، أو أثراً ماثلاً لفن ابن خلدون؛ يتمثل الأول قوياً في طبقة المويلحي وحفني ناصف، ويظهر الثاني ضعيفاً في طبقة قاسم أمين ولطفي السيد؛ ولا يستطيع ناقد أن يقول إن أسلوبه كان مضروباً على أحد القالبين؛ إنما كان أسلوب المنفلوطي في عصره كأسلوب ابن خلدون في عصره بديعاً أنشأه الطبع القوي على غير مثال؛ والفرق أن بلاغة (النظرات) مرجعها إلى القريحة، وبلاغة (المقدمة) مرجعها إلى العبقرية.

أَعلم أن المنفلوطي تأثر في القديم بابن المقفع وابن العميد، وفي الحديث بجبران ونعيمة، ولكن هذا التأثر دخل في فنه دخول الإلهام والإيحاء، لا دخول التقليد والاحتذاء؛ فله من الأولين إشراق الديباجة وقوة النسج، وله من الآخرين جدة الموضوع وطرافة الفكرة، ولكنك لا تتذكر وأنت تقرأه أحداً من أولئك جميعاً.

عالج المنفلوطي الأقصوصة أول الناس وبلغ في إجادتها شأواً لا ينتظر من نشأة كنشأته في جيل كجيله. وأذكر أننا كنا نقرأ (غرفة الأحزان) و (اليتيم) وأمثالهما فنطرب للقصة على سذاجتها أكثر مما نطرب للأسلوب على روعته. وسر الذيوع في أدب المنفلوطي ظهوره على فترة من الأدب اللباب، ومفاجأته الناس بهذا القصص الرائع الذي يصف الألم ويمثل العيوب، في أسلوب طلى وسياق مطرد ولفظ مختار. أما صفة الخلود فيه فمأتيةٌ من جهتين: ضعف الأداة وضيق الثقافة. فأما ضعف الأداة فلأن المنفلوطي لم يكن عالماً بلغته ولا بصيراً بأدبها، لذلك تجد في تعبيره الخطأ والفضول ووضع اللفظ في غير موضعه. وأما ضيق الثقافة فلأنه لم يتوفر على تحصيل علوم الشرق، ولم يتصل اتصالاً مباشراً بعلوم الغرب؛ لذلك تلمح في تفكيره السطحية والسذاجة والإحالة. فإذا قدر الله لأدب المنفلوطي أن يفقد سحره وخطره في أطوار المستقبل، فإن تاريخ الأدب الحديث سيقصر عليه فصلاً من فصوله يجعله في النثر بمنزلة البارودي في الشعر. وكفى بذلك عرفان فضل وخلود ذكر. أما مسألة الأدب الباكي والأدب الضاحك، أو الأدب الضعيف والأدب القوي فمغالطة مريضة من النقد سنعرض لها في فرصة أخرى.

مجلة الرسالة 1937