في ذكرى رحيله في 23 شباط 1936.. الزهاوي كما يصفه رفائيل بطي سنة 1923

في ذكرى رحيله في 23 شباط 1936.. الزهاوي كما يصفه رفائيل بطي سنة 1923

إعداد : ذاكرة عراقية

كتب الاستاذ رفائيل بطي في كتابه الرائد ( الأدب العصري في العراق ) المطبوع في القاهرة سنة 1923 فصلا طويلا عن الشاعر الكبير جميل صدقي الزهاوي نختار منه الفقرات التالية :

فيلسوف عربي، انكشفت له من الحياة أسرار، فأودعها شعرَه الراقي ونثرَه المتين.

نابغة من ذوي العقول الكبيرة، خلب لبَّه نظامُ هذا الكون فراح يفكر في معجزاته غير مُعتمدٍ في تفكيره على أجنبي.

شاعر سبَّاق في حلبة البلاغة، يُصَوِّر ما يخفق به قلبه في أبياتٍ عامراتٍ وقوافٍ مُحكمات، وينظم منثورات الحقائق العلمية في قلائد شعرية ليجمع بين العلم والفن.

لم ينفرد ببحث، بل أحبَّ أن يستجمع حبل الأبحاث التي لم يفتحِ الله بها على قلوب وطنييه؛ فنبذ هؤلاء أفكاره أولًا وضربوا بأقواله عُرض الحائط — وهذا شأن النوابغ والمصلحين — حتى إذا ما انبعثت إلى نشئهم الحديث أنوار التهذيب من كوى العلم، تجلت لهم محاسن أفكاره فأكبروها، وتبيَّنوا قدر أقواله فصفقوا لها تصفيقًا عاليًا؛ فهو اليوم شاعر الشبيبة الناهضة على شيخوخته.

•••

نشأ الزهاوي في بيئة تصوحت أزاهير الأدب فيها بعد الازدهار، ودرست معالم العلم بعد أن ناطحت بعلوها أجواز الفضاء، فراعه الجمود الهائل المستولي على الفهوم والأقلام، واستنكر الطريقة البالية التي يتبعها النظَّامون في بنائهم الأبيات، مُقَلِّدين غير مُبتكرين ينسجون على منوال الشعر للسالفين من غير ما تأثر بالرُّوح الجديد، فلم تأنس روحه الناهضة بهذه الحطة، وعزَّ على عقله المتوقد ذكاءً أن يبقى مصفَّدًا بأغلال التقليد؛ ففر إلى حيث يغرد له فؤاد في شواهق صروح الفن الحديث، بعد أن فك الأغلال وحطم القيود، داعيًا قومه إلى النهضة والانتعاش في الفكر والقول والعمل.

نزل إلى الميدان؛ ميدان مكافحة القديم البالي، ليطرده ويحل مكانه الجديد العصري، وهو لا يملك غير فؤادٍ حساس، وفكرٍ ناضجٍ وقلمٍ محدد، فتجافى عن المديح والثناء، وكفكف دموع الرثاء والبكاء على الطلول الهمد، ونظم في أبوابٍ من الشعر جديدة، مخرجًا للناس قصائد تحوي روائع المعاني، مُتبعًا في نظمه السَّنن المُستحدث، كما أنَّه أغار على العادات السقيمة والأخلاق المُنحطة، التي كوَّنتْها في مجتمعه عصورُ الانحطاط، فمزقها أيَّ ممزق، ورأى ذلك المخلوق اللطيف — المرأة — أسيرًا بدار الظلم أعياه أسره، واستبد به، فعز على مروءته إهمالها؛ فجرد لذلك قلمه البليغ، وكتب في الدِّفاع عن حقوق ضلع الرجل مقالات، ونظم قصائد أقامت العراق، بل الشرق العربي، وأقعدته، وقد نكب بمحن صعبة من جراء نصرته للجنس الضعيف، فإذا تسنَّى لابنة العراق أن تنتبه غدًا من رقدتها، وتبلغ ما بلغته أختها السورية أو المصرية من الرُّقي، فلتذكرنَّ فضل «الجميل» عليها، ولتغنِّ بشعره الخالد الذي نظمه في المطالبة بحقوقها المسلوبة.

•••

شُغف الأستاذ الزهاوي بالعلوم الطبيعية في شبابه، فشرع يطالع ما تكتبه المجلات العلمية في هذا الباب وفي مُقدمتها «المقتطف»، مطالعةَ الباحث المُنقب، يُريد إدراك أسرار الوجود، ثم أظهر نتيجة درسه للطبيعة في كتابه «تعديل الجاذبية»، الذي جاء فيه غير مُترجم عن أجنبي — وهو لا يُحسن لغة أجنبية — ولا ناقل، بل أبرز به ثمرةً من ثمار القرائح الشرقية. ومع أنَّ جُلة العلماء الغربيين والشرقيين لم يُوافقوه على آرائه تلك، فحسبه فخرًا أنه أول عربي هجر التقليد، وحاول حل غوامض العلم الطبيعي مُعتمدًا على عقله وحسه.

•••

وهو ابن العلامة محمد فيضي الزهاوي مُفتي بغداد، ينتسب أبوه إلى أمراء الأكراد من آل بابان، وهؤلاء يمتون إلى خالد بن الوليد (رضي الله عنه)، وكذلك أمه فيروزج، فهي من أسرة كردية كريمة، وأمَّا شهرته بالزهاوي فنسبة إلى «زهاو»، أحد أعمال ولاية كرمنشاه الفارسية، كانت موطن جدته لأبيه.

وُلد جميل صدقي في بغداد، في اليوم التاسع والعشرين من ذي الحجة سنة ١٢٧٩ هجرية، يوم الأربعاء الموافق ١٨ حزيران سنة ١٨٦٣ ميلادية، وهو اليوم في الستين من عمره نحيف البدن لا يستطيع أن يمشيَ على رجليه أكثر من بضع دقائق؛ لذلك قد اتخذ له أتانًا بيضاء يقطع عليها الشوارع عندما يسير من محل إلى آخر، ويشكو فوق آلامه الروحية آلامًا عصبية قد برحت به.

•••

عُيِّن المترجم قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره في ٢ تموز سنة ١٣٠٣ هجرية عضوًا في مجلس المعارف في بغداد، ثم مديرًا لمطبعة الولاية فيها في ١ نيسان سنة ١٣٠٦ هجرية، ومحررًا للقسم العربي من جريدة «الزوراء» الرسمية، وانتُخب بعدها عضوًا لمحكمة الاستئناف في بغداد في ٥ نيسان سنة ١٣٠٨ هجرية.

وقد أصابه في سن الخامسة والعشرين داء عضال في نخاعه الشوكي سلبه الراحة، ولم يبرأ منه إلى الآن برغم معالجة نُطُّس الأطباء له، كما أنَّ رجله اليُسرى أصيبت بشللٍ وهو في الخامسة والخمسين من عمره.

وكبر شأنه بعد سفره إلى الآستانة سنة ١٨٩٦، مدعوًّا إليها بإرادة سُلطانية، فمَرَّ في طريقه بمصر حيثُ قابل نُخبة من أكابر العلماء وأساطين الأدب، أمثال الدكتورين يعقوب صروف وفارس نمر صاحبي «المقتطف»، و«المقطم»، والدكتور شبلي شميل، وجرجي بك زيدان مؤسس الهلال، والشيخ إبراهيم اليازجي الشهير، ولقي منهم كل حفاوة.

ذهب إلى الآستانة فأخذ الجواسيس يتأثرونه، ولمَّا علم السلطان عبد الحميد أنَّ عددًا من محرري الجرائد يترددون عليه أوجس منه خيفة، وأوعز إلى أبي الهدى الصيادي ألا يغفل عنه، وأراد الأستاذ الزهاوي بعد سنة أن يرجع إلى بغداد؛ فإذا السلطان يأمره بإرادة سنية أن يلحق بالبعثة التي كانت قد تألفت هناك للذهاب إلى اليَمن لإصلاحه؛ فذهب إليها ورجع بعد سنة إلى الآستانة، وأحسن السلطان مكافأته على خدماته بالوسام المجيدي الثالث، ورتبة (البلاد الخمس الموصلة)، ورأى في رجوعه أنَّه لم يزل محاطًا بالجواسيس فساءه ذلك، وطلب الرُّجوع إلى وطنه فلم يُسمح له خشية أن تكون وجهته غير بلاده.

وقد قاسى بعد رجوعه إلى الآستانة الأمرَّين، حتى ضاق صدره فنظم قصيدة يذم فيها سياسة عبد الحميد وسلوكه، منها:

أيأمر ظلُّ الله في أرضه بما نهى اللهُ عنه والرسولُ المبجلُ

فيُفقر ذا مال وينفي مبرَّأً ويسجن مظلومًا ويَسبي ويَقتلُ

تمهَّلْ قليلًا لا تغظْ إنه إذا تحرك فيها الغيظ لا تتمهلُ

وأيديك إن طالت فلا تغتررْ بها فإنَّ يد الأيام منهن أطولُ

وأنشدها أبا الهدى في داره، وهذا كتب بها تقريرًا إلى السلطان؛ فكان ذلك سببًا لسجنه مع الشهيد العربي المرحوم عبد الحميد الزهراوي، وصفا بك الشاعر التركي الشهير، ثم نفيه إلى بلاده.

•••

ولما جاء الدستور أخذ الأستاذ جميل الزهاوي يخطب في الناس، ويعلمهم فوائده وحسناته.

ورحل المترجم في السنة الأولى من الانقلاب العثماني إلى القسطنطينية، فعُيِّن في ٣٠ تشرين الأول سنة ١٣٢٤ هجرية أستاذًا للفلسفة الإسلامية في أكبر مدارسها، وهو المكتب الملكي، وعُيِّن كذلك في تشرين الثاني سنة ١٣٢٤ هجرية مُدَرِّسًا للآداب العربية في فرع الآداب من جامعة «دار الفنون»، وكان يكتب في أوقات فراغه في مجلات الآستانة التركية مقالات فلسفية حتى اشتدت عليه أمراضه بعد سنة، فهاجه ذكر الوطن المُحَبَّب فقصده وجاء الزوراء، فعُيِّن مُدرسًا للمجلة في مدرسة الحقوق فيها، وظل يُواصل «المقتطف»، و«المؤيد» بالقصائد والمقالات حتى نشر مقالته الشهيرة في العدد اﻟ ٦١٣٨ من «المؤيد» بعنوان «المرأة والدفاع عنها»، فأحدثت ضجة كبرى في العالم العربي الإسلامي، فهاج الناس لها وماجوا في بغداد، وأشاعوا بأنَّ الكاتب تحامل على الشريعة الغرَّاء، وذهبوا متجمهرين في ٢٨ أيلول سنة ١٣٢٦ هجرية إلى والي بغداد، وهو يومئذٍ ناظم باشا، يطلبون إليه عزل الكاتب من وظيفته، وساعدهم في طلبهم أحد مبعوثي بغداد، فأقاله الوالي، واشتدَّ سخط الجمهور عليه في هذا الحين، حتى اضطُر الأستاذ إلى مُلازمة داره خوفًا من الاغتيال، جرى ذلك في ظل الدستور، وشمسُ الحرية ممدودة الظل، وكان فيمن نصر الأستاذ الزهاوي في محنته هذه الدكتور شميل والمرحوم ولي الدين بك يكن في مقالات نشراها في «المقطم»، وغيرهما في سورية ومصر.

وفي هذه الآونة نشر الزهاوي في بغداد كتابه «الجاذبية وتعليلها»، ثم ألَّف رسالة «الدفع العام والظواهر الطبيعية والفلكية»، ونشرها في «المقتطف».

وأعيد إلى تدريس المجلة في مدرسة الحقوق في بغداد على عهد جمال باشا واليها، ثم انتُخب نائبًا عن المنتفق، فذهب إلى الآستانة، وأقفل المجلس بعد أشهر من اجتماعه فعاد الأستاذ الفيلسوف إلى وطنه، وما لبث أن انتُخب نائبًا عن بغداد فذهب إلى دار الملك العثماني ثانية، وقد دافع في البرلمان العثماني دفاع الأحرار عن حقوق العرب في مواقفَ عديدة؛ مما نَمَّ على وطنيته الصادقة. وكان في بغداد حين الاحتلال البريطاني، فعُين في حكومة الاحتلال المؤقتة عضوًا في مجلس المعارف براتبٍ زهيد، ثم عُين بعد مدة طويلة رئيسًا للجنة ترجمة القوانين العُثمانية، والحق يُقال إن تلك الحكومة المؤقتة لم تُقدِّر علم الأستاذ الزهاوي وفضله؛ إذ لم تُسند إليه منصبًا خطيرًا يليق به، وهي معذورة في عملها لأنها كانت تُعيِّن الموظفين — وبالخاصة الكبار منهم — لغايات سياسية حسبما تقتضيه الظروف، فلا تنظر في تعيينهم إلى مقدرة أو تضلُّع من علم أو خبرة في أمر.

وكذلك كان نصيب الأستاذ الزهاوي في العهد العربي؛ فبعد أن توقَّع القوم أن يُسند إليه منصب خطير، ظَلَّ من غير وظيفة حتى كتابة هذه السطور.

•••

قال الزهاوي الشعرَ بالعربية والفارسية وهو صبي، وأجاده فيهما بعد أن صافح الثلاثين، ولم ينشر شيئًا مذكورًا من شعره قبل هذا العمر، بل بقي متوغلًا في درس العلوم الحديثة والفلسفة، حتى ذاع أمره في أقطار الضاد كلها.

وتجلت عبقريته الشعرية بعد أن رجع من الآستانة إلى بغداد منفيًّا؛ فإنه طفق يَنظم القصائد الشيقة الواحدة تلو الأخرى، ويذيعها بتوقيع مُستعار في «المقتطف» و«المقطم» و«المؤيد».

وظلَّ الفيلسوف الشاعر يَنظم الشعر، وأكثره بموضوع فلسفي أو اجتماعي، مُستنهضًا به أُمته العربية، يريد إيقاظها من رقدتها نحو عشر سنوات، وقد أحدثت قصائده انقلابًا في الأدب؛ فدخل في طَرْز جديد لم يُعهد قبله، فأخذ الشعراء يحذون حذوه في نَظم المعاني المستحدثة، وقد كان لشعره تأثير عظيم في البلدان العراقية، وبالخاصة في بغداد، مع أنَّه لم يبدع الإبداع كله إلا في سنواته الأخيرة.