تخطيط مدينة بغداد .. البدايات والمشاكل

تخطيط مدينة بغداد .. البدايات والمشاكل

د. وهيب حسن العبودي

كانت مدينة بغداد القديمة تتألف من (76) محلة، هذا فضلاً عن محلات الكاظمية والاعظمية والكرادة الشرقية. وقامت الحكومات العراقية بتكليف عدد من الشركات الأجنبية المتخصصة بمجال تخطيط المدن، وذلك بعد أن شعرت الحكومات بأهمية توسيع المدينة،حتى تتلاءم مع زيادة السكان، لكن تخطيط هذه الشركات افتقر إلى الدقة فكانت عديمة الجدوى.

وفي عام 1923 زادت حركة العمران والتوسع حول الكرخ والرصافة والكاظمية والاعظمية، وكانت على شكل امتداد طولي بدلاً من الدائري على جانبي النهر). وقد أنشئت محلة راغبة خاتون ومحلة السعدون وتوسعت الاعظمية القديمة [الشيوخ، النصة، الحارة، السفينة] نحو هيبة خاتون، وتوسعت محلة الشيوخ كلها في عام 1930.

وفي عام 1936 جرت محاولات جدية لتخطيط بغداد، وفي العام المذكور نفسه قدم البروفسور الألماني (بريكس) (Preks) لتخطيط مدينة بغداد، بعد أن أوكلت إليه أمانة العاصمة بهذه المهمة. وتم تقديم هذا التقرير من قبل البروفسور الألماني عن طريق السفارة الألمانية في بغداد، وتناول هذا التقرير المناطق الحضرية والسكك الحديد والسكن ومشاريع الماء والكهرباء والمجاري والشوارع والكراجات، لكنه لم ينفذ بصورة تامة، وفي الوقت نفسه كان مشروعاً مهماً لوضع تصاميم أخرى أكثر دقة. ومن الجدير بالذكر أنه في عام 1945 عملت شركة بغداد الجديدة على إنشاء البيوت الحديثة، وكان رأس مال الشركة (مليون دينار عراقي)، اشترت الشركة أرضاً واسعة من آلاف الدونمات تقع في الطريق الى العاصمة لإنشاء مدينة بغداد الجديدة، وشيدت الشركة أول بناء لها في المدينة كان كازينو (ليالي الأنس)، ودور منفردة قامت ببيعها للمواطنين بأسعار عالية وانتشرت أيضاً دور تضم كل منها ست غرف.

ونظمت الشركة الطرق في المدينة وافتتحت سوقاً عصرياً فيها وأنشأت الحدائق المتنوعة وتشجير الطرق والشوارع. ويذكر فخري الفخري أمين العاصمة عام 1954، أنه بذل جهوداً لوضع تخطيط لمدينة بغداد، وأنه وضع تصميماً أساسياً في سنة 1956 واستقدم المستشارين البريطانيين (مينوبريو وبنلي وماكفارلين) لوضع تصميم وتم تطبيقه. وصاحب تطبيق هذا التصميم هدم الكثير من الدور في الجانب الشرقي من بغداد. وتجدر الإشارة أيضاً أنه في عام 1958 تم وضع تصميم لمشاريع الإسكان في اليرموك وغربي بغداد من قبل شركة دوكسيادس (Doksiads com) اليونانية، لكنها أهملت لأنها لم تكن دقيقة.

كما أن بعض الأحياء السكنية تطورت ونمت بفعل الظروف الاقتصادية والاجتماعية، لذا فأن تغيير هذه الظروف أيضاً كان له تأثير على اختلاف البيت البغدادي، وذلك باختلاف المركز الاجتماعي والاقتصادي لصاحب البيت، حيث تكون بيوت الميسورين والأثرياء مكونة من عدة طوابق وساحات وغرف كثيرة ومتعددة. وتجدر الإشارة إلى أن تركيز المصمم المعماري كان يركز على توفير سكن ملائم لجميع أفراد الأسرة من غرف الطعام والسكن والنوم واستقبال الضيوف فضلاً عن أن للبيت البغدادي مميزات عدة، ومن أهم هذه المميزات وجود (الطارمة)، وكذلك وجود الفضاءات التي تسمح بمرور الضوء من خلالها.

ومن المميزات الأخرى هو وجود ناحيتين أساسيتين، الناحية الوظيفية والناحية الجمالية، حيث كان المعماري في الناحية الوظيفية يراعي الظروف المناخية، من حيث وجود الشبابيك ووجود فسحات مكشوفة لتوفير جو مظلل ومستور لمراعاة التقاليد الاجتماعية. ومن المفيد بمكان أن نذكر هنا أن بغداد بقيت حتى سنة 1945 على الطراز العمراني من حيث المحلات السكنية. وبعد ذلك بدأ ظهور العمارات العالية واستعمل الكونكريت في تشيد السقوف واستعمل الحديد ويعرف محلياً( بالشيلمان) والطابوق في سقوف البيوت. وخلال حقبة الخمسينيات تم استخدام طريقة (اللبخ).

معالجة الصرائف

كانت الصرائف تغطي مساحات واسعة من مدينة بغداد، في جانبها الشرقي والغربي، أي الرصافة والكرخ وتضم في أحشائها المظلمة مئات الألوف من النازحين، من جنوب العراق ولاسيما لواء العمارة، وكانوا يتكدسون في ما يسمى آنذاك بـ(شرق العاصمة)، وهي قطعة أرض واسعة تقع إلى الشرق من بغداد خلف سدة ناظم باشا التي أقيمت لحماية بغداد من الفيضانات.

ومن الجدير بالذكر أن من أهم الأسباب التي دفعت هؤلاء النازحين هي أسباب تتعلق بتشكيل الجيش العراقي والتجنيد الإجباري والتطوعي، إذ تطوع المئات من الفلاحين في الجيش واضطروا إلى جلب عوائلهم. وتمثلت هذه الهجرة خلال مدة ما بين الحربين وصارت تمثل ظاهرة مهمة أثناء الحرب العالمية الثانية وما بعدها. فضلاً عن قوة الإقطاع، وسوء الأحوال الإدارية والاقتصادية في العمارة والناصرية على وجه الخصوص. ولعل من أهم أسباب الهجرة الأخرى التي قام بها الفلاحون من المناطق الجنوبية إلى بغداد هو سوء أحوال الفلاحين الاقتصادية، ومن الناحية الاجتماعية انحلال الرابطة القبلية وتفككها نتيجة شعور الشيخ بأن الأرض أصبحت ملكه بعد أن سجلت باسمه، حتى أن بعضهم كان لا مانع لديه من إحلال المضخة بدل الفلاح. فكان الفلاح يكد طوال السنة ويخرج صفر اليدين لا يملك سوى ما كان يقتات من العيش البسيط هو وأفراد عائلته، فكان هدف الفلاح الرئيسي من الهجرة التخلص من الفقر والإهمال الذي يعانيه الريف من قبل الحكومة. وكانت هناك هجرات موسمية من أرياف محافظات ميسان والبصرة وذي قار خلال مدة كبس التمور بين شهري آب وتشرين الثاني، وكذلك من العوامل التي جذبت السكان إلى المدن توفر العمل والخدمات العامة وتوفر وسائط النقل وتوسع العمل التجاري.

وقد أدى توافد المهاجرين إلى هبوط أجور العمال لأن المهاجرين كانوا يعملون بأي أجر، كما وأدت الهجرة إلى زيادة الزخم على المواد الغذائية، وإزاء ذلك أظهر إحصاء سنة 1957 أن عدد الصرائف في منطقة بغداد بلغ 16.413 صريفة بسكنها زهاء 92 ألف نسمة وارتفع العدد سنة 1958 بين 100-120 ألف نسمة يزدحمون في جانب الرصافة لاسيما المنطقة الممتدة خلف السدة الشرقية من الاعظمية حتى بغداد الجديدة، وازداد عددهم في هذه المناطق التي كانت دائماً تتعرض للغرق ولم يكن العمران قد امتد إليها فاتخذها النازحين مساكن لهم ومن الأمور التي سهلت للمهاجرين اللجوء إلى هذه المناطق، هي سهولة بناء الصرائف التي كانت تقع في مناطق توجد فيها معامل الطابوق والمخازن ومستودعات مصلحة نقل الركاب وعلاوي المخضرات ومواقف السفر من بغداد إلى ميسان، إذ كان من السهل الالتجاء إلى أخوانهم وإيجاد عمل وسكن في هذه المناطق.

ومن الأسباب المهمة الأخرى لهجرة هؤلاء النازحين هو الظلم الذي لحق بالفلاحين من خلال النظام الإقطاعي الذي بدأ في ثلاثينيات القرن العشرين. وسميت بالصرائف لأن بيوتهم كانت تبنى من صريفة كانت تعمل بالبواري والقصب. وظهرت أولى الصرائف في بغداد في أوائل الثلاثينيات، وغطت مساحات واسعة من المنطقة القريبة من ساحة النهضة وأمتدت حتى البتاوين في الباب الشرقي. وغالباً ما تكون مشيدة كلياً أو جزيئاً من الحصران المصنوعة من القصب وسقفها مقوس على شكل نصف دائرة من دون مساند ما عدا النهايات وتغطي الجدران الحصرية بمادة الطين أثناء الشتاء، ويمكن نقل الصريفة من مكان إلى آخر، وهي في الغالب تشمل غرفة واحدة، أما الكوخ فهو بيت طيني ويحتوي على غرفة واحدة محاط بجدار طيني.

وخلال عام 1939 ألفت لجنة لإيواء أصحاب الصرائف، عندما أرادت أمانة العاصمة توسيع حدود بغداد وكانت الخطة أن تجعل المنطقة خاصة للعمال والكراجات ودور العمال والفقراء. ومن الجدير بالذكر أن هذه المناطق امتدت بسرعة كبيرة خلال مدة ما بين الحربين، وكانت قرية الوشاش بضواحي بغداد إلى الشرق من منطقة المنصور الأنيقة خير مثال على توسيع هذه الصرائف، وجلبت هذه الصرائف أنظار الحكومة فوضعت خطة من خلال مجلس الأعمار لإعادة إسكان سكان الصرائف، لكن المشروع واجه صعوبة بسبب عدم إقناع أصحاب الأراضي التي تحيط ببغداد بيع أراضيهم، ولم يتحقق نجاح ملحوظ في هذا السبيل حتى قيام ثورة 14 تموز 1958. وغيرت ثورة 14 تموز 1958 حالهم إذ أزيلت الصرائف وتحولت إلى مناطق سكنية منها مدينة الثورة في القسم الجنوبي الشرقي من رصافة بغداد، ومدينة الشعلة في القسم الشمالي الغربي من كرخ بغداد.

عن رسالة (امانة العاصمة 1939ــ 1958)