الأبي الشامخ توفيق منير

الأبي الشامخ توفيق منير

الى روح خالي الشهيد المناضل توفيق منير في ذكرى أستشهاده

بك والــــــــذي ضمَّ الثرى من طيــــــبِهم تتعطَّرُ الارَضونَ والأيام
بك يُبـــــــــعَث ” الجيلُ ” المحتــــَّمُ بعثُه وبك ”القيامةُ” للطُغاة تُقام
وبك العُتاة سيُحــــــشَرون ، وجوهُهُم سودٌ، وحَشْوُ أُنوفهم إرغام
الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري

د.زيادالعاني

كتب عنه الكثير من رفاقه و زملائه ولا تكاد هذه الذكرى المشوؤمة تمر دون أن تجد من يكتب عن حياته و مسيرته ممن عاصروه أو من حتى الذين سمعوا عنه فقط.

كان الشهيد يشغل منصب نائب رئيس نقابة المحامين في العراق في الخمسنيات من القرن الماضي وحتى أستشهاده. كان شخصية وطنية فذة ، حيث كان من أوائل مؤسسي حركة السلم العراقية و أنتخب نائبا لرئيس مجلس السلم العالمي، كان مثال الثائر الذي قارع الظلم و الاستعمارو حمل في قلبه حبه للشعب العراقي و ناضل من أجل تحقيق العدالة و أرساء الديمقراطية في العراق.

في المؤتمر التأسيسي الاول لحركة السلم سنة 1954 الذي أنعقد سرا و حضرته شخصيات سياسية و طنية و ديمقراطية ويسارية تمثل كافة أطياف الشعب العراقي و أحزابه و شخصيات أدبية و فنيّة على رأسها الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري و الفنان يوسف العاني و رجال دين من أمثال رجل الدين المتنور عبد الكريم الماشطة و عدد من المحامين من رفاق دربه من المحامين حسين جميل، كامل قزانجي، عامر عبد الله و خالد عيسى طه و ممثلين عن العمال و الفلاحين و الطلاب و المرأة عربا و أكرادا و أقليات. أفتتح المؤتمر بتعريفه لمفهوم السلم وكيفية تحقيقه. حيث قال ” السلم وتحقيقه ليس فقط نبذ ومعارضةالحروب بين الدول، أنه تحقيق العدل و المساواة بين الناس و هذا ما يؤدي الى السلم وتحقيق التقدم و الرخاء، و تحقيق العدل لن يتم بدون تثبيت الحقوق بالدساتير …) و ضرب أمثلة عن الظلم الذي يعانيه الفلاحين على أيدي الاقطاع في العراق. و ماهي الا أسابيع قليلة و تندلع أنتفاضة الفلاحين في الشامية أو مايسمى أنتفاضة فلاحي آلزيرج وكان مطلبها أن يحصل الفلاح من صاحب الارض على النصف بدل الثلث و الهوسة الشعبية للانتفاضة كانت ” لو بالنص ..لو زرعه يفوته”. أعتقلت السلطة العشرات من الفلاحين على أثر الانتفاضة فتطوع الشهيد هو ومجموعة من المحامين للدفاع مجانا عن المعتقلين حيث كان قد أسسّ قبل الانتفاضة لجنة يرأسها في نقابة المحامين للدفاع المجاني عن سجناء الرأي من الفقراء وكتب عن هذه اللجنة الكثير رفيق الشهيد المحامي المرحوم خالد عيسى طه (رئيس جمعية المحامين العرب في بريطانيا فيما بعد) و كان الاستاذ خالد نائب رئيس اللجنة. دافع الشهيد عن السجناء وتحقق ليس فقط خروجهم من السجن بل أقر القاضي شرعية مطالبهم مع أنها لم تنفذ الا بعد قيام ثورة 14 تموز. و بالمناسبة ، كانت لجنة معاونة ألعدالة تقوم بألدفاع عن ألمتهمين ألسياسيين ألغير قادرين على تحمل أجور ألمحاماة مجانا ولا تفرق بين شيوعي وبعثي وقومي من جميع مكونات الشعب ألعراقي آنذاك. و بالمناسبة أيضا فأن والد الشهيد وعمه و هم من الملاكين في عنة كانوا يطبقون مبدأ النصف طيلة حياتهم. بل أنني أتذكر عندما كانوا يرسلون مؤونة السكر و الرز واللحوم أحيانا و كل مايفتقد الفلاحين له في الريف.

كان أحد رهائن وثبة 1948 و سجن مع عدد من الشخصيات الوطنية الذين أختارتهم حكومة صالح جبر العميلة آنذاك كرهائن من أجل وقف الانتفاضة المدوية أحتجاجا على توقيع معاهدة بورتسموث و أطلقت سراحهم تحت تأثير الضغط الشعبي وتم نفيه مع الشهيد المحامي كامل قزانجي وبعض رفاقهم الى قرية عين تمر. في أنتخابات 1954 أو 55 أنتخب نائبا عن الجبهة الوطنية مع الشيخ عبد الكريم الماشطة و آخرين و لن ترق النتائج لنوري السعيد و أعوانه فالغيت الانتخابات و سن نوري السعيد قوانين جائرة أجازت أسقاط الجنسية عن المنتمين الى الاحزاب اليسارية و زعماء المنظمات التي تساندها مثل حركة أنصار السلم و الشبيبة “و كل من يروج للمباديء الهدامة” فاعتقل الشهيد و نفي الى قرية نائية في جبال تركيا حيث أسقطت عنه وعن رفيقه المحامي كامل قزانجي الجنسية العراقية

و يسجل الاستاذ خالد عيسى طه زيارته للشهيد في منفاه هو و زملائه المحامين و يقول أنه رفض أن يأخذ حصته من مكتب المحاماة الذي أسسه هو و قال أعطوا حصتي للفراش “أبو فلان” و لمن يحتاج فأنا لم أعمل خلال هذه السنتين لاستحق حصة من الارباح.

بعد ثورة 14 تموز و عودته تم أستقباله أستقبالا جماهيريا هو والشهيد كامل قزانجي حيث حملهتما الجماهير على الاكتاف عند مفترق الجسر المعلّق و ألقى بالمستقبلين خطابا حماسيا قوطع بالتصفيق الحار عدة مرات و من كلماته ” جئنا الى العراق لنخدم العراق وقد حملت معي تربة الوطن لأنني جرء منه ولا يمكن لأي وطني واعٍ ان يكون خارج طموح الوطن واهداف شعبه”. سمعت أنه فعلا كان يحمل معه ترابا طلب من زائريه ارساله له الى المنفى.

عاود نشاطه في المحاماة و حركة أنصار السلام وطلب منه عبد الكريم قاسم أن يكون ضمن فريق مستشاريه القانونيين. و يقول خالد عيس طه ” اجتمع عبد الكريم قاسم بتوفيق منير وجرى بينهم حديث نقله لي توفيق منير، وكان أكثر الموالين لعبد الكريم قاسم جرأة عندما كان في قمة زعامته وشعبيته. تحدث عبد الكريم عن الحريات الديمقراطية وتولى الكلام توفيق منير بالرد قائلاً ا”ن الديمقراطية والحرية يجب ألا تُقيد بأي شكل من الأشكال وحتى ان تعطى للخصوم السياسيين”. كان رد عبد الكريم بأن هؤلاء الخصوم قد يشكلون خطراً، فأجابه توفيق منير بان هناك خصوم لهم وزن في إرادة الشعب العراقي الذي يحب عبد الكريم ويلتف حول نظامه.

كان هذا الكلام جريئاً وطلب توفيق منير منه أن يعتني بالقضاء والأمور التي تهم شؤون العدالة واقترح عليه تشكيل مجلس نيابي واجابه بوعده بأن الدستور العراقي الدائم سوف يصدر وتثبت كل المؤسسات الدستورية بما فيها المجلس النيابي اذا استقر الوضع السياسي حينها”. و أكد لي ذلك شاعر العرب الكبير المرحوم الجواهري الذي كان يحضر تلك الاجتماعات كم سأاتي على ذكر ذلك.

لكن الناصريين والقوميين و البعثيين دأبوا واستمروا على زعزعة الحكم بتشجيع من مصر.. توالت الأحداث وانقلب الوضع على الشيوعيين واليساريين حتى ألقى عبد الكريم قاسم خطاباً في كنيسة (مار يوسف) وضاق عبد الكريم قاسم باليسار ورموز اليسار فأعتقل الشهيد توفيق منير في البصرة لمدة سبعة أشهر ورفيقه المحامي خالد طه في كركوك .

في سنة 1986-1985 كنت في براغ في منحة دراسية من اليونسكو في جامعة تشارلس وتعرفت هناك على السيد رواء الجصاني أبن أخت الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري و في يوم ما دعاني أنا و صديق آخر مع الشاعر الكبير الى مطعم المثقفين الذي يحبه الجواهري وقدمني له بلقب العاني و بعد قليل بدأ يسألني عن شخصيات وطنية من مدينة عنه وأول شخص سألني عنه كان الشهيد توفيق منير فقلت له هو خالي فما كان منه الا و أخذني بالاحضان و القبلات. قال لي لم ألتق بحياتي برجل مثقف شجاع مدافع عن الحق مثل خالك ، و جاء الحديث عن ظروف أعتقاله قال لي ” حضرت جلسة مع خالك أنزعج منها عبد الكريم قاسم منه ، فبعد بدأ تحامله على اليسار و اعتقال البعض من رموزه قال له الشهيد في تلك الجلسة ” يا زعيم لاتحفر قبرك بيدك ” ثم كتب مقالة في جريدة الوطن أحتج فيها على فض أعتصام عمال معمل السجائر و أعتقال البعض منهم. سجن في االبصرة وبقي فيها ستة أو سبعة أشهر تم أطلاق سراحه هو وبعض من رفاقه تحت ضغط من المحامين و المثقفين ونصف مليون متظاهر أمام وزارة الدفاع. وبعد خروجه قابله الزعيم مرة أخرى فيما يشبه الاعتذار له.

في عام 1959 كان مع وفد برفقة عزيز شريف و عامر عبد الله و آخرون الى مؤتمر السلم العالمي الذي عقد في أستوكهولم وهي من المرات القليلة التي يشارك فيها في مؤتمر خارج العراق. قال لي المرحوم عامر عبد الله أنه تجول معه في بعض المناطق خارج أستوكهولم و بهره التقدم الذي حققته السويد يقول قال لي ” أمنيتي أننا سنحقق الرفاهية و التقدم للعراق بمثل هذا المستوى أنني أطمح أن نرى أضوية ساطعة في ريف العراق و مدنه، أحلم أن يحصل فلاحينا على الانارة و المدارس و المستشفيات و يقول له – تصور يا أبا عبدالله لو أن فلاحي الصويدة و العونية تمد لهم الكهرباء و المياه ( وهي قريتين في ريف عانة ملك لوالده و أعمامه) كم سيعيشون سعداء مثل هؤلاء السويديين و كم سيكونوا منتجين؟ و تخيل لو أن جميع قرى و مدن العراق ينعمون بذلك الا تعتقد بان السلام سيسود ولن نعود بحاجة الى جمعيات تدعو الى السلام” يقول المرحوم عامر عبدالله بأن الحزب الشيوعي طالب بترشيحه وزيرا للعدل باعتباره شخصية وطنية مستقلّة تحظى بقبول الجميع (هو لم ينضم الى الحزب الشيوعي مع أنه كان قريبا منهم). و تحتفظ أبنته سعاد بكارت بعشرة أسطر ليس فيه شيء سوى عن الوطن أرسله لها بالبريد أنقل منه قوله “كلمة العراق التي ألقاها عزيز شريف نالت أستحسانا كبيروا نقلت الى العالم هموم العراق و المؤمرات التي تحاك ضده و ضد البلدان العربيةمن قبل الاستعمار و أذنابه ” . كان حتى في حديثه مع عائلته و أولاده يحمل هموم الوطن.

في صبيحة يوم 8 شباط الاسود رفض دعوات من رفاقه الهرب و الاختفاء في بيت آمن و قال لهم أنه لن يصدق أن الانقلابيين سينجحون و حتى لو نجحوا فأنا لست عدوا لاحد و لم يكن يعلم أن ديدن أولئك المجرمون هو الغدر و البطش و الحقد على الديمقراطية و العدالة التي ينادي بهما لم يعرف أن المتبجحين بالقومية و العروبة قد أستأجرتهم المخابرات المركزية و شركات النفط الاستعمارية الحاقدة و بأعتراف أحد قادة الانقلاب علي صالح السعدي الذي قال في سنة 69 ” جئنا الى السلطة بقطار بريطاني – أمريكي دفعت تكلفته شركات النفط التي تضررت من قانون تأميم أراضي النفط ” مستخدمين أرذل فئة من الشقاوات و قطاع الطرق للقضاء على المنادين بالعدالة و السلم و بمباركة العملاء و الجواسيس المحليين والاقليميين الذين كانوا يزودوهم بعناوين الشخصيات الوطنية و اليسارية . أستهدفوا الشهيد الذي ذهب الى بيت أبن عمه الفارغ على مسافة 100 متر في الوزيرية و أتصل أحد جواسيسهم بثلة من عصابة الحرس اللاقومي الذين كان قسم منهم ملثما و تحركوا نحو الدار و حاصروه و صعدو الى سطح الدار و أردوه قتيلا برشاشاتهم الغادرة و رموه من فوق السطح. أستشهد وهو في الثامنة و الاربعين من عمره و هو في عز عطاءه.سٍجنوا أبنه ذو التاسعة عشر عاما الطالب في الصف الاول من كلية الهندسة في سجن باب المعظم قريبا من كليته ووضعوا شقيقه في سجن رقم 1 حيث كان ضابط أحتياط أقتيد مع مئات آخرين من الضباط في قطار الموت الذي جاء أبتكارا بعثيا قوميا بأمتياز سبق أفكار داعش بنصف قرن.

المجد و الخلود لروح الشهيد البطل و رفاقه الابرار، الخزي و العار لدواعش القرن العشرين القتلة الذين شاءت الاقدار أن ينال معظمهم مصيره المحتوم على أيدي رفقاهم واحدا تلو الآخر و ستبقى مباديء الشهيد و رفاقه منارا مضيئا في تأريخ الحركة الوطنية العراقية كما يقول االجواهري:

سلاماً: على جاعلين الحتوفْ ممرَّ المواكبِ ، جسرَ الزحوفْ

سلاماً: على المعدنِ النادرِ تأبّى على عَصْرِةِ العاصرِ

كنت معدنا نادرا وأبيا شامخا، خمسة وخمسون عاما ولا زال حتى من ولدوا بعد رحيلك يشيدوا بتأريخك و نضالك و شجاعتك النادرة.