في رحيل الأَب البير أبونا.. الرَّاهب المؤرخ

في رحيل الأَب البير أبونا.. الرَّاهب المؤرخ

رشيد الخيون

رحل يوم السَّبت (4 كانون الأول/ ديسمبر 2021) الأب البير أبونا، عن عمر ناهز الثلاثة والتسعين عاماً، صرف جله في الكهنوتية وكتابة تاريخ الكنيسة، مؤلفاً ومترجماً. سمعت بالأب البير أبونا مِن قبل، من خلال حاشية كتاب اقتبس منه أو مقال كًتب عنه، وسمعت عن كتابه «تاريخ الكنيسة الشَّرقية»،

وبما أنه سيسد لي ثغرة في كتاب “الأديان والمذاهب بالعراق” الذي صدر العام 2003 و2006 وصدر في ثلاثة مجلدات(2016)، بقيت أبحث عنه، ولم أحصل عليه إلا بعد أن قادتني خطاي إلى قضاء الشَّيخان، حيث معبد الدِّيانة الإيزيدية، وفي عرض الطَّريق لحظت لوحة كتب عليها “قرية هرماش” أو “هرماشي”، فرغبت بالوقوف عندها.

فالمشهد يجذب المسافر، حيث تلوح قبة الكنيسة وسط ريف أخضر، استقبلني الرَّاهب، المشرف عليها، بترحاب وقادني إلى رحابها، فنظرت مكتبة صغيرة أحتوت على كتاب “تاريخ الكنيسة الشَّرقية”(ثلاث أجزاء)، أكرمني به الرَّاهب بعد إلحاحٍ شديد، بعد أن قال لي: إنه موجود في مكتبات بغداد والموصل! فقلت له: هناك ما يمنعي من الذهاب إلى هناك، فالزمن كان خريف 2000 والنظام الذي هربت منه كان لا زال قائماً.

من ذلك التاريخ انطبع اسم البير أبونا في ذاكرتي، وبعد زيارة أربيل في العام الماضي دخلت مكتبة بقصبة عين كاوة، ووجدت أكثر من كتاب لهذا الأب، ولما سألت عنه، قال لي صاحب مكتبة الرجاء: إنه موجود قريباً من هنا، يُقيم في مطرانية أربيل، فكان اللقاء، وبما أني كنت مغادراً في اليوم نفسه وعدته بالعودة، وجاءت الفرصة عند زيارة السليمانية (نوفمبر 2012)، فتهيأت لي الفرصة وأجريت معه حواراً مطولاً.

الرجل لضيق أحوال هاجر إلى السُّويد، لكنها شهور وعاد أدراجه إلى العِراق، فالحياة هناك لا تناسبه وهو ابن الثَّمانين، ولم يجد روحه وبدنه قابلان على تحمل الاغتراب. ففي الثَّمانين أنشد الفقيه الشَّافعي أبو زيد محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد المروزي(ت 371 هـ) لبعض الفضلاء (وفيات الأعيان):

قالوا أنينيك طول الليل يُسهرنا

فما تشتكي؟ قلت: الثمانينا

ولد البير أبونا بقرية فيشخابور 1928 التابعة لمدينة زاخو، أقصى شمال العِراق، ودخل مدرسة القرية الابتدائية، وهي مدرسة حكومية، وكان فيها معلم واحد، تعلم فيها حتى الصف الرابع. والعادة الجارية هناك أن من ينهي هذا المستوى من الدِّراسة يترك المدرسة ويعمل مع الأهل في الزراعة. لكن والده، على الرغم من أنه كان فقيراً، تمنى لولده الاستمرار في التعليم، فأخذه إلى مدينة زاخو، لكنه لم يتأقلم مع أجوائها، فعاد إلى القرية، وقرر الانخراط في السلك الديني والدراسة الدينية، بحُكم تأثيرات مجاورة البيت للكنيسة.

حينها بدرت لديه الفكرة أن يصير كاهناً، مع أن والده كان يمانع في أن يذهب ولده الوحيد (مع أخت) للدراسة الدينية بالموصل، ومع ذلك رحل ودخل معهد مار يوحنا الحبيب، وكان ذلك في نهاية العام 1941 أو 1941، ومدة الدراسة في المعهد تستغرق عشر أعوام.

في الستة الأولى تُدرَّس اللغات، من العربية والفرنسية واليونانية وغيرها، والأربع أعوام الأخرى يتم تدريس الكهنوت أو اللاهوت، والدراسة كانت بالفرنسية، ومن العام الأول يجبر الطَّلبة على التحدث بالفرنسية، فالآباء الدومنيكان الفرنسيين هم الذين يديرون المعهد، لذا كانت اللغة الأولى في المعهد الفرنسية، وحتى الدروس الأخرى العلمية، من كيمياء وفيزياء وغيرها كانت تدرس في اللغة الفرنسية.

قال لي: درس في هذا المعهد علوماً كثيرة كاللاهوت الأدبي والفلسفي وغيرها، وفي العام 1951 تمت رسامته كاهناً، وكمرحلة أولى ولأنه عائد إلى منطقة زاخو، حيث الأبرشية هناك ويرأسها مطران، عينه المطران بمنطقة سليفاني كاهناً مسؤولاً عن عدة قرى. ولعدم وجود وسائط النقل اشترى حصاناً ليسهل عليه التنقل بين القرى المسؤول عنها.

آذاك لم تكن هناك كنائس، بل تُستغل غرفة مختار القرية لإحياء المراسم الدينية، فلا توجد كنيسة إلا بقرية واحدة، ويصعب جمع سكان القرى الأُخر فيها. كان يتجول للمهام الدينية بين خمس قرى، وقد ظل على هذا الحال لأربع سنوات، وفي العام 1955، وفي غفلة، على حد عبارته، قدحت في ذهنه نزعة علمية، لا تستطيع القرية اشباعها له، فلا مكتبات ولا معاهد. وفي يوم من الأيام جاءته رسالة من دون تخطيط أو قصد، من رئيس المعهد الذي تَعلم فيه بالموصل. تقول الرسالة: “نحن بحاجة إليك أن تأتي إلينا للإقامة والتدريس، والسبب أن المختص توفى”. وكان خورياً فطناً وقد درسه. فأجاب مدير المعهد بأنه مرتبط بواجب ديني لهذه القرى، لكن مدير المعهد رتب الأمر مع مطران المنطقة قبل أن يرسل الرسالة إليه.

ومن ذلك اليوم أخذ الأب أبونا يُدرّس في المعهد الكنسي لمدة 18 عاماً، السريانية والعربية وأحياناً الفرنسية (1955-1973). في ذلك الوقت بدأ يتطلع لكتابة تاريخ الكنيسة الشَّرقية. كان يجمع بين التدريس والرهبنة بالنُّزول إلى القرى التي كان مسؤولاً عنها، استغل أيام العطل بقضاء حاجاتهم الدينية، وظل على هذا الحال حتى 1973، فشعر آنذاك أن هناك من يحارب المعهد من قبل المسيحيين أنفسهم، ويعني البطريركية، لأنها كان لديها معهد مثله.

ففي الأول كان الباطريرك شيخو أراد دمج المعهدين، وقد حبذوا الفكرة، لأنها حسنة وشجعها صاحبنا، وذهب مع آخرين للتدريس في معهد البطريركية استعداداً للدمج، لكنه حتى نصف السنة تراجع عن الفكرة، وقد نقلت البطريركية معهدها إلى بغداد، فشعر بعدم ارتياح، فطلب من مدير المعهد أن يعفيه من الخدمة، والرجل بكل طيبة نفس، وهو فرنسي من الآباء الدومينكان، قال له: “المعهد بيتك، وليس هناك من يقول لك اخرج منه، لكن أن ترى راحتك والمكان باق مكانك”. فتحول صاحبنا إلى بغداد.

بعدها أخذ يُدرس في جامعة بغداد الآرامية، وكان يدرس الفرنسية في جامعة الموصل، وكان افتتح القسم فيها. درس الآرامية لثلاث سنوات، بعدها سافر إلى فرنسا وانتمى هناك إلى الرهبنة الكرملية المعروفة، ولما عاد إلى بغداد عمل مع الكرمليين ببغداد، وكان عندهم مركز “أذراع فاطمة”، والاسم مأخوذ من مكان بالبرتغال اسمه فاطمة، وفيه ظهورات العذراء، وبقى مع الكرمليين 18 عاماً، وكان يعمل في الخدئة الكهنوتية، ويدرس في الجامعة في الوقت نفسه، بعدها تركهم منتمياً إلى الرهبنة الكلدانية، وكان لديهم ديراً ببغداد.

كانت دوافعه الداخلية، أن الرهبنة الكلدانية بحاجة إلى انتعاش أو تنشيط، فقال: لربما أن الله يساعده لتحقق هذه الغاية، وقد اسقبلوه بترحاب وحبور، لكن ما أن شعروا بأنه يريد التجديد، أو تغير بعض الأشياء لم يوافقوا على هذا، إنه صراع القديم مع الحديث، وهذه سُنة الحياة.

بهذه الكلمات ختمت الشَّطر الأول من اللقاء بالمؤرخ والراهب البير أبونا، لكن ما يستحق ذكره، من الأجزاء الأُخر، أن يحصل التشابه بين احتلال بغداد السَّنة 1258 ميلادية من قِبل المغول، ويفتح المسيحيون كنائسهم وأدريتهم ومنازلهم لمواطنيهم المسلمين، واحتمى عندهم الكثيرون، وأن يُكرر الموقف في آذار - أبريل 2003 ويفتح الأب البير أبونا وبقية الرهبان مطرانيتهم ببغداد، وتحديداً بالكرادة، فشاطرهم في سكنها أبناء المحلات المجاورة بعائلاتهم حتى وضعت الحرب أوزارها.

وأنا استمع للأب البير أبونا أفكر في أمر تلك القرى، وذلك التاريخ الطويل للمسيحية بالعراق، وقد أهداني كتابه “الدَّيَّارات في العراق”، وما مستقبل تلك الشَّراكة وزمن التَّعايش الطويل، وما مرَّ عليه من اجتياحات وحروب، لكن العِراق ظل ظلاً وارفاً على الجميع. أعيد وأذكر بما قيل في حفل تكريم الأب أنستاس الكرملي (ت 1947) ببغداد العام 1929 (مجلة لغة العرب) :

وعشنا وعاشت في الدُّهور بلادنا

جوامعنا في جنبهن الكنائس

وسوف يعيش الشَّعب في وحدة له

عمائمنا في جنبهن القلانس

في هذا المقال أُلفت النَّظر إلى مثل هؤلاء الجادين، الذين أكلت عمرهم الأقلام والأحبار، وتركوا علماً غزيراً وثقافة أصيلة، لم يطلب مني البير أبونا أن أكتب هذا، بل على العكس كان زاهداً في مقابلة أو حوار وقبل بها على مضض، لكن أجد له حقاً في هذه الدِّيار، وقومه مِن سُكانها القدماء. تركته وكأني أترك أثراً إن ضاع ضعت بضياعه.