كيف صارت جوان ديديون الكاتبة، جوان ديديون الأسطورة؟

كيف صارت جوان ديديون الكاتبة، جوان ديديون الأسطورة؟

مجدى عبد المجيد خاطر

وصلت جوان ديديون إلي لوس أنجلوس عام 1964 في طريقها كي تصير واحدة مِن أهم كُتّاب جيلها، أيقونة ثقافيَّة غيّرت نظرة لوس أنجلوس لنفسها. الكاتبة الشّابة ليلي أنولك تنقِّب بالسنوات الأولي للمؤلِّفة لتتفحّص ديديون قبل كتابة نصّها الأشهر وداعاً لكل ذلك.

في أولى مقالاتها عام 1969 لمجلّة لايف، ذكرت جوان ديديون أنّها وزوجها جون جريجوري دون، قضيا أياماً بفندق رويال هاواي في هونولولو بدلاً من الطلاق قَطْعاً هي الجملة الاعتراضيَّة الأشهر في تاريخ الصحافة الحديثة، جملة متمرّدة إن كان ثمّة جملة متمرّدة يوماً. رصانة، وعنف، وأناقة امرأة مُشاغبة - كاتبة تصلح أن تكون بطلة بأحد أفلام جودار!- تسلب الأنفاس حتّى بعد كل تلك السنوات. تستمر ديديون: »لا أفشي هذه الحادثة بلا هدف بل لأني أرغب أن تعرف، وأنت تقرأني، مَن أنا تحديداً وأين أنا وماذا يدور في عقلي. أريد أن تعي بالضبط ماهية ما تظفر به أحسب أنّني أعمل بتأثير حوافز مُشابهة مزيج من الصّراحة وتبرير الذّات وتضخيمها، هَلَع أن يُساء فهمك مقروناً بقناعة مفادها أنّ إساءة الفهم لا مناص منها (إنّ أسلوب ديديون آسر، لكنه لا يضاهي طريقتها في التفكير)- حين أقول لكم أنّني أخشاها.

قبل أن أخوض بالأسباب، أريد أن أوضح شيئاً قلته. أو بالأحرى، شيئاً لم أقله ولن أقوله، لكن يدهمني قلق أن تتصوّر أنّني قلت: أنّ ديديون ليست كاتبة لامعة. بل هي كذلك- عبارة تلو الأخري بين ما أفضل ما أنتجته هذه البلاد يوماً، كما أني لا أنازعها منزلتها بوصفها أيقونة ثقافيَّة أيضاً؛ فبقدر ما تلوح لنا كبيرة الآن، ستظلّ كبيرة دائماً مع مرور السنين- أراهن علي ذلك. في الحقيقة، لا أرغب بالحطّ منها ولا إهانتها بأي حال، بل استيعابها بشكل صحيح. فعلي مدى السنوات الإحدى عشر الماضية، منذ عام 2005، حين نشرت الجزء الأول من سيرتها المكوّنة من جزءين، واحد عن خسارة دون والآخر عن ابنتها كوينتانا، تعرّضت ديديون لإساءة الفهم. ليس مُجرّد إساءة الفهم، بل إساءة الفهم الفظيعة، إساءة الفهم حدّ توجيه السباب لها. أتكلّم عن تطويب ديديون، ديديون بوصفها القديسة جوان، ديديون بوصفها السّيدة العذراء، أمّنا. ليست ديديون، اسمحوا لي بالتكرار، امرأة مُقدّسة، ولا هي أمّ لنا. بل امرأة لا مباليَّة، قاسيَّة، ولامبالاتها وقسوتها- التي تجمِّد الدّم في العروق طبعاً، لكنها منشِّطة كذلك- هما مصدر جاذبيتها إلي جانب صنعتها الفنيَّة، ومصدر بهائها أيضاً، وغوايتها؛ لأنّها مغرية، جداً. هي في جوهرها امرأة لعوب لا تُقاوم. هي قبلة الموت، ومع ذلك نفتح لها أفواهنا، ونقبلها.

مع ذلك، لا أريد من وراء هذا النصّ الوصول إلي ماهية ديديون، بل هوليوود أيضاً. وهكذا، من أجل التأليف بينهما حيث ينتميان، كقرينين بالفطرة، أعلن: أنّني أظن ديديون إلي جانب آندي وارهول، توأمها الرّوحي كما هو توأمها الفنّي، اختلقا لوس أنجلوس- حقّاً، لوس أنجلوس الحديثة، المعاصرة، لوس أنجلوس التي هي مرادف هوليوود. وأعتقد أنّ ديديون وحدها كانت الأداة- أو ربّما الوكيل- لتخريب لوس أنجلوس. أعتقد أنّ ديديون بالنسبة لمدينة لوس أنجلوس، هي ملاك الموت.

ها هو ذا، لقد نطقت بالحقيقة. الآن تعلم سبب خوفي. مَن يرغب أن يُعادي الموت؟ ليس هذا ما أتصوّر أنّني أصبو إليه. لأنّ لديّ شيئاً أخيراً كي أضيفه، ولا أبالي كم سيبدو شاذّاً أو مجنوناً: أعتقد أنّها نفسها رغبت أن أقول ذلك.

امرأة ساذجة .. مراوغة

لم تكن جوان ديديون التي انتقلت من نيويورك إلي لوس أنجلوس في يونيو 1964 تتعدى كونها امرأة عادية كما كانت نورما جين بيكر قبل أن تصير مارلين مونرو، أو ماريون موريسون قبل أن يصير جون واين، أو فيما يتعلّق بهذا الشأن، أندرو وارهولا قبل أن يصير آندي وارهول. كانت بنت بلد، لكن في حدود ما. كانت كاليفورنيا التي نشأت بها- وادي ساكرامنتو- أقرب في روحها إلي الغرب القديم منها إلي مستعمرة سينما مهووسة بالمتعة، تعانقها الشّمس. كانت في الثلاثين، وقد تزوّجت للتو من دون. كلاهما كان يعمل صحافيَّاً، هي في مجلّة فوج، وهو في مجلّة التّايم. وقد نشرت في العام المنصرم كتابها الأول، رواية عاديَّة، إن لم نقل تقليديَّة جِدّاً اسمها لِتجري أيُّها النّهر، لم يعرها النقّاد أي اهتمام يُذكر، وكذا القراء. مستاءة، وعلي الأرجح تحسّ ببعض الغضب أيضاً، كانت علي استعداد لمشهد جديد، وكان دون هو الآخر توّاقاً لمغادرة المدينة. فضلاً عن امتلاكه شقيقاً في الصناعة، دومينيك- نيك.

في مذكّراته، ، كتب وارهول: »كانت هوليوود التي نقصدها ذلك الخريف عام 1963 يبتلعها النسيان. انتهت هوليوود القديمة ولم تكن هوليوود الجديدة قد بدأت بعد. بالطبع لم تكن هوليوود القديمة قد عرفت أنّها انتهت، بل كانت تدور شأن صناعة السينما العاديَّة، ولم تكن قد انتبهت بعد للربيع القادم حين وصل الثنائي ديديون- دون.

نيك، رغم شبابه، كان يُمثِّل هوليوود القديمة. مهنيَّاً لم يكن قد حقق نجاحاً: منتج من الدرجة الثانية لعروض تلفزيونيَّة عاديَّة. لكنه علي المستوي الاجتماعي أصاب نجاحات رفيعة. كان يقيم الكثير من الحفلات الأنيقة المسرفة برفقة زوجته ليني. وكانا قبل وصول الثنائي ديديون- دون قد أقاما حفلهما الأكثر أناقة وإسرافاً، حفل راقص مستوحي من مشهد آسكوت في فيلم سيدتي الجميلة (مسألة أنّ الحفل الرّاقص-حفل راقص!- لم يكن ملوّناً تفصيلة دقيقة جِدّاً. ذلك أنّ المدينة بأكملها تعطّل إحساسها، وتلك الأمسيات تتراءى عتيقة الطراز كأنّها بالأبيض والأسود حتّي وإن كان الواقع خلاف ذلك). بين نجوم هذا الأبيض والأسود الرائع: رونالد ونانسي ريجان، دافيد سلزنيك وجنيفر جونز، بيلي وايلدر ولوريتا يونج وناتالي وود. كان حاضراً أيضاً، ترومان كابوتي الّذي، في لفتة تعبر عن مراوغة أو حنين، يودّ أن يقيم حفله الراقص الأبيض والأسود في نيويورك. ستضيع دعوة نيك في البريد.

في السنوات التالية، ستلعب ديديون ودون لعبة مزدوجة مع هوليوود: كانا شريكين ومتفرجين في الوقت ذاته، تدعمهما الصناعة لكن لا تمتلكهما، في بؤرة الاهتمام وفوق الخلافات. لاحا أقل تردداً في سنواتهما الأولي، وفي تلك السنوات أرادا الدخول. كانا يرددان عبارة جاءت في رواية ف. سكوت فيتزجيرالد »آخر أباطرة المال«، بصورة بدا معها أنّهما لابد تصوراها من آيات الإنجيل: »في هوليوود لا نحتشد لأجل الغرباء«. كم كانا سعيدي الحظّ أنْ كانا شقيقاً وزوجته لنيك، وبالتالي جزءاً من عائلة هوليوود، وإن كانا أقارب فقراء. وكما هم الأقارب الفقراء، فقد حصلا علي أشياء بالية: (بالنسبة لديديون) ناتالي وود، وبيوت أيضاً. استأجرا منزل سارا مانكفيتش المؤثث، رغم أنّ الأخيرة لم تحزم جائزة الأوسكار التي فاز بها زوجها الرّاحل هرمان عن كتابة المواطن كين.

هكذا أرادت ديديون ودون دخول هوليوود ودخلاها، لكنهما أرادا التورّط أكثر. وإغراء هوليوود للكتّاب ليس عصيَّاً علي الفهم: فهي المكان الوحيد تقريباً الّذي يمكنهم فيه الثراء فجأة. تبدو الكتابة في هوليوود من أجل المال وثيقة الصلة بالطريقة التي يظل بها أي كاتب موضع تقدير، علي الأقل في عيون زملائه من الكتّاب. يقول الكاتب دان وكفيلد، وهو صديق للزوجين من نيويورك: »لم يكترثا بشأن السينما إلا بوصفها طريقة لكسب الكثير من المال. وقد احترمت ذلك تماماً«. ربّما كان الزوجان فقط أكثر من محتالين، كان دون قد كتب مرّة : »قبل أمس، بعد التصوير، خرجنا لحضور حفل مع مايك نيكولز وكانديس بيرجن ووارن بيتي وباربرا سترايسند. لم أفعل ذلك قطّ في مجلّة التايم«. كانا يفعلان ذلك آنذاك بدافع الحُبّ أيضاً، إن لم يكن حبّ السينما، فهو حبّ التألق والشهرة المحيطان بصناعة السينما. يقول الكاتب جوش جرينفلد وهو صديق للزوجين من لوس أنجلوس: » كانت جوان وجون نجمين مُريعين، ولم يفتهما حفل واحد«. ويتذكّر دون باكردي، الفنّان وعاشق كريستوفر ايشروود فترة طويلة، قبل تحوّله إلي شخصيَّة مسيطرة في المشهد الأدبي بلوس أنجلوس، سعيهما المتوقِّد وراء ايشروود: »كانا شديدي الطموح، وكان كريس درجة في السّلم الذي كانا يتسلقانه. لا أحبّ الوشاية عن كريس لكنه لم يحبهما كثيراً. وأعتقد أنّه رأي فيها امرأة لزجة« . (لقد وشي ايشروود بالفعل عن نفسه، حين أشار إليهما أكثر من مرّة بوصفهما- »السيدة تعاسة والسيد العارف بكل شيء«- في يومياته).

تبدو الخطّة الأساسيَّة، حكمة المهنة، كالآتي: لا ريب أمّد نيك ديديون ودون بمقدمات وجرّب الزوجان أيديهما، معاً- لابد أنّه جهد جماعي- في كتابة السيناريو. ستبقي أيديهما خاملة طوال سبع سنوات، دون احتساب حلقة في Kraft Suspense Theatre. طيب، خاملة وملآنة. عام 1964 استهلّت ديديون علاقة مع مجلّة ذات احترام واسع فيما يتعلّق بحساسيتها واهتماماتها، ذا سترداي ايفينينج بوست. ستمثِّل الموئل الأساسي لكتابات ديديون إلي أن يشهر ناشرها إفلاسه عام 1969. سنة 1966، ترزق بطفلة- أو، ترزق بطفلة دون أن تلدها؛ إذ تبنّت هي ودون طفلة اسمها كوينتانا روو، لدي ولادتها مباشرة. وهكذا صار لدي ديديون الكثير كي تبقى مشغولة.

إلي جانب ذلك، لم تكن بحاجة إلي السينما كي تصبح نجمة.

عن جريدة اخبار الادب