جابر عصفور.. اللقاء الأول

جابر عصفور.. اللقاء الأول

حسين حمودة

لقاؤنا الأول، أواخر سبعينيات القرن الماضي، كان في مدرج مجاور لقسم اللغة العربية بكلية الآداب، جامعة القاهرة.. كان عائدا من الولايات المتحدة، وكان يدرّس لي مادة النقد الحديث.. وكنت تلميذا مشاغبا، أكتب الشعر، وأعتدّ بما أتصوره مفاهيم صحيحة عن الأدب والنقد. عندما فتح باب النقاش تحدثت مختلفا معه، مؤيدا حديثي بالأسانيد، وظل هو مبتسما. بعد المحاضرة ناداني، وتعرّف عليّ، وشجعني على الاختلاف.

من يومها توطّدت الصلة بيننا. (وبعد المحاضرات الأولى، وكان قد قرأ بعض قصائدي، اصطحبني لتسجيل حلقتين بالإذاعة عن شعري مع الأستاذة هدى العجيمي). مرة واحدة، في محاضراته، ضاق باختلافي، وسخر من ردّي عليه.. فقاطعته وأنا داخل المدرج على الفور: أخرجت ورقة وبدأت أرسم، وقد لاحظ هذا بوضوح، وكنت جالسا في الصف الأمامي (كنت أجلس هكذا في محاضراته، أنا الذي أختار الصفوف الخلفية في أي مكان فيه صفوف للمقاعد).. بعد المحاضرة ناداني، وطيّب خاطري، وقال لي ما معناه: لا تتضايق.. وقال كلاما كثيرا عن أهمية مشاركتي في النقاش، وإن "الطالب اللمض بيخللي الأستاذ يحس بروح المحاضرة"..

من ذلك التاريخ البعيد، وحتى شهر قد انقضى، خلال الصلة التي لم تنقطع، كنت أغيب أحيانا، ويسافر هو أحيانا، لكن التواصل ظل قائما. "إنت ياعم حسين ما بتسألش ليه عن أستاذك.. هوه موش برضه أنا أستاذك واللا إيه؟".. كانت هذه عبارته في بعض المكالمات عندما تطول فترة الغياب. وتعبيرات "ياعم حسين"، و"ياحسين"، و"ياحبيبنا" و"ياراجل ياطيب" .. كانت تتردد في بدايات مكالماتنا، وتتنوع حسب الرسائل التي يريد توصيلها لي.

بعد اللقاء الأول بفترة قصيرة دعاني إلى منزله القديم. جلسنا في البلكونة الطويلة التي سوف نجلس بها مرات عديدة شهدت أحاديث مطولة، ومن هذه الأحاديث نصائح قدمها لي وهو متيقن من أنني لن أعمل بها.. "طول عمرك ها تفضل خايب".. عبارة قالها لي غير مرة. وغير مرة أخذني من يدي لنزور الدكتور فيصل يونس (هوه مريض ولازم نزوره.. ها تتبسط لما تتعرف عليه)، أو لنذهب إلى ندوة، أو للقاء الشاعر الراحل محمد صالح.. وفي البلكونة نفسها جلسنا قبل سفره إلى السويد، وباح لي بما لم يبح به من قبل، وحدثني عن أستاذه النبيل الدكتور عبدالعزيز الأهواني الذي كان له بمثابة "أب" حقيقي ممتلئ بالحنوّ، وعن "أمّه العلمية"، الدكتورة سهير القلماوي، وعن آخرين وأخريات..

في المسيرة الحافلة التي قطعها، وفي المساحة التي استكشفها لحضوره الثقافي والنقدي خارج أسوار الجامعة، ظللت قريبا منه في أماكن شتى: في المجلس الأعلى للثقافة (القديم والجديد)، وفي مقر مجلة "فصول"، وفي دار الكتب، وبدرجة أقل في المركز القومي للترجمة... كان يأتنس بصراحتي في إبداء آرائي، ويقدّرها، ويراها أكثر جدوى من عبارات المجاملة السريعة والسهلة التي يسمعها غالبا. وخلال هذه الأماكن شهدت معه الكثير من المشاهد، واستكشفت الكثير من كفاءاته الإدارية، ولمست الكثير من القيم التي انطلق منها وآمن بها.. وبمناسبة المجلس الأعلى "الجديد"، صعدت معه على "السقالات"، وهو يتفقد أعمال البناء، ويقدم اقتراحاته للمقاول، وكأنه يبني بيته الخاص.. وقد أصبح المجلس، بالفعل، بيتا له، ولكنه جمع فيه مَن يصعب الجمع بينهم، من أهل الإبداع والثقافة، من مصر ومن البلدان العربية ومن غير البلدان العربية.

ظل طوال معرفتي به محمّلا بطاقة هائلة على العمل، وبقدرة هائلة على التفاؤل، وبروح بسيطة محبة للحياة.. وقد تصورته دائما (شأنه شأن برج الحمل) غير بعيد عن روح "الطفولة".. في زمن متأخر، عندما كنت أقول له إنه يشبه ابنتي وأختي (من البرج نفسه) في هذه الوجهة، كان يتضايق قليلا: "ماشي يا فالح.. خلّيك في خزعبلاتك".. وظل تفاؤله الدائم سمة ثابتة من سماته. مرات قليلة شهدت انكساره بعد فقد مقرّبين ومقرّبات إليه: صلاح عبدالصبور، وأمل دنقل، ومحمد صالح، ونصر أبو زيد.. ولكن الانكسار الأكبر كان مع رحيل ابنته سها.. لكنه كان يتجاوز الانكسارات بسهولة وبسرعة وبالاستعانة بالعمل الكثير.. وقد ساعده على تجاوز رحيل ابنته أن ابنه أحمد قد تزوج وأتى له بالحفيدة الأولى، التي ساعدته كثيرا على التماسك والعودة إلى تفاؤله الثابت المقيم.. وكثيرا ما حدثني عنها وعن سعادته بها.

طاقته الكامنة كانت تظهر في مواقف كثيرة، وكانت تتدفق مع مشاهد الكتب.. رأيت هذا في تعامله معها في مكتبة بيته القديم والجديد، وفي دار الكتب، وأيضا في "سور الأزبكية" الذي ذهبنا إليه مرة معا: كان يقلّب الكتب بشغف عظيم.. تجعلك تشعر أنه يرى الورق كائنات تنعم بالحياة..

الندوات التي شاركت فيها عن أعمال له، في هيئة الكتاب، وفي مكتبة القاهرة بالزمالك، وفي معرض الكتاب بمكانيه القديم والجديد، كان متسامحا فيها مع كل ما أقول.. سعيدا بأنه "ربّى تلميذا قادرا على الاختلاف مع أستاذه".. لكنه، بعد الندوات، كان يفتح أبوابا لنقاشات فيما بيننا.. لم تنته أبدا، وأتصور أنني سوف أفتقد هذه النقاشات مع افتقادي له، برحيله الذي ما زلت أرفض تصديقه على الرغم من أن الصديقة المبدعة فاطمة المعدول، خلال الأسبوعين الماضيين، في عدد من المكالمات بيننا، كانت تقوم، بذكاء ولطف، بنوع من "تهيئتي" لتقبل رحيله غير البعيد الذي توقّعته بحدسها.

غير مرة عرض عليّ بعض المناصب، ورفضتها.. وتقبل ذلك على مضض.. لكن في إحدى مكالماتنا، قبل حوالي شهر، قال لي: "تصدق إنك مع خيابتك كنت صحّ؟.. إنت ريّحت دماغك".. وفي المكالمات نفسها كانت نبرة صوته تحمل قدرا طفيفا من الألم.. "ياعم حسين أنا بقيت فوق الخمسة وسبعين".. وأنا انفعل صوتي: "إيه يعني خمسة وسبعين.. الأستاذ نجيب عدّا التسعين وكانت صحته زي الفل.. المهم حضرتك تاخد بالك من صحتك وتلتزم بتعليمات الأطباء".. وهو ضحك.. وقال إنه ملتزم..

كنا على اتفاق، قبل أسابيع، لتحديد موعد لمناقشة رسالة قام بها تلميذه هشام زغلول (وهو زميل لنا بقسم اللغة العربية).. وتأجل اللقاء بسبب دخوله المستشفى.. وفي مكالمة متأخرة أخبرني بأنه سيخرج غدا منها.. وعرفت فيما بعد أنه قد دخل مستشفى آخر.. وكانت رحلة معاناته الأخيرة..

الدور الذي قام به في حياتي، كأستاذ لي، يكفي لكي يجعله باقيا معي فيما تبقى لي من فترة للعيش في هذه الحياة... ولكن الأدوار الثقافية والنقدية التي قام بها، في مصر والوطن العربي، تجعله باقيا لدى كل من عرفوه، أو اقتربوا منه.. وطبعا مع كل من قرأوا أعماله المشهودة التي صاغت نتاجه الغزير.. الذي نجح فيه نجاحا باهرا في أن يتخطى أسوار كثيرة، وأن يصل الكتابة بأسباب الحياة التي لا تكف عن التدفق والتجدد، وأن يدافع عن قضايا أبدية تستحق الدفاع عنها في كل عصر وكل أوان...

[من «كتاب الراحلين المقيمين»]