جابر عصفور.... الأستاذية في نموذجها الأعلى

جابر عصفور.... الأستاذية في نموذجها الأعلى

خيري دومة

هل تصدق يا أستاذي أن هذه أول مرة أكتب عنك؟!

كنت لسنوات طوال قريبا منك جدا في أماكن كثيرة، في قسم اللغة العربية، وفي المجلس الأعلى للثقافة، وفي المركز القومي للترجمة، في مؤتمرات مختلفة هنا وهناك، لكن صورتك التي تحتل خيالي الآن، يكاد يلخصها صوت واحد: صوت أستاذ يتحدث، ويتدفق في الحديث.

عام 1980 كان جابر عصفور أستاذا شابا لامعا، يدرس لنا نحن طلاب الفرقة الأولى مقررا اسمه "مدخل إلى الدراسة الأدبية" في مدرج 78، وبعدها مقرر "النقد العربي القديم" في مدرج 74. وعلى مدار ساعتين أو أكثر نجلس أمامه مشدوهين من طلاقته وحديثه - دون توقف ودون خطأ- عن ابن طباطبا أو قدامة أو حازم، عن محمد مندور وعن نجيب محفوظ، يشرق بنا ويغرب ويضرب بنا في كل اتجاه. كان حديثه يفتح أبوابا على الغامض والمجهول ويدعونا إلى اقتحامه، كانت المرة الأولى التي نقرأ فيها مجموعة مثل "حكاية بلا بداية ولا نهاية" لنجيب محفوظ، والمرة الأولى التي نقرأ فيها كتابا جميلا مثل "مقدمة في نظرية الأدب" لعبد المنعم تليمة، كل هذا ونحن لا نزال طلابا في السنة الجامعية الأولى، جئنا من قرانا البعيدة بتصورات نمطية عن اللغة العربية ودارسيها ومدرسيها.

تأتيني صورته الثانية من عام 1990- 1991، وهو يجهز في قسم اللغة العربية الذي يرأسه، لعقد مؤتمر كبير عن طه حسين، ثم مؤتمر آخر عن نجيب محفوظ ، بينما يلتف حوله جيل كامل من الشباب يتحسسون طريقهم إلى العلم والمعرفة والحوار.

في أواخر التسعينيات عرفنا وجها آخر لجابر عصفور، أستاذ يدير مؤسسة حكومية كانمت تعيش في الظل، فيحولها إلى طاقة متفجرة، يبدأ مشروعات كبيرة، ويجهز لمؤتمرات، يدعو لها المثقفين والنقاد والدراسين من كل مكان وفي مختلف التخصصات. وحول هذه المشاريع والمؤتمرات تكونت حالة كبيرة أعادت للقاهرة وجهها المشرق الذي تسمع فيه الأصوات من كل اتجاه.

في افتتاح كل مؤتمر يقف جابر عصفور الأستاذ، طلقا مفوها مشرفا، يتحدث ويتحدث، ويكشف عن معرفة وعلم وثقافة وذكاء لا مثيل له.

خلال كل هذا، كنا لا نكف نحن تلاميذه عن الاختلاف معه، ونناكفه بالطريقة التي علمنا إياها، لكننا كنا نفخر بالانتساب إليه. كنا نخشى قدرته على الاحتشاد وتجميع الحجج في مواجهة خصومه، وكنا نخشى لسانه ونبرة صوته الساخرة المقرعة، وقدرته على قراءة بحثك في دقائق معدودة ليحدثك عن تفاصيله؛ فنستعد لهذا كله بمزيد من القراءة والمعرفة. كنا نختلف لأننا نعرف أنه سيحبنا بقدر اختلافنا معه، ويفخر بمقدرتنا نحن تلاميذه على تطوير أدواتنا.

جابر عصفور حلقة لامعة في سلسال طويل من الأساتذة البناة العظام لثقافتنا الحديثة، سلسال بدأ بطه حسين ونأمل ألا ينتهي برحيل كثيرين منهم في الأعوام الأخيرة، عبد المحسن بدر وتليمة وحجازي والعطار ونصر أبو زيد وسيد البحراوي..

خسارتنا كبيرة على كل المستويات يا أستاذي، ويصعب تعويضها، لكنه الأمل يحدونا إلى الاحتفال بمولدك المتجدد وأن نكون في رعاية ما غرسته من أحلام حتى يصير أشجارا.