خطاب الهوية عند الروائي أمين معلوف

خطاب الهوية عند الروائي أمين معلوف

د.علال سنڤوﭬــة
"لقد علََّمتْني حياةُ الكتابةِ أنْ أرتابَ من الكلمات، فأكثـرها شفافيةً غالبًا ما يكونُ أكثـرها خيانة ً.وإحدى هذه الكلمات المُضلِّلة هي كلمةُ هوية تحديدًا."*
يعد أمين معلوف واحدًا من الأسماء الروائية المهمّة في الرواية العربية المعاصرة، ولكنَّ وجهه الآخر المتمثّل في القراءة الفكرية للواقع العربي، له من الأهمية ما يحتاج إلى دراسة مستفيضة، وهو ما يثيره كتابه المهـم " الهويات القاتلة "1 الذي أثارني أكثر مما أثارتني أسئلة بعض الفلاسفة العرب المعاصرين.

ولد أمين معلوف في بيروت عام 1949، ودرس الاقتصاد والعلوم الاجتماعية بالجامعة اليسوعية في بيروت، واحترف الصحافة بعد تخرّجه، فعمل في الملحق الاقتصادي لجريدة "النهار" اللبنانية. عمل أيضا محررا للشئون الدولية بالجريدة نفسها، وهو ما أتاح له الاطلاع على الكثير من التطورات السياسية والدبلوماسية في العالم.
وفي عام 1976 ومع بداية الحرب الأهلية اللبنانية ترك معلوف لبنان وانتقل إلى فرنسا حيث عمل في مجلة "إيكونوميا" الاقتصادية، واستمر في عمله الصحفي فترأس تحرير مجلة "إفريقيا الشابة" أو"جين أفريك".
ومنذ الثمانينيات، تفرّغ للأدب وأصدر روايته الأولى: "الحروب الصليبية كما رآها العرب" عام 1983 عن دار النشر "لاتيس" التي صارت بعد ذلك دار النشر المتخصصة في أعماله. ترجمت أعماله إلى لغات عدة ونال جوائز أدبية فرنسية؛ منها جائزة الصداقة الفرنسية- العربية عام 1986 عن روايته "ليون الإفريقي"، ورشّح لجائزة "الجونكور" وهي أكبر الجوائز الأدبية الفرنسية. ومن أهمّ أعماله، بالإضافة لما ذكرنا يمكن الإشارة إلى أعماله التالية: "سمرقند" و"القرن الأول بعد بياتريس" و"حدائق النور" و"موانئ الشرق" و"صخرة طانيوس".
يصعب حصر روايات أمين معلوف في عالم معيّن ونصية معيّنة، فهي أعمال روائية بمقدار ما هي أعمال تاريخية، واستطاع الكاتب أن ينفتح من خلالها على الحضارات والثقافات والشعوب في ما يشبه الحوار الحقيقي الذي لا يلغي الخصوصيات والاختلافات والهويات الأصلية. وكان لا بدَّ لهذه الروايات من أنْ تشهد رواجاً عالمياً لم يتطلَّب الكثير من الوقت، فهي تخاطب الإنسان، حيثما كان وتتوجّه إلى الذّاكرة والمخيّلة في وقت واحد.
لكنّ كتَابه الفكري التَّحليلي "الهويات القاتلة" من الكتب النّفيسة، التي تبيّن جُرأَة الكاتب على الخوض في الأفكار المطروحة في عالمه، بحيث لا يني يراجع كلَّ الأفكار الموجودة في العالم العربي، وهي جرأة –لعمري- قليلةٌ في العالم العربي اليوم بين المفكرين العرب.
ونريد في هذه المقالة، الوقوف على جُملةٍ من الأفكار التي تميّزه، حيثُ نستطيع اعتباره من مفكّري التّجاوز لا التّقليد والإتباع، حيث لوحظ أنّه لا يسلّم بالأفكار المختلفة الرائجة في العالم وهي خصلة من النّادر الحصول عليها،ولعلّ أولى النّقاط الجديدة ما نجده من التفكيك السياسوي للأشياء والعمل على استغلال المعابر المتاحة للحوار العقلاني.
لا تردُ الهوية لدى أمين معلوف مرادفةً للثبات،بل هي هويّة متحوّلة، متحرّكة مع اللحظة متجاوزةً كل النظرات التقزيمية لها،في حين تطرح الهويّة في الفكر الغربي والسلفي المتطرف في العالمين العربي والغربي بأنّها الثبات لا التّحوّل وهي مغالطة يكشف عنها أمين معلوف الدثار، بشيء من التّحليل الرّزين تعضده قوّة الفكر.
يقول في هذا السياق:"الهوية ليست ثابتةً بل هي تتحوَّل مع الوقت وتحدث في السلوك البشري تغييراتٍ عميقةً،وإنْ وجدت،في كل الأوقات،تراتبية معينة بين العناصر المكونة لهوية كل إنسان "2
وأهم القضايا التي ركز عليها معلوف في كتابه، سابق الذكر، يمكن أن نذكر:
- مسألة التكفير
- تجاهل الغرب لمشاكل العالم العربي والإسلامي
- الطائفية
- إشكالية التواصل اللغوي في العالم العربي
في المسالة الأولى، يرى أمين معلوف أنَّ التّكفير ليس خاصًّا بالعالم العربي بل إنّه صيغةٌ مرتبطةٌ بالدين بصورةٍ عامَّة، لكنَّها ليستْ صورةً للدين بقدر ماهي صورة لتبنّي الدين في العالم العربي والإسلامي، يأتي التّكفير -بحسب رأي أمين معلوف -من الجهل بالآخر، والاعتقاد في كمال الذات وعدم الإيمان بالحوار بين الأنا والآخر، ويشكّل التّصور الأعمى للهوية واحدًا من أهمّ العوامل المسبّبة لهذا الانخراط في التكفير.
ولهذا يقترح أمين معلوف مراجعة صارمة لمفهوم الهوية، من هوية قاتلة إلى هوية متسامحة، متعالية على القيم الدوغماتية وهو المخرج لكل المآزق التي تعرفها الهويات المتقاتلة في العالم.
ويرى أنّ المسألة قديمةُ لها تاريخها وسياقها في الخطاب الديني، سواء أكان ذلك في الإسلام أم في المسيحية أم في الديانات الأخرى المتبقّية، ومن الصّعوبة هنا التفريق بين ما هو ديني وبين ماهـو سياسي،لأنَّ الخطاب يكاد يكون خطابًا ملتبسا ينضمر ويتخفّى أكثر من ظهوره على مستوى الدلالات التي يحملها وتوظّف بشكل جماهيري هستيري؛ تكون وراء معظم حالات القمع والموت التي يعيشها المجتمع المنتمية إليه، وفي هذا السّياق يقترح مراجعةً صارمةً لكل الأدبيات المؤسّسة للعنف الديني، ويقتضي ذلك إزاحة كلّ الفوارق التي يقيمها الخطاب النّقدي الغربي للإسلام والمسلمين، فالأديان جميعًا، في مستوى واحد لا فرق بين الإسلام وغيره من الديانات السماوية أو البشرية.
لكنّ التساؤل الأكبر الذي يطرحه أمين معلوف في هذه المسألة، مرتبطٌ بتصاعد العنف والتعصُّب الديني في الأزمنة المعاصرة، أكثر من أيّ وقتٍ مضى،ومن هنا يتساءل أمين معلوف عن الأسباب الحقيقية وراء هذا الأمر البارز في كل المجتمعات المعاصرة بلا استثناء. ويصوغ تساؤله على النحو الآتي:" تقوم على محاولة فهم الأسباب التي تدعو الكثيرين اليوم إلى القتل باسم هويتهم الدينية والإثنية والقومية أو غيرها.هل كان هذا الوضع قائما منذ فجر التاريخ أو أنَّ ثمَّةَ حقائقَ خاصةً بعصرنا الراهن؟"3
من الضروري، بحسب أمين معلوف،العودة إلى الخلفيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتاريخية التي يعيشها العالم الثالث، بالخصوص، ويجمل المسألةَ في التَّركة الاستعمارية التي لم يستطع العالم العربي والإسلامي التّخلّص منها، لأنّ فعاليتها تجاوزت كل الأطر والاحتكام إلى فعالية القوة كمسيِّر ومنفِّذ للسياسة الخارجية لدى الدول الكبرى،زائد الطمع المتزايد في هذه الدول في الثروات الطبيعية والبشرية وما تمثّله العولمة من تحدٍّ للهويّات الصغرى في العالم الثالث،حيث تعمل هذه الحركية العولمية على قبرها ومحوها من خارطة الوجود بما يجعلها غير فاعلة وهامشية.
ومن هنا، نفهم لماذا تتعاظم مخاوف المتديّنين في العالم من مغبّات العولمة وخطورتها على وجودهما وكينونتهم،هناك ما يشبه فوبيا العولمة" لـدى العرب وغيرهـم ومنها نهضَ الإلغاء ُ والإرهاب والإقصاء ومن ثـَمَّ الموتُ. يمثّل الموتُ، في هذه الحالة، تحدّيًا لآلة الإرهاب الغربية وشكلاً من أشكال رفض الآخر، يستخلص أمين معلوف خلاصة مفادها أنَّ الغرب مسؤول عن فهم العالم العربي لنفسه، انطلاقًا من التداعيات التي أحدثتها تفكيراتُه هو فيمن هو دونه، على المستوى المادي والصناعي بشكل خاص.
من جهة أخرى، فقد لعبتِ الوضعياتُ الاجتماعية والسِّياسية،التي ميَّزت العالم العربي والإسلامي، دورًا مهمًّا في التَّحولات الفكرية على مستوى فهم العربي والإسلامي لنفسه،فلم تعد التكنولوجيا المعاصرة قادرةً على تقريب الإنسان، بقدر ما تحوّلت إلى آلية لتحنيط الذات وتغريبها وإبعادها إلى الهامش.
وليس يخفى ما قامت بـه السلطة العربية،المنحدرة من مرجعيات شمولية قمعية، فلم تدرب الإنسان على النقد والحرية وهو ما أدى إلى بناء كينونة ترفض الآخر وتتبنَّى رأيها هي فقط.
أمّا ما يقوم بـه الغربُ من تجاهلٍ متعمَّد أحيانا لمشاكل العالم، وأحيانا أخرى، يأتي في إطار الجهل العلمي بالآخر، فهو يدلُّ على أنّ الاستعلاء الغربي لن تكونَ له فعاليةٌ كبيرة على العالم الذي يروم احتلاله واستغلاله، مالم يعرفه ويقترب منه بشكل كبير وعميق، في هذا السياق، يكشف أمين معلوف عن وجهين متضادّين للعولمة:الأول هو العالمية والثاني التجانسية.
يعتبر الأول محمودًا؛ لأنَّه يفتح المجال لاندماج البشر جميعًا في خطٍّ واحد.أمّا الثاني ففيه من الخطورة بقدر ما فيه من المزايا الجيدة،أي أنّه يلغي المحليات الصغيرة بما يعني - بتعبير آخر ـ إقصاء الخصوصيات المرتبطة أكثر بالهوية.
يقول الكاتب في هذا الصدد:" تدفعنا العولمة نحو حقيقتين متعارضتين،إحداهما محمودة بنظري،والأخرى مرفوضة،أي العالمية والتجانسية،وهما نهجان يتراءيان لنا مختلطين بحيث أننا قد نتساءل ما إذا كان أحدهما مجرد الوجه المقبول للآخر؟.
وأنا مقتنع من جهتي بأنهما نهجان متمايزان بالرغم من أنهما يتجاوران ويتماسَّان ويتشابكان على مد النظر. وقد يكون ضربا من الوهم فصل الخيوط المتشابكة على الفور، ولكننا يمكن أن نحاول سحب خيط أول "4.
لكنّه ينتقد بشدة الوجه المراوغ للعالمية، في ما يخصّ حقوق الإنسان، حيث إنّ النظرة مزدوجة في الثقافة الغربية، فليست النظرة واحدة تلك التي ينظر بها إلى البشر جميعا، يعتبره موقفا يتعلّل بالعالمية فقط بينما هو يفتقد لأي شفافية.
يقول أمين معلوف عن هذا المفهوم بأنه "يدعي الاحترام ولكنه،في اعتقادي،شديد الازدراء.فاحترام أحدهم واحترام تاريخه يعني الاعتبار بأن هذا الشخص ينتمي إلى البشرية نفسها،لا إلى بشرية مختلفة،بشرية بخسة."5
يدعو أمين معلوف إلى شمولية القيم،ولكن بتبصّر، فليس من الضروري اتّباع الغرب مثلا في كل شيء بل يجب الوقوف على بعض القيم دون غيرها، يشترط الكاتب ثلاثة شروط أساسية للاندماج في الشمولية وهما:
- استغلال الوسائل والتقنيات المعاصرة استغلالا ذكيا بما يجعل المجتمع العربي يؤثر في الآخرين.
- الإبداع في الميادين المختلفة.
- الابتعاد عن التقوقع لأنّه شكل من أشكال العقم الحضاري.
يعبّر موقف القلق عن حالة الهستيريا التي تتملّك الكثير من العقليات اليوم والتي يمكن أن تكون سببًا أساسيًا في الكثير من النِّزاعات الدموية في العالم. ينطلق القلق من فكرة هيمنة القوة الأمريكية على العالم مما يؤدي إلى خطر اضمحلال اللغات والتقاليد والثقافات وقيام راديكاليات تتأسَّس على هذا الاتّجاه الواقف أمام إعصار الأمركة.
المسألة اللغوية أكثر المسائل أهميةً في حياة الكاتب وينظر إليها أمين معلوف من زاويتين:

أولا-الزاوية الإبداعية:
يرى أنّه من الضروري أن يختار المبدعون، في الحقول المختلفة للإبداع، اللغة التي يشعرون فيها بالحرية، ذلك لأنَّ الإبداع لا ينبغي تحديده باللغة، ويقدّم معلوف وجهة مفارقة بخصوص الكتابة باللغة الفرنسية؛ التي ينظر إليها من سياق مختلف، فبالنظر إلى تكوينه الأول الديني اللغوي،فقد تمازجت فيه روافدُ معرفيةٌ مختلفةٌ وكانت اللغة الفرنسية واحدةً من هذه الروافد التي تشكِّل جزءًا من هويّته ككاتب، لكنَّها ليست ضد اللغة العربية بقدر ما هي جزء منها،إنَّ هوية أمين معلوف، ككاتب مبدع، ليست في النهاية إلا تركيبا خاصًّا ليست له علاقة بتراث الهويات المنقول أبًا عن جدّ،وهي النظرة المرتبطة أكثر بمفهوم التغيُّر والتحوُّل في مفهوم الهوية ذاته.

ثانيا - الزاوية اللغوية الخطابية البحتة:
يرى أنّ اللغة العربية لا تعيش زمانها اليوم؛ فهي لغةٌ بعيدةٌ عن التفاعل مع اللغات الأخرى ولهذا لا بدَّ من أنْ تنخرط في سياق الإبداع العالمي حتى تستطيع البروز وهذا المسعى لا بُدَّ أن يقود إلى تخليصها من العُقَد وفتحها أمام الحرية.
وأمام التفوُّق العالمي للنّظام الأمريكي الرأسمالي، كان لابدّ أنْ تتَّجه الدول العربية أكثر نحو الديمقراطية، المرتبطة بشكل عضويٍّ بالمناخ اللغوي، فلا يمكن أن تتفوَّق اللغات في ظلّ العنف والقمع والديكتاتوريات والأنظمة الشمولية.
إنّ كتاب "الهويات القاتلة" يعد من أكثر الكتب اقترابا من مفهوم الهوية، بمعناها غير الطائفي، المفهوم الذي يؤسّس لهوية قومية ودينية مفارقة لتلك التي توظّفها الحكومات والعصب الدينية والشعبوية والجمعيات السياسية في العالم العربي، وهو –أي الكتاب - من هذه الزاوية جدير بأن يثير الأسئلة النقدية عن واقع وآفاق فهم الذات والحوار مع الآخر.


هوامــــش:
* ينظر حوار لـ: عبده وازن،ج/الحياة اللندنية، بتاريخ 11/03/2006
1- أمين معلوف:الهويات القاتلة،دار الفاربي، بيروت لبنان،المؤسسة الوطنية للنشر والإشهار،الجزائر،ترجمة نهلة بيضون، ط4. 2004
2- المصدر نفسه، ص24
3- المصدر نفسه،ص 18
4-المصدر نفسه، ص149
5-المصدر نفسه، ص151