عفيفة أسكندر رائدة الأغنية العراقية

عفيفة أسكندر رائدة الأغنية العراقية

عادل الهاشمي

باحث موسيقي راحل

العام 1962 أقيمت حفلة كبيرة في كلية العلوم في الاعظمية وكانت المطربة عفيفة اسكندر هي فارسة الحفلة، وكان الجمهور يترقب ظهورها وحين أعتلت خشبة المسرح كانت عاصفة من التصفيق تملأ الاسماع، بدأت تغني ما يطلبه جمهورها من اغنيات لأنها تحترمه كثيرا»

فغنت ( كلب كلب واحمله احمله ومحصن بله وقيل لي قد تبدلا) وهي من ألحان رضا علي و(يا عاقد الحاجبين) الحان علاء كامل و(تعيش انت وتبقى) لناظم نعيم و(عين كوليلي اشبيج) لاحمد خليل واثناء انتهائها من بعض الاغنيات حدث ان طلب احد الحاضرين اغنية (تكتب يا قلم) ولأنها لا ترفض اي طلب لجمهورها فقد لبت طلب هذا المستمع لكن المشكلة حصلت عندما تعذر على الفرقة الموسيقية ان تعزف اللحن وهو لحن قديم جدا «فحصل نوع من التفاوت بين اداء الفرقة وصوت المطربة ومع ذلك اصرت على ان تؤدي الاغنية كاملة رغم تخلف الفرقة عن اداء مقاطع اللحن، واذكر ان الفرقة كانت تتكون حينها من الفنانين خضير الشبلي (آلة القانون) وخزعل فاضل (على الجلو) وكريم بدر (على الكمان) وكريكور (على الناي).

وفي حفلة اخرى كانت تغني اغنية (اي والله على عنادك) من ألحان الفنان عباس جميل وهي اغنية جميلة تعتمد على قالب شعبي وفيها لازمة موسيقية سريعة الحفظ في نهاية عقد الستينات, وقد اثارت الاغنية اعجاب الجمهور الى الحد الذي اجبر المطربة عفيفة على ان تعيد مقاطع الاغنية مرات عدة ثم انتقلت الى اغنية اخرى وما ان انتهت منها حتى عاد الجمهور الى طلب اغنية (على عنادك) مرة ثانية، ولبت طلبهم لكن دون ان تكمل الاغنية بأكملها.

وقد عرف عنها التزامها الشديد بالنظام الملكي واحتفالها المتواصل برجالاته وكانت تمتلك علاقات خاصة ومميزة برئيس الوزراء نوري سعيد الذي كان من اشد المعجبين بصوتها واناقتها! وسجلت بصوتها مشاركتها في اغلب الاحداث السياسية التي حدثت في العهد الملكي، لأنها انطلقت بموقعها هذا من ايمان بأن هذا العهد يعمل جاهدا من اجل ترضية الاطراف والتشكيلات السياسية آنذاك».

ولأنها مطربة مثقفة ومحبة للشعر وتواقة للأدب كان مجلسها لا يخلو من المناظرات السياسية والشعرية والفنية والادبية حيث كان يضم كبار الادباء والسياسيين والفنانين منهم نوري السعيد وابنه صباح والوصي عبدالإله وتوفيق السويدي وسعيد قزاز وخليل كنة وسواهم.

والمطربة عفيفة تعتبر نتيجة لكثرة مطالعاتها للشعر اول مطربة عراقية غنت الشعر وقدمت ما يقارب 60 قصيدة ولم يعرف عن مطربة عراقية اخرى غنت هذا العدد الكبير من القصائد، لا سيما وان غناء القصيدة في الغناء العراقي يكاد يكون محدودا جدا، وقد غنت لأساطين الشعراء مثل سناء الملك والبهاء زهير والشيخ علي الشرقي وطبقة الشعراء المحدثين.

أول أغنية

اتذكر اول اغنيات المطربة عفيفة اسكندر وفي اي عام غنتها؟ سألت الناقد الهاشمي فقال: «حسب معلوماتي ان اول اغنية سجلتها للإذاعة العام 1937 هي (برهم يا برهوم يا بو الجديلة عذبت حالي وايدك طويلة) ثم اعقبتها بأغنيتها الثانية (زنوبة) بعدها اتجهت في الغناء الى قطبي التلحين العراقي (صالح الكويتي وداود الكويتي) واشتهرت بسرعة بسبب رصانة صوتها وعذوبته ووقفت بسرعة بمصاف اشهر مطربات ذلك العصر كزكية جورج وسليمة مراد وسلطانة يوسف وصديقة الملاية وزهور حسين.

مطربة العراق الاولى

سافرت الفنانة عفيفة اسكندر الى خارج قطر كثيرا واحيت العشرات من الحفلات الغنائية في اميركا واوروبا ومصر ولبنان وسورية والاردن، ولكثرة حفلاتها وحلاوة صوتها وعذوبته فقد لقبتها الصحافة العربية بألقاب عدة وقالت المجلات اللبنانية عنها مطربة العراق الاولى.

جانب خفي في حياتها

الى جانب وجاهتها ودورها المعروف هناك جانب خفي من حياتها الخاصة قد لا يعرفه الكثير، اذ انها كانت وراء الكثير من حملة الشهادات والكفاءات فقد تابعت دراستهم بالتعضيد المادي المباشر، بل ان كثيرا من العوائل كانت تلجأ الى عفيفة اسكندر لمساعدتها وهي تستجيب لهذا الجانب الانساني، ولم يعرف عنها انها تخلت عن احد المحتاجين ممن طلب مساعدتها وكانت تطلب منهم عدم ذكر اسمها وراء ذلك، لأن هذا عمل لله وحده».

عفيفة تستثير فضول الذاكرة الفنية لأصول الغناء دون ان تزودها بأي تفسير نفسي ومعرفي، ففي هذا المحيط الفني يجول المغني وتتفحص الاذواق لذلك بقيت طريقة عفيفة اسكندر في الغناء تحمل نزوعا نحو التعلق الشديد او الرفض الشديد، اذ انتقلت حنجرتها الفنية بين الغناء البدوي والغناء الحضري باقتدار وتمكن عجيبين، وبكثير من دواعي الانشاد الحر غير المقيد، وعفيفة تستحضر قواها الصوتية في ابراز الاسلوبية التي طبعت غناءها فهي تمتلك حضورا مع تنوعات محدودة، وتقيد صوتها بإعداد صارم بل تغني بلهجة عراقية مصحوبة باحتياطات حجازية تارة وخليجية تارة اخرى مع اشهار التأثرات البارزة في الغناء المصري، وسر صوتها ينبئ عن دخول انتصار في مجال الغناء، وفنها الادائي توفر على خصيصتين اساسيتين هما العبور الى الاسماع والاستيطان في الذاكرة وهذا في حد ذاته يعكس تألقا للغناء العراقي، وهو تألق يأتي على اية احال من كونه يتحدر من نوع بيئوي عراقي صميمي.

مجلة الف باء 1986