أحداث مصر 1956 في مدينة النجف..كيف أستقبل النجفيون قرار تأميم قناة السويس ؟

أحداث مصر 1956 في مدينة النجف..كيف أستقبل النجفيون قرار تأميم قناة السويس ؟

د .عدي حاتم المفرجي

ما إن أعلن (جمال عبد الناصر) تأميم قناة السويس في 26 تموز1956،ساند النجفيون ،وعلى اختلاف تياراتهم هذا الخطوة يوم 16 آب 1956.تعرضت مصر لموقفها هذا الى هجوم عسكري في 29تشرين الأول من العام نفسه، من قبل(بريطانيا وفرنسا وإسرائيل)

فخرج يوم 12 تشرين الثاني 1956 عشرات النجفيين من النساء والرجال ، لاسيما بعد سماعهم من إذاعتي (القاهرة ودمشق)بأن الطائرات البريطانية تتزود بالوقود من قاعدتي الشعيبة والحبانية،وتجمعوا في (الصحن الحيدري الشريف) تلبية لدعوة المرجع الديني السيد(محسن الحكيم) والصلاة ظهرا»، ثم الدعاء الجماعي، والابتهال إلى الله تعالى لينصر مصر،وردد احد الخطباء دعاء النصر والفرج، من على منبر(الصحن الحيدري الشريف) حتى هاجت مشاعر الناس . والموقف الآخر برقية الشيخ (محمد رضا المظفر) في تشرين الثاني 1956 إلى شيخ الأزهر وفيها :((بسم الله الرحمن الرحيم محافل النجف الاشرف تعج صارخة إليه تعالى بدعائها لإنقاذ مصر المسلمة، وتبتهل إليه ان يأخذ بناصركم ويرفع لواءكم ، فالقلوب تقطر دما» من الاعتداء الصارخ الذي تقوم به وحشية أعداء السلام والإنسانية، والمسلمون في جميع البلاد يد واحدة في شد أزركم)).

وعلى الرغم من ازدياد انتشار عيون السلطة في المجتمع النجفي، والتمكن من إنهاء مظاهرتي يومي التاسع والسابع عشر من تشرين الثاني 1956 ، إلا إن هذا الحدث فرض على التيارات السياسيةالنجفية التضامن،والمشاركة في اتخاذ موقف إزاء تلك التفاعلات السياسية، فقد أيدوا خطوة تأميم قناة السويس ، وأرسلوا برقيتين إلى الرئيس المصري(جمال عبد الناصر) الأولى بقلم الشيخ (احمد بن الشيخ عبد الكريم الجزائري) والأخرى بقلم (احمد الحبوبي) باركا فيهما خطوة التأميم، والإعلان عن التأييد لمثل هذا الأمر .

أما (التيار الشيوعي النجفي) فقد عقد من اجل هذا الأمر ،اجتماعا» في منتصف أيلول عام 1956للنظر في تداعيات العدوان الثلاثي على مصر،ضم كوادر سياسية من الفرات الأوسط ،ومن بغداد الشيوعي ألنجفي(حسين احمد الرضي) سكرتير اللجنة المركزية (للحزب الشيوعي العراقي)الذي حمل معه من بغداد الوثيقة الصادرة من المؤتمر الشيوعي لعام 1956، المتضمنة شعار (خطتنا السياسية في سبيل التحرر الوطني والقومي) ، وناقشها مع النجفيين ، وهو دليل على أهمية (التيار الشيوعي النجفي) . كما جاء بالوثيقة البغدادية شعار (المعركة ذات طابع سلمي غالب) ، فأعترض النجفيون الشيوعيون عليه،وأردوا (أسلوب الكفاح) ،وكانت وجهة نظرهم هذه قد تمثلت بضرورة أن يكون أسلوب الكفاح هو اللجوء إلى القوة ، ويبدو لجوءهم لهذا الأسلوب ، نابع من إدراكهم ان الحل الأمثل في التعامل مع السلطة هو القوة،ًوبخاصة بعدما وصفتهم هذه السلطة بالعنصر الخارجي ، وهو ما ولد لديهم عقيدة (مقاومة السلطة) . فضلاً عن ذلك فقد كان لوجود التيار الصيني (الماوية) ،المعروف بإتباعه (الكفاح المسلح) ، ضمن الخط الشيوعي النجفي ،عامل آخر ، أسهم إلى حد بعيد في الإيمان بمبدأ القوة.

ولا شك في إن بوادر الاستقلالية نجحت بفرض إرادتها على أسلوب الشيوعية في العراق وإتباع طريق (الكفاح) مما يتيح القول ، بانتقال الشيوعية كثقل وحركة من العاصمة بغداد ، الى مدينة النجف الاشرف ، بسبب سطوة السلطة في العاصمة ، وعدم وجود تنسيق سياسي بين التيارات السياسية البغدادية مثلما هو موجود في مدينة النجف الاشرف ، الى جانب اتخاذ شيوعيي بغداد مبدأ السلام في حراكهم السياسي ، على عكس الشيوعيين النجفيين ، الذين استطاعوا تسيير مظاهرات مشتركة مع الاسلاميين السياسيين والقوميين .

وكرد فعل للعدوان الثلاثي على مصر ، تظاهر أبناء مدينة النجف الاشرف ، وخرج رجال الدين، والطلبة القوميين والشيوعيين يوم 23 تشرين الثاني 1956، احتجاجا على هذا الهجوم ، وكان الطلبة يتجمعون في مدرسة (الخورنق) ثم ينطلقون باتجاه ساحة الميدان ،ومن ثم الدخول إلى السوق الكبير باتجاه الصحن الحيدري الشريف . وفي اليوم الثاني أدركت السلطات الحكومية في مدينة النجف الاشرف بأن قوة التظاهرات تأتي من الطلبة ، فحاصرت مدارسهم التي تغلي بطلابها الراغبين بالخروج والتظاهر، ورغم إطلاق النار عليهم ولمدة عشرين دقيقة ، الا ان الطلبة كانوا يردونهم بالحجارة،والهتاف،مما أدى إلى سقوط الشهيدين هما(عبد الحسين محمد جواد شيخ راضي) (متوسطة الخورنق) المنتميٍ( للتيار القومي النجفي) و (احمد علي الدجيلي) (متوسطة السدير)الذي كان صديقا»(للتيار الشيوعي النجفي) . وكان الاعتداء بأشراف معاون الشرطة النجفية (محمود فهمي) الذي قاد سرية من الشرطة لمنع الطلبة من الخروج ،ومن ابرز هتافات الطلبة (التمجيد بحياة جمال عبد الناصر) والمطالبة بتوحيد الجيوش العربية، وإنقاذ مصر.

ازداد الهياج الشعبي أكثر في نفوس النجفيين بعد قيام الشرطة النجفية باحتجاز جثتي الشهيدين،والطلبة المنتفضين في مدارسهم ، وبعد ظهور التذمر الصريح ،عمدت السلطات الحكومية في المدينة إلى الإفراج عن المحتجزين ليلا».

ويبدو واضحاً ، إن هجوم الشرطة النجفية على المدارس، وقتل طلبتها واحتجازهم ، قد ولد امتعاضاً وشرخاً في نفوس النجفيين بشكل عام ، الأمر الذي دفع إلى توحيد التيارات السياسية في تلك المدينة ، لأن القضية تحولت من موقف تيار سياسي وفكر ومبدأ ، إلى قضية اجتماعية تهم المجتمع النجفي . فتحول هيجانهم من التنديد بالعدوان الثلاثي الى معارضة الحكومة وشجب أعمالها اللانسانية ، وأصبحت قضية خاصة بمدينة النجف الاشرف . ففي صباح يوم 25 تشرين الثاني 1956 ، تجدد خروج الناس المنزعجين من تصرف الشرطة النجفية في مظاهرات اشترك فيها الاطفال والنساء والرجال . وبعد صلاة الظهر خرجت مظاهرة نسائية وكن يحملن الخناجر والسكاكين ، ويلوحن بها في الهواء ويرددن (الخاين شعبه انكص ايده) وفي الوقت نفسه أغلقت المتاجر واضطربت الحياة العامة بشكل تام ، وتوحد الخطاب السياسي للتيارات السياسية النجفية ، وعند تشييع جثمان الطالبين تحولت تلك المراسيم إلى مظاهرات تندد بالحكومة وأعمالها السلبية ، ولاسيما إن الطالبين من العوائل النجفية المعروفة فالأول (محمد عبد الحسين شيخ راضي) من عائلة الشيخ راضي المعروفة بعلمها ،ووزنها الاجتماعي في المدينة ، والثاني (احمد علي الدجيلي)من عائلة معروفة بالمدينة، والأهم من ذلك انه سبط المرجع (حسين الحمامي).

ومن جهة أخرى ، فان (التيار الإسلامي السياسي النجفي) ، راح يتشدد بعد تطور الإحداث في مدينة النجف الاشرف ،لاسيما وان الإسلاميين السياسيين من الشباب قاموا بإيصال(تطورات الإحداث السياسية والموقف السياسي) الى المرجع الديني السيد( محسن الحكيم) والسيد (محمود الشاهرودي) والسيد ( حسين الحمامي) والشيخ (عبد الكريم الجزائري) وهولاء بدورهم اضربوا عن إعمالهم الدينية اليومية، كالامتناع عن أداء صلاة الجماعة في مساجد النجف الاشرف بما فيها (الصحن الحيدري الشريف) ، ليكون إضراباً شاملاً للحياة في المدينة ، فُأغلقت المحال التجارية وعطلت الدروس الحوزوية ، والنظم التعليمية المرتبطة بها كمنتدى النشر، وابرقوا إلى الملك (فيصل الثاني) برقيات شجبت أعمال القتل والتنكيل فقد جاء في برقية السيد(محسن الحكيم) : ((بسم الله الرحمن الرحيم ،إن إراقة الدماء البريئة بشكلها الوحشي الفضيع في بلدنا المقدس لتدعوا الى القلق والاستنكار العظيمين، ومن المؤسف إغضاء الحكومة عن ذلك كله ، وسلوكها طريق الارهاب لعموم الطبقات)) أما برقية الشيخ (عبد الكريم الجزائري) فجاء فيها : ((بسم الله الرحمن الرحيم، جلالة الملك المعظم ، حالة النجف مضطربة لإراقة دماء الأطفال داخل مدارسهم وهتك حرماتها، ولا تهدأ إلا بإنزال العقوبات الشديدة بالمعتدين، عالجوا الوضع بالحل السريع قبل ان يتفاقم الأمر)). في حين أطلق السيد (حسين بحر العلوم) قصيدة بعنوان (كبش الفداء) احتج فيها على الاعتداء على الطلبة وقتلهم ، وهي من القصائد التي ألهبت المشاعر النجفية ، جاء فيها :-

يا طفل يا كبش الفداء للمجد في سوح الاباء

يا نبرة الناي الطروب تهشمت بفم الرثاء.

وقد تميزت مظاهرات يوم 25 تشرين الثاني 1956، بمشاركة متظاهرين من الأرياف،والقرى المحيطة بمدينة النجف الاشرف ( المشخاب وابو صخير وغماس والشامية) وحتى من الديوانية والحلة ، وهو أمر يرجع الى دور(التيار الشيوعي النجفي) بتعبئة الناس لمناهضة الحكومة في شوارع النجف الاشرف،وأطلقوا شعارات جديدة (الموت لاسرائيل) و(السقوط لفرنسا وبريطانيا) . واستمرت حتى الليل ،ثم تجمعوا في (الصحن الحيدري) ،مرددين القسم بمواصلة الكفاح حتى سقوط وزارة (نوري السعيد) ، وهي الطريقة التي أثمرت في اليوم التالي المصادف 26 تشرين الثاني 1956.فقد خرج متظاهرون يحملون ثياب الشباب المقتولين في مدارسهم والملطخة بالدماء في تظاهرتين أحدهما للقوميين، والأخرى للشيوعيين التقيا في منطقة الميدان، واقسم المتظاهرون أمام مرقد الإمام (علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، ثم اتجهوا الى مدينة كربلاء المقدسة ليقسموا بالإمام الحسين بن علي (عليه السلام) بالقضاء على (نوري السعيد) ثم تعززت بتظاهرة للإسلاميين السياسيين يتقدمها المرجع الديني السيد(محسن الحكيم) والشيخ (عبد الكريم الجزائري).

وخرجت من (منطقة العمارة) تظاهرة الإسلاميين السياسيين والتقت بتظاهرة العلمانيين في نهاية السوق الكبير، فدخلوا (الصحن الحيدري الشريف) ، وعلى هذا الترتيب الثوري ، يكون المشهد ، قد تكرر يوم 27 تشرين الثاني 1956 ، مما دفع بالشرطة النجفية إلى التصدي ، واعتقال عشرات المتظاهرين وإصابة العديد منهم ، فضلا عن إصابة اثنين من الشرطة بجروح ، وكان المتظاهرون يهتفون بحياة الرئيس المصري (جمال عبد الناصر) والرئيس السوري (شكري القوتلي) . وقد عزمت الشرطة على إنهاء تلك التظاهرات المتفاقمة بالقوة،فكانت حصيلة الاصطدام وقوع عدد من الجرحى بين الطرفين ،وحمل الشيوعيون النجفيون الأسلحة البيضاء من السكاكين والخناجر والسيوف (القامات) ولذلك فان اغلب المعتقلين كانوا من الشيوعيين الذين طالب المرجع الديني السيد(محسن الحكيم) ، بإخراجهم.

عن رسالة : الاتجاهات السياسية في مدينة النجف المقدسة1954-1963