بغداد في أواخر القرن التاسع عشر..بواكير النهضة العلمية في نهايات العهد العثماني

بغداد في أواخر القرن التاسع عشر..بواكير النهضة العلمية في نهايات العهد العثماني

د. نابليون الماريني

دار الكتب العمومية في بغداد

لقد تجلى في ساحة الامل دليل واضح يعد على ان بغداد قد عاد عليها البرء والصحة التامة وأخذت بالإفاقة التي هي اخر السلامة وانقذت من علة الجهل المنحوسة التي اتليت بها منذ مدة وكسبت حال العلة المزمة بمر الايام وتماديها وان ظلام الجهل الذي تتولى على افاقاً قد انقشع بالاشعة النورية التي نشرتها المعارف وبثتها على الاطراق وصار يبتدل بالضياء والنور شيئاً فشيئاً.

وان من جملة الاثار السامية لموجبة للافتخان لحصرة ذلت البلاذ الولاية الذي له المعارف سمات الواصل الى اوج الكمال. والمرتد في رداء الزهد والكرم والافضال انه قد تشكلت في بغداد دار كتب منتظمة ثمرة المساعي الجميلة المشهورة في امر ترقي المعارف لدى الفصلة المكارم الانيلة حضرة محمد افندي آل جميل راده مدير معارف ولاشا الذي هو للفصائل سمير والموجود بالمسارعة بكل صورة الى امتثال الاوامر والافكار الجليلة للوالي العالي المشار اليه الشاعي باقتنا. واتباع افكاره وبيانه التي هي المعالي ايات المعطوفة على فتح وانشاء باب سعادة ومعرفة في كل يوم.

وان من اثر حمية ذي العزة علي بك نجل لطف الله بك انه اهدى لدار الكتب المذكورة ستة او سبعة مجلدات من الكتب وهذه الدار هي في المدرسة المشهورة في بغداد في جامع الحيدر خانة وهي الان تحتوي على خمسمائة وعشرين مجلداً من كتب الفقه والتفسير والادب وغيرها من الفنون وعليها حافظات موظفات بذلك.

الا وان فوائد هذا الاثر الجميل التي تحصل للعموم واضحة وجلية جداً: فلذا لا ترى حاجة لايضاحها وتعدادها سوى ان يقول هذا وانه اذا لم تمنح المعاونات من طرف اصحاب الحمية من الاهالي لتوسيع دار الكتب هذه وانتظامها وتكثير كتبها الموجودة فان فوائدها المنتظرة والمامولة تتزايد بدرجة تكون في كل حالة جالية لمحسوبية الجميع وافادتهم. وهذه القضية الفيدة العربية التي انشدها الاديب الكامل الموسوم بالنجابة ضائل، ذو المكرمة الحاج علي افندي شبل ذي الفضيلة السيد نعمان خير الدين افندي آل الآلوسي احد علماء بلدتنا الاعلام. واشرافها الكرام، مؤرخا بها فتح وتاسيس دار الكتب العمومية المذكورة.

ولعمري انها قد اشتملت على الفاظ رائقة.. ومعاني فائقة تدل على ادب منشئها وفضل محبرها وموشيها..

يا حبذا مكتبة قد جمعت العلم فيها كتب لطائف

نعم ارباب العلوم ينفعها

فكل طالب عليها عاكف

كانها للطالبين موردٌ

فكل راوٍ من نداها غارق

انعم بها من نعمة قد عرفت

للطف والينا بها عوارف

السيد التقى والقزم الذي

قد شهدت بحزمه الطوائف

العارف الخائف مولاه ومن

بعد له يلقى الابان الخائف

احيا ببغداد العلوم بعدما تخطفتها للبلى خواطف

معارف بدت لنا بفضله

بفضله بدت لنا معارف

زاد له الفضل على محمدة

يبقى لها شكر بها مرادف

شيدت بعزم ماجد ذي همة

يعجز عن درك مداها الواصف

محمد نجم جميل من له

صنع الجميع تالد وطارف

قد اسست بعزمه فاستأنست

لها الورى واستيأس المخالف

تباشر الناس بها وارخوا مكتبته جددها المعارف

في مدارسها واشهر معلميها

ان سكان بغداد لا يعتنون ابدا بالعلم ولا يشتغل به الا القليل. فلذا لا يوجد فيها مدارس كثيرة سوى تسع عشرة مدرسة. وما نخص بالذكر ما شاع واشتهر منها وعددها ثمان اربع منها تحت ادارة الحكومة السنية وهي:

اولاً: المدرسة الاعدادية اي الحربية ويدرس فيها اللغة التركية والفرنسية والفارسية والعربية والجغرافية والحساب والمنطق والهندسة والجبر والتاريخ والتصوير.

ثانياً: المدرسة الرشدية العسكرية وتدرس فيها اللغة التركية والعربية والفرنسية ومبادئ بعض العلوم التي تدرس في المدرسة الاعدادية لانها كمدرسة ابتدائية لها.

ثالثا: المدرسة الرشدية وتدرس فيها اللغة التركية والعربية والفارسية وبعض العلوم

رابعاً: مدرسة الصنائع ويعلم فيها بعض الصنائع كالحياكة والسكافة والخياطة وغير ذلك.

واربع مدارس لأهل الوطن اولاها علما واشهرها صيتاً مدرسة الاباء الكرمليين اعلم ان هذه المدرسة بناها الاباء المذكورون سنة 1859 فاشتهرت كل الاشتهار كنار على علم بعلومها وادابها وفنونها واساليبها. وهي لم تزل حتى الان ناجحة وفالحة بل وموردة بني الوطن النبل. ومبرئة موضهم الجهل، وقد خرج منها كثير من الكتاب والادباء.. والعقلاء والجهلاء الا وهي التي قد فاقت واعتلت مدارس العراق، وباتت يحسن تعليمها شنقناق، وقد تأتيها ابدا التلامذة من كل الارجاء لما قد نالت هذه المدرسة من الاعتبار والقدر والشهرة، ولكن لسنا نتصدى في هذا المقام لوصف ما اشتملت عليه من كيفية تعليم تلامذتها واخراجهم منها فهنا حل وانما مقتصر من ذلك على ما هو من غرض هذه المجلة وما هو ادل على مقامها وان كانت غنية بشهرتها عن الدليل. واما دروسها فهي تعلم اللغة الفرنسية والعربية والانكليزية والتعاليم الدينية والجغرافية والرياضيات وبعض مبادئ العلوم كالفلسفة والطبيعة وعلم الهيئة والكيمياء وعلم النبات والموسيقى وغير ذلك.

هذا هو تعداد دروسها الحقيقي بدون ادنى مبالغة وازدياد كما هو دأب بعض المعلمين عند مدة مدرستهم وهذه العادة قد فشت في كتاب بغداد.

ثم انه قد دخلها معلمون كثيرون، علماء مشهورون واعظمهم شهرة بالفرنسية الاب دميانوس الكرملي والاب جان جوزيف الكرملي والان فيها الاب بطرس الكرملي وهذا علامة جهيذ درس في كلية مدينة بردو اليسوعية وله مقالات جمة.. وروايات لطيفة، تأخذ رشاقة الفاظها مجامع القلوب. وتثلج الصدور وتأتي في المغموم الابتهاج والحبور.

واما الان فبقي علينا ان نذكر اشهر معلميها العربية فاولاهم علما واشهرهم صيتا والجذير بذكر اسمه البارع الاديب والكاتب التحرير الاريب المعلم بطرس الماريني مخترف القاعدة السهلة لمعرفة حركة عين المضارع، غير ان الحق احق يقال انه قد احيا في هذه المدرسة العلوم والفنون العربية، بل قد نشرها من الموت التي كان قد حل اضلاعها ولاشاها احد المعلمين الذين قد ولجوها قلة، وقد درس عليه كثير من الكتاب، ولايسمح لي ان اذكر علمهم لان العصا من العصية، ولكن فلنذكر واحداً منهم ليكتفي به القارئ، ابرعهم واشدهم ذكاء نجيب افندي سيحا صاحب مقالة التبلور والرسوب المدرجة في العدد 886 من جريدة الشير المنبر وغيره من الاذكياء والنخباء.

ثانيا: مدرسة الانفاق الكاثوليكي ويعلم فيها اللغة العربية والكلدانية والسريانية والحساب والهندسة، وهذه المدرسة كانت في قديم الزمان قليلة الشهرة واما الان فقد انحطت عما كانت عليه قبلا من النجاح والفلاح وسبب انحطاطها خروج مديرها منها وهو العالم العلامة والخبر الفهامة الشماس فرنسيس اوغسطين جبران الذي ذكره يغني عن وصفه، وهذا قد خرق الجرائد والمجلات من مقالاته المشهورة بالمنطق وطي المعاني خصوصاً جريدة البشير الذي طبع فيه مقالته السحرية ضد المقتطف.

الالبائب برشاقة كلامها. وقنع البصائر المغناطيس معناها وغيرها من المقلات ذات الكلام والمستظرف الذي اذا حل في القلوب احدث فيها حركته وهزه. واذا سمعه ذو ذكاء وجد له حسا ودياً وقشعريرة فهذا هو اذن سبب تأخرها وانحطاطها.

ثالثا: مدرسة الاتفاق الاسرائيلي وتدرس فيها العربية والفرنسية والانكليزية والتركية.

رابعاً: مدرسة الارمن غير الكاثوليك وتعلم فيها الامنية والفرنسية والعربية والانكليزية والتركية وفيها خمسة معلمين وثمانون تلميذا وقد ابتنى في هذه الايام القاصد السيد الجليلي. وراعي الرعاةة السبل، الذي له في العلم اشتهار. ولدى الكاثوليكيين كبر اعتبار والذي رن اسمه بايديه في الاقطار، ذو الغبطة هنري الطمير المشهور باحساناته ودهائه. وفضله وبذله قاعة المأوى المعروفة عند الفرنسيس بهذه اللفظة (Salle d›asile) وهي رحبة جيدا. وفي وسطها عامودان من المرمر، وقيل انه صرف على ابتنائها نحوا من ثلاثين الف فرنك. وكان مهندسها ومهندمها الاب الجليل هنري برنار الدومنكافي كاتم اسراره المشهور بفن الفوتغرافية والهندسة، واستمر البناؤون زهاء ستة اشهر يقتنونها حتى نجزت. واما معلميها فالراهبات من رهبنة اخوات المحبة، غير ان اهالي الاولاد لما شاهدوا هذا الحيز العظيم العائدة وقد ذهب سمعة في الناس فصارت له شقة فيهم.

عن كتاب (تنزه العباد في بغداد) ــ بيروت 1887، والدكتور الماريني هو أخو الاب انستاس ماري الكرملي.