الكرخي وتحولاته التجارية

الكرخي وتحولاته التجارية

رفعت مرهون الصفار

ولد المرحوم، الملا عبود الكرخي في جانب الكرخ ببغداد ومنه اخذ كنيته التي عرف بها بين الناس، وكان مولده عام 1861، واسمه الكامل (عبود بن الحاج حسين السهيل) وينتسب الى فخذ (البو طيف) من عشيرة (البو سلطان) التي يتصل نسبها بقبيلة زبيد، من العشائر العراقية المعروفة ومقامها الرئيسي في شمال الكوت، واليها تنتسب مدينة الزبيدية الواقعة على ضفة دجلة بين الكوت وبغداد.

كان والد الكرخي، الحاج حسين السهيل تاجرا واسع الثراء يتاجر بالابل والجلود بين مختلف بلدان الشرق الاوسط، وقد دفع الحاج حسين بولده عبود الى خوض غمار الحياة العملية وهو مازال صبيا يافعا لم يكن قد تجاوز بعد الخامسة عشرة من عمره، وهكذا اخذ الفتى يرافق أرتال الابل المصدرة للبيع والحاملة للجلود، يرافقها في رحلات طويلة مرهقة عبر الصحارى والقفار الى ايران والشام ومصر وتركيا وجزيرة العرب. اما ثقافته وتعليمه، فيمكن القول ان الكرخي نال قسطا من التعليم ليس يسيرا بالقياس الى ماكان عليه التعليم في زمانه، والى ماكان يمكن ان يكون ميسورا لعامة الناس حينذاك. تلقى الكرخي اوائل تعليمه على ايدي (الملالي) فيما ندعوه بالكتاتيب، وهي المدرسة القديمة، حيث تعلم فيها القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، وقد ساعده ذلك الاطلاع على ماتيسر له حينذاك من الكتب العربية التي تبحث في شتى العلوم الدينية والادب العربي، كما انه ارتاد بقدر معين حلقات الدرس التي كانت تعقد حينذاك في مساجد بغداد والكاظمية، ومعلوم انه كان لحلقات الدرس هذه اثرها الكبير في الحياة الادبية والثقافية لما كان يدور فيها من احاديث وما يلقى فيها من خطب ومحاضرات يشارك فيها كبار رجال الدين وائمة اللغة والبيان، وفيها كانت تعقد الندوات والمناظرات بين الادباء والشعراء، ويتبارى النقاد ورواة الشعر وحفظه الحديث. وعلى الرغم من ان هذا القسط من التعليم الذي تلقاه شاعرنا الكرخي، قد يبدو ضئيلا جدا بالنسبة الى متطلباته في ايامنا الراهنة، الا انه ليس يسيرا اذا قيس بمستوى التعليم الذي كان يمكن ان يتوفر لبعض الفئات الميسورة في العراق، اواخر القرن التاسع عشر. بدأ الشاعر، الملا عبود الكرخي يقرض الشعر وهو مايزال صبيا يرافق أرتال الابل عبر الصحارى الى مختلف البلدان، ولقد بدأ نظم الشعر في بداية حياته الشاعرية باللهجة البدوية متأثرا بالمحيط الذي وجد نفسه فيه والناس الذين اتصل بهم ورافقهم ومعظمهم من البدو الرحل. ولقد ظل الكرخي يزاول عمله في تجارة الابل تحت رعاية المرحوم والده حتى بلوغه الخامسة والثلاثين من العمر، حيث توفي والده رحمه الله فعاد الى بغداد واستقر فيها ليبدأ مرحلة جديدة من حياته. وعلى الرغم من ان الملا عبود الكرخي، قد صرم من عمره عشرين عاما يعمل في تجارة الابل، الا اننا نلاحظ من خلال التعرف على اثاره انه كان خلال هذه الفترة مقلا للغاية في شعره البدوي، وان زخم شاعريته الفذة قد تميز بالاندفاع ووفرة العطاء بعد ان استقر ببغداد بمدة طويلة، ولقد كان ذلك امرا طبيعيا بحكم تعقد حياة المدينة وتنوع اسبابها وتميزها بالتجدد المستمر، اضافة الى طابع التحول الذي كانت تنطبع به مختلف مجالات الحياة في المجتمع خلال الفترة التي عاشها الكرخي في المدينة العراقية.

وخلال اقامته في بغداد، مارس الكرخي اعمالا عديدة ومتنوعة وقد شارك مع بعض العراقيين في تاسيس شركة لنقل المسافرين بين امهات المدن العراقية، وكانت وسائل النقل التي تعتمدها هذه الشركة في اعمالها تقتصر على العربات التي تجرها الخيول. ومارس الكرخي ايضا اعمال التعهدات المختلفة، فكان يتعهد تجهيز الطعام ومواد المعيشة واللوازم الاخرى لبعثة المانية كانت تعمل في انشاء خط حديدي بين بغداد وسامراء، وقد ساعده ذلك على كسب قدر حسن من الاطلاع على اللغة الالمانية كسبه من مخالطته للمهندسين والعمال الالمان الذين كانوا يعملون في البعثة المذكورة. وعندما اعلنت الحرب العالمية الاولى عام 1914، وتورط العراق في معمعاتها بحكم كونه جزءا من الامبراطورية العثمانية حينذاك، وجهت السلطات العسكرية التركية حملة من العراق، عبر ايران للمساهمة في الحرب ضد روسيا القيصرية، كجزء من المجهود الحربي العام، ورافق الكرخي هذه الحملة بصفة مترجم، اضافة الى انه اخذ على عاتقه مهمة تجهيز الحملة او جزء منها بما تحتاج اليه من اطعمة وارزاق وخيول يستوردها من العراق.

وخلال احدى المعارك التي لانعلم على وجه التحديد اذا كان الكرخي قد شارك فيها، او كان قريبا من ميدانها، وقع الشاعر اسيرا بأيدي الجيش القيصري، وخلال مدة اسره القصيرة، اتيح له ان يتعلم الكثير من الكلمات والتعابير الروسية التي كان يدخلها احيانا في بعض قصائده، كما كان يفعل ذلك مع الكثير من الكلمات والمصطلحات الفارسية والتركية والكردية والهندية، والالمانية ايضا. وعندما اعلنت الثورة العربية في الحجاز على الحكم التركي في عام 1916 تمكن الكرخي من الفرار من الاسر، ومن ثم الانحياز الى جانب الخارجين على الطاعة التركية، الامر الذي اثار غضب الاتراك عليه فاخذت السلطات تطارده وتسعى الى الظفر به بتهمة الخروج على الوطن الام. وهكذا اخذ الشاعر يعيش متنقلا بين القرى والارياف حتى اعلنت الهدنة وتوقفت الحرب، فعاد الى بغداد بعد ان انحسر عنها ظل الحكم العثماني، ودخلتها جيوش البريطانية لتبدأ صفحة جديدة من حياته.