في مقهى (رشيد) في الثلاثينيات مع الزهاوي.. ذكريات ومعابثة

في مقهى (رشيد) في الثلاثينيات مع الزهاوي.. ذكريات ومعابثة

محمد مهدي الجواهري

دامت صلاتي بالفقيد الزهاوي اكثر من ثلاث سنوات كان عندي في كل يوم منها شيء جديد افيده، والذه، واغربه.. كنت لا اغيب عنه يوما واحدا إلا بتقديم براهين قوية على سبب تغيبي كانت بادئ الامر مواعيد لقاء في مقهاه المفضل، مقهى «رشيد» حيث يقع محل السيد ناجي جواد الساعاتي الان، مطلا على دجلة..

ملتقى للشباب الصاعد، مشرقا قبل الشمس ببسمات «رشيد» صاحبه الطلقة، وببغداديته الاصيلة المحببة، ورأى الفقيد الزهاوي ان في هذه المواعيد تضييعا لدقائق لا تصل حد الساعات فيما يكون بيني وبينه من تخلف، فاخترع طريقة اضمن لكسب الوقت ما كان لمثلي ان يرفضها، هو ان اتي – وكان بيتي حينذاك في الكاظمية – اليه وهو في بيته الجميل اعوج تحت الطاق، مهونا على ذلك بانه في طريقي..

وكان ما اراد، وكان ما اريد ايضا.. كنت اطرق الباب فاسمع عقيلته الكريمة الجليلة تقول قبل ان تسمع لي ركزاً: انه الجواهري، ويفتح لي خادمه الذي عجبت كيف نسيت اسمه الان لشدة ما كان يعلق اسمه بذاكرتي.. الباب، ويصعدني الى غرفته الخاصة التي لا يدخلها من غير عائلته احد غيري، وسرعان ما يدلف بعد مصافحتي الى غرفة لاصقة بها، حيث العقلية التي كانت تلزم نفسها بالباسه ملابسه بيديها، ثم تحضر العربة الى باب البيت، ويجلس خادمه بجانب السائق، واجلس انا الى جانبه، ويصل اناتول فرانس الى مغنى سعيد، وخذ وهات مما يتحدث به الركبان من نكات الفقيد الزهاوي، ومن انطلاقاته، ومن القائه التمثيلي المطرب، ومن تشهيراته اللذيذة بخصومه ونقاده ومنافسيه، ومن كان ينافس الزهاوي غير واحد في بغداد، وفي العراق، في العالم العربي غير الرصافي !! قلت العالم العربي، وكلكم يعرف ان الزهاوي اقتحم هذا العالم بعنف وقوة لم يقدر الرصافي رحمه الله ان يزاحمه بهما.

يالله!! ما افظع نكته العامية الشهيرة عندما يفتش جاهدا عن بيت فيه زحاف للرصافي، اي عن بيت واقف او شبه واقف، ويحتاج الى تمشية، كانت نكتته محتملة على فظاعتها، كان يلقيها ويمثل لها برفع يده العريضة الى فمه ثم يدفع بها في الهواء.

حسن، هل تريدون نموذجا لعبقرية الزهاوي المتأثرة في هذا المقهى اكثر من ذلك؟ اليكم هذا النموذج: تصوروه وكانه بينكم الان او في حلقة مصغرة من هذا الاجتماع.. تقرب اليكم صورة المقهى ورواده، تصوروره وهو ابن السبعين تقريبا عام 1931، بطلعته البهية، وشعره المرسل، وعينيه النفاذتين كعيني الصقر، وشهرته الواسعة، ومكانته الكبيرة، تصوروه وهو يتلقى فيمن يتلقى من رواد مجلسه اناسا لا يحبونه ولا يحبهم، او اناسا كانوا يحبونه لم انقلبوا عليه، او اناسا كان يحبهم ثم انقلب عليهم.. اتعلمون بماذا كان ينتقم منهم انتقاما لا اعرف له مثيلا؟؟.. كان ينادي بهذه الكلمة: “يا ولد” وهو يريد الندل.. تعال “اخذ فلوسك”.. ويسرع الندل، وكان الحساب “بالانات” الهندية انذاك، فبعد الجالسين واحدا واحدا ليدفع عنهم “آنة آنة” مستثنيا بذلك “انا وانت” وفلانا ممن يكرههم.. بضع ذلك بتحد يبين في ومضات عينيه، وفي خلجات وجهه، ولا يقدر احد من هؤلاء المساكين ان يعترض، وكيف يعترض؟ ولماذا يعترض؟ انه رجل يدفع حسابه، ويا لفظاعة المنظر اذ يدخل كل منهم يده الى جيبه ليدفع هو عن نفسه..

كذب ان يكون الشاعر شاعرا، والعبقري عبقريا، دون ان يكون له من هذه النظائر ما يميزه عن سواه من الناس.

قال لي مرة: يا بن الجواهري استخرج غدا الى “الكاورية”، ويصنع لنا سمك مسقوف ناخذه معنا، ولم تكن “الكاورية” انذاك على استعداد كامل لضيوفها، وسناخذ معنا (سماورا) صغيرا للشاي، وحل الموعد، وانحدرنا بزورق اعد لنا، وعرجنا في طريقنا على السماكة وقد هيء لنا عشاءنا، وانتصب سماور الشاي الجميل، وكان فراشنا الرمل الاحمر الطري، وممدت المائدة، ويا للقلق اذ اكتشفنا ان ليس معنا ملح، والاكلة سمك لا غيره.. اتدرون ماذا دبر السيد الزهاوي رحمه الله؟؟ لقد امر خادمه ان يجمع له مما في الزورق او مما على الارض من اخشاب خفيفة، او اعشاب، وان يحرقها، والى هنا وانا لا افهم ماذا يريد الاستاذ.. وصنع الخادم ما اراد السيد، فكانت كومة من رماد محروق طري، وسرعان ما نهض السيد الزهاوي فجمعها، وابتدأ يذرها على السمك، وهو يتمتم، ولحيته الكرمية تخفق: هذا ملح صحي، انه يا ولدي صحي، ونافع، وفيه ملوحة نقية، غير ضارة.

.. صدقوني: الى الان وان احب ان اعاود هذا الملح العجيب لمجرد هذه الذكرى.

***

في هذا الحقل وفي معرض تسجيل ذكرى اليمة من ذكرياتي مع الفقيد الزهاوي عرفت قبل ايام صورة “اصيل لاينسى”..! مع السيد الزهاوي رحمه الله في مجلسه الاثير لديه “في مقهى رشيد” استثارني فيه الفقيد واستثرته ووكان موضوع الاستثارة ومحمولها وكل عناصرها الشعر والادب والنقد النزيه المجرد عن كل مساس بالكرامة.

وفي هذا الحقل اود ان اعرض باختصار صورة ضاحكة عن “اصيل اخر لاينسى” ابدا ومن ناحية معاكسة.

كان ذلك في يوم من سلسلة الايام المتلاحقة من ذخيرة سنين عديدة كلها كانت ضاحكة، بريئة، مع السيد الزهاوي.. ومع غير الزهاوي..!! ولكن مع السيد الزهاوي بصورة اخص، وكانت كلها ايضا ذات اصائل جميلة، رفرافة بالعاصفة والحب والذوق والطلاقة والانسجام.

كان مقهى رشيد موعدنا عصرا

وكنا من سابق جلاسه

مجلس زانه الشباب واخلى

«للزهاوي” صدره والرئاسة

كان هذا الاصيل من اصائل الصيف.. وفي عام 1929 – وتاريخ نشر قصيدة النزغة يحدد ذلك بالضبط – وكنت انذاك ابن السادسة والعشرين او السابعة والعشرين وكان الشيخ الجليل الزهاوي قد تجاوز السبعين.

انني لن انسى (ساعة) الزهاوي الحبيبة الفضية ابدا.. لا انساها حتى بدون هذه الذكرى في هذا الاصيل الحبيب.. لا انساها لكثرة ما كان يخرجها من جيبه وعيونه النفاذة تخيفني.. ووداعة الانكسار تبين على وجهه المحبب ولطف الميلان برأسه وبذقنه يزيده روعة.. كان يفعل ذلك وهو يحدج من مجلسه ليتلقاني عاقباً وليريني وهو يحمل ساعته بيده انني قد تخلفت عن الموعد خمسة دقائق مثلا.

ولكنني وفي صدد هذه الذكرى بالذات وهي هذا الاصيل نفسه فان “ساعة الزهاوي” لتعيد علي – الى جانب شمولها وشخوصها – اكثر من معنى عميق من معاني شخصية الزهاوي المتعددة، فبعد دقائق معدودات من حضوري وبسبب من تداعي افكار وحوادث ومناسبات ابتدأ الحديث عنها يدور بيني وبينه اخذ الزهاوي رحمه الله يحدثني وهو يستعرض شيخوخته الراهنة عن مدى قوته التي كان عليها وهو في ريعان الشباب.

وعن مدى سمعة كل لذاته واقرانه في كل مقاييس القوة والصحة وثبات القلب وحيويته، وكان من تلك المقاييس مدى صبر الفرد على الغوص في الماء وهو مبهور الانفاس مقطوعها. كان الزهاوي وهو يحدثني عن هذا كله وعن فوزه على اقرانه في طول المدة التي يغوص فيها اكثر منهم يحرك ساعته بصورة غير ارادية وكنت لا اعرف السبب في ذلك. وسرعان ما عرفت فقد التفت الي الزهاوي فجأة ليقول لي وقد قطع حديثه.

افندم نتراهن؟!

على اي شيء يا استاذ؟

- على ان اقطع نفسي وتقطع نفسك و(الساعة) حكم بيننا!

كنت بين الدهشة وبين الانبساط والفرج وكان المجلس في مقهى رشيد عامرا وكانت العيون كلها تشخص الينا بطبيعة الحال، وسرعان ما وجدتني وانا مغرور بشبابي وفتوني اقول للاستاذ الزهاوي:

حاضر استاذ.. بي راح اغلبك.

- تغلبني او اغلبك افندم هذا ما يهم المهم انك لا تسرق ولا اسرق نفساً.

- قول شرف يا استاذ انني نفسا.

للقاري العراقي اليوم ان يتصور هذه الصورة تصورا عميقا الشيخ الزهاوي على وقاره وشيخوخته ومكانته، وكان انذاك عينا في مجلس الاعيان، وانا الشاب ابن السابعة والعشرين وفي مقهى حافل وعلى منضدة تتوسطنا قد وضعت ساعة مدورة غير صغيرة وكلانا يبدأ باشارة معينة ليقطع نفسه ويعيده حنينا الى صدره، للقاريء العراقي ان يتصور هذه الصورة الرائعة العميقة وتبرير مراميها الجميلة.. وتطلعت العيون كلها الينا. وحبست الانفاس وانتفخت الاوداج والعروق واحمرت الوجنات وجحظت العيون وابتدأت ثواني الساعة تتحرك بالدهشة.. ان الشاب ابن السابعة والعشرين بكل حيويته وقوة قلبه يستسلم صاغرا وياخذ النفس وهو يثب من على كرسيه ويقول يا استاذ كفاية.

لقد كسب الزهاوي ابن السبعين الرهان..

م. الاديب العراقي 1961