صفحات مطوية من تاريخ العراق القريب يفتحها نجيب محيّ الدين

صفحات مطوية من تاريخ العراق القريب يفتحها نجيب محيّ الدين

د.حميد حسون نهاي

خسر الوسط التربوي والتعليمي في العراق مساء يوم الخميس 25 شباط 2021 قامة علمية شامخة متمثلة برحيل الأستاذ الكبير نجيب محي الدين , إذ كان الراحل نقيباً للمعلمين في العهد الجمهوري الأول, وقد كان له خدمات جليلة أستمرت لعقود طويلة من الزمن ,

لاسيما في قطاعيّ التربية والتعليم , ولأننا اليوم محزونون على فقدهِ وجدنا من السلوى لنا ولجميع قراء جريدة المشرق الغراء نشر المقابلة الشخصية التي أجريتها معه قبل ثلاث سنوات تقريباً , وبرحيلهِ ندعوا الله سبحانه وتعالى أن يتغمده بواسع رحمته وأن يسكنه فسيح جناته, وأن يلهم أهله وطلبته ومحبيه عظيم الأجر والثواب وجميل الصبر والسلوان إنه سميع مجيب الدعاء. إنا لله وإنا اليه راجعون.

لا أُبالغ عندما أقول إن صباح يوم 11 شباط 2018 كان صباحاً مميزاً, وكيف لا يكون كذلك وانا التقي بشخصيةٍ تميزت بالتوازن والاعتدال والموضوعية في حديثها, والإخلاص والتفاني والمهنية والنزاهة في أداء عملها, وحب العراق والولاء له مقياس تقييمها للشخصيات التي عاصرتها, لذلك رأينا من المفيد جداً, نشر أهم ما جاء في هذه المقابلة الشخصية التي أجريتها مع نقيب المعلمين الثاني في حقبة الزعيم عبد الكريم قاسم بعد الدكتور فيصل السامر, ليتحدث عن ذكرياته, وأبرز محطاته السياسية والوظيفية, بالإضافة إلى تقييمهِ لحقبة العهد الملكي بوصفهِ من مواليد لواء ديالى عام 1925, وبذلك يكون شاهد عيان على كثير من الأحداث السياسية والاجتماعية التي عاصرها.

من هذا المنطلق, بدأ اللقاء مع الأستاذ نجيب محي الدين, ليتحدث عن التعليم في العهد الملكي, فقال, إن محاباة أبناء الذوات في التعليم, أو في حالات الغش أثناء الامتحانات كانت قليلة جداً, ولم تكن ظاهرة حينها, لأن بعض الشخصيات كانت تعتد بنفسها وتتمتع بأخلاق عالية, وتقف بل وتتحدى بعض المسؤولين الذين يسعون إلى انقاذ أبنائهم من العقاب أثناء حالات الغش, يقول كنت في حقبة الخمسينيات مديراً لإحدى الثانويات في بعقوبة, وكنت رهن إشارة مدير المعارف العام, الذي أوكل إليّ مهمة إدارة الامتحانات الخارجية في إحدى ثانويات لواء كركوك, وفي ثاني أو ثالث أيام الامتحانات, لاحظت نجل متصرف لواء كركوك مصطفى اليعقوبي يمتحن خارجي, وكان يحاول الغش, وكما هي طريقتي المعتادة ابدأ بالتنبيه ثم التحذير وآخرها الاخراج من القاعة الامتحانية, وقد كان معروف عن هذا الطالب بأنه متأخر دراسياً وجاء ليمتحن امتحان خارجي, وبعد تنبيهه وتحذيره لأكثر من مرة, تبين أن الطالب كان فاشلاً, لأنه حاول أن يُظهر بأنه نجل المتصرف, الأمر الذي دفعني إلى سحب الدفتر الامتحاني منه وإخراجه من القاعة, وبعد الامتحان أبلغت مدير المركز الامتحاني بذلك فأمتعض وقال ماذا فعلت؟ ماذا تقول لوالدهِ المتصرف؟ وللإنصاف أقول, لم يبدِ المتصرف أية ردة فعل, أما ابنه فكان بإمكانه أداء بقية الامتحانات لكنه لم يحضر, وفيما يتعلق بيّ , فقد تم تكريمي وذلك بنقلي إلى وظيفة أعلى وأرقى, وهي معاون مدير دار المعلمين العالية عام 1950.

وفيما يخص قبول الطلاب في المدارس, فقد كانت أغلبها تتم على أساس مهني, وتكون على شكل حصص لكل لواء, حسب النسب السكانية, منها على سبيل المثال تخصيص 120 مقعداً للقبول في دار المعلمين العالية, تتم المنافسة بين المتقدمين ويتم قبول أصحاب الدرجات العالية, وبالنسبة لمدارس البنات فقد كانت قليلة جداً وغير منتشرة, ومعظم الالوية ليس فيها مدرسة واحدة للبنات, ويمكن القول إن نسبة قبول البنات كانت تعادل لواء في كل العراق ويتم القبول على أساس المعدلات العالية أيضاً. ومن المفيد الاشارة إلى ان المدرسة المأمونية كانت أول مدرسة في العراق الملكي, وقد كان الملك فيصل الاول راغباً في أن يكون معلماً فيها, في حين كانت الإعدادية المركزية أول ثانوية في العهد الملكي, لأنها امتداد للعهد العثماني وكانت تسمى حينها “إعدادي ملكي”, للتفريق بينها وبين المدرسة العسكرية التي كان اسمها “إعدادي عسكري”, وقد كانت هنالك مدرسة متوسطة تسمى حينها “إعدادي رشدي».

أما البعثات الدراسية خارج العراق, فقد كانت تتم على وفق معايير موضوعية وتنافس بين الطلاب, ليحصل أعلى المتقدمين على فرصة الدراسة خارج العراق, وعلى الرغم من ذلك كله, فهي لا تخلو من المحسوبيات ومحاباة الأقارب والأصهار لاسيما عند انسحاب أو وفاة أحد المتقدمين, الأمر الذي يجعل بعض المقاعد شاغرة, ولكن هذه الأمور كانت نادرة وقليلة وغير مؤثرة, لان أبناء الطبقة الوسطى كان من الممكن قبولهم في البعثات إلى جانب أبناء الذوات.

وفي الموضوع ذاته, أشار الأستاذ الراحل نجيب محي الدين إلى ان أول بعثة دراسية إلى الخارج كانت في عام 1921, وقد تكونت من تسعة أشخاص, خمسة منهم درسا التربية والزراعة والاقتصاد والكيمياء في الجامعة الأمريكية في بيروت, وأثنين درسا اللغة العربية في القاهرة, وأثنين أيضاً درسوا الطب في انكلترا, وقد شملت هذه البعثة طوائف العراق كافة, لكنها اثارت امتعاض بعضهم لاسيما اليهود والمسيحيين الذين اعترضوا وقالوا هنالك أسس موضوعية يجب الأخذ بها, منها اللغة الانكليزية التي يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار, لاسيما وان لليهود والمسيحيين مدارس أهلية تقوم بتدريس اللغة الانكليزية, لذلك رأوا انفسهم أكثر إجادة من المسلمين في هذا الجانب.

وتجدر الاشارة إلى ان الملك فيصل الأول لم يكن منحازاً لطائفة معينة, لذلك وبمجرد انتقاد هذه البعثة من الإعلام قام بتكليف رئيس الديوان الملكي رستم حيدر وهو من الشيعة لمتابعة الموضوع, وفعلاً أرسل رستم حيدر كتاباً إلى وزارة المعارف يسأل فيه عن آلية إختيار هؤلاء الأشخاص, وقد كان الجواب ان الاختيار كان وفق اسس ومعايير موضوعية, منها الكفاءة وحُسن السيرة وعدم القدرة المالية أي من أسر غير ميسورة, لأن الأسر الميسورة تقوم بتدريس ابنائها على حسابها الخاص, وقد قامت وزارة المعارف بتعريف الأشخاص التسعة واحداً واحداً, وكانوا جميعاً ممن تنطبق عليهم الشروط, ولم تعتمد مسألة النسبة السكانية, واتذكر ان أحدهم كان يهودياً اسمه “جاك عبودي”, يعمل أستاذاً في كلية الطب, ومختص بمرض الأعصاب ويُعد من أفضل الاطباء العراقيين علماً وسلوكاً.

وبما ان الحديث مع الأستاذ نجيب محي الدين يمثل شهادة تاريخية عن العهد الملكي الذي عاش فيه أكثر من ثلاثة عقود, انتهزنا الفرصة لمعرفة تقيمه للنظام السياسي آنذاك, والدستور والانتخابات, فقال, للأسف يوجد الآن توّجه لتبييض سيرة النظام الملكي, وكأنه نظام لا توجد فيه أي شائبة, لكن اقول إن النظام الملكي فيه من الايجابيات, لكن طيلة العهد الملكي (1921- 1958), لا توجد انتخابات حرة نزيهة ماعدا انتخابات عام 1954, واستمرت ليوم واحد فقط وأُجهضت من قبل نوري السعيد, حيث كانت الانتخابات تتم بالتعيين وليس الانتخاب, وأكثر من ثلثي عمر العهد الملكي كانت فيه أحكام عرفية في معظم أجزاء البلد, ولم تشكل وزارة إلا من خلال التوافقات بين الشخصيات المتنفذة والموالون لهم, والولاء كان له أهمية بالغة في تسنم المواقع, فالبعض يحسب على الإنكليز والبعض الاخر يحسب على البلاط وآخر على نوري السعيد وهكذا كانت الولاءات لها ثقل كبير بالإضافة إلى وجود المتملقين, لكن المسؤول يختار الموالي الكفوء في معظم الاوقات.

على هذا الأساس يبدأ المتهافتون على المواقع والمناصب لاسيما في أوقات الانتخابات لتقديم فروض الطاعة للمسؤولين الكبار, وكان معظم الذين يصلون الى المواقع الحكومية المهمة من الموالين الذين بإمكان المسؤول الكبير الاستفادة منهم لأن لهم ثقل اجتماعي أو لديهم لوذعية في الخطابة أو ما شابه.

نتيجة لكل ذلك حدثت طرائف في بعض الانتخابات منها على سبيل المثال, يفوز نائب معين من دون أن يرشح نفسه أو هو لا يعلم بالترشيح اصلاً, أو يفوز شخص معين في أكثر من لواء في وقت واحد, والامانة تقتضي القول إن المركز الاجتماعي والسياسي للعائلة كان له دور كبير وهذه حقيقة شاخصة في العهد الملكي, لأن فيه من نقاط القوة الشيء الكثير الذي يمكن الاستفادة منه. كان في دستور عام 1925 نصوص ديمقراطية وكان همّ المعارضة وشغلها الشاغل هو المطالبة بتطبيق نصوص الدستور, لكن لا أحد يسمع, ولو كان هنالك تطبيق للدستور والديمقراطية لكانت الانتخابات في تحسن مستمر والدورات البرلمانية المتعاقبة تكون بشكلٍ أفضل, لكن ما حدث كان العكس تماماً, بحيث كانت آخر دورة برلمانية يسمى مجلسها بـ “مجلس التزكية».

مما سبق يبدوا واضحاً, أن وجود الأصهار والأقارب في المناصب كان نتاج طبيعي وأمر واقع نتيجة غياب النظام الديمقراطي الصحيح الذي يعتمد على الكفاءة والقدرة بالإضافة إلى ان ذهنية المجتمع العراقي آنذاك كانت تتقبل هذه الشخصيات التي تنتمي إلى أسر ذات وزن كبير ومقبولة إجتماعياً وكان معظمهم محترمين في الوسط العراقي ومن هؤلاء السيد رشدي عبد الهادي الجلبي الذي أصبح وزيراً لأكثر من مرة في عقد الخمسينيات, وهو بالرغم من انه خريج الجامعة الامريكية في بيروت, لكن بالمقاييس الموضوعية والكفاءة التي تحتاجها الوزارة ليس له نصيب في هذا المضمون, لابل لا يأتيه دور لوجود الأكفأ منه, لكن لأن والده السيد عبد الهادي الجلبي الذي كان نائباً ووزيراً فضلاً عن انه أحد أبرز وجهاء وأعيان بغداد لاسيما في مدينة الكاظمية المقدسة أعطي هذا المنصب.

وفي حديثنا عن الأحزاب السياسية تطرق الأستاذ نجيب محي الدين عن انتمائهِ إلى الحزب الوطني الديمقراطي عند تأسيسه عام 1946, حينما كان في المرحلة الثالثة في دار المعلمين العالية, وعن رئيس الحزب كامل الجادرجي قال, “ لم يظهر منافس لـ (كامل الجادرجي) في صفوف الحزب ولأنه يمتلك المؤهلات والمكانة بقي مسيطراً على الحزب حتى عام 1961, ولو كانت هنالك زعامات أقوى منه لوصلت إلى رئاسة الحزب, حتى الذين كانوا بالضد من كامل الجادرجي كانوا ينتقدونه في مجالسهم الخاصة فقط, ولم يكونوا منافسين له وفشلوا في إيجاد بديلاً عنه. وينطبق الأمر نفسه, على عبد الفتاح ابراهيم رئيس حزب الاتحاد الوطني, وعزيز شريف رئيس حزب الشعب, ومحمد مهدي كبة رئيس حزب الاستقلال, الأحزاب السياسية بشكلٍ عام كانت تحتاج إلى الديمقراطية, لأن زعماءها استحوذوا على رئاستها لفترات طويلة, لكن عدم ظهور زعامات حزبية تنافس القادة, أسهم في بقائهم هذه المرحلة الطويلة, والحقيقة المرة, إن معظم طاقم العهد الملكي غير مؤمنين بالديمقراطية والحياة الحزبية, ومنهم توفيق السويدي الذي ترك رئاسة “حزب الاحرار” الذي اسسه إلى سعد صالح وهو أقرب الناس إلى الديمقراطية وكان شخصية جديرة بالتقدير والاحترام.

أما محمود أحمد السيد وعبد القادر إسماعيل وعبد الفتاح ابراهيم فكانوا أقارب, ومن القلة المعدودة المثقفة حينها, لأنهم من حملة الشهادات, والأخير كان قدر أُرسل في ثالث بعثة علمية, ليتخرج من الجامعة الامريكية في بيروت, أما عبد القادر إسماعيل بالإضافة إلى حسين جميل فقد تخرجا من كلية الحقوق, وبتالي جمعتهم الثقافة واستوعبتهم جماعة الاهالي, وقد حاولوا تأسيس حزب لكنهم لم يفلحوا, والنتيجة انتمى عبد القادر إسماعيل إلى الحزب الشيوعي, وتوزع الآخرون على مدارس فكرية شتى.