بين الفراهيدي وتلميذه المخزومي

بين الفراهيدي وتلميذه المخزومي

د. مهدي صالح الشمري

بين المخزومي والخليل بن احمد الفراهيدي تلمذة وصحبة، ظهرت ثمرتها الاولي سنة 1951م في رسالة أعدها التلميذ لمرحلة الماجستير عن الاستاذ، وقد نشرت هذه الرسالة في كتاب عنوانه :(الخليل بن احمد الفراهيدي- اعماله ومناهجه) عام 1960 في بغداد.

قال المخزومي: (كنت قد تلمذت للخليل وصحبته وأخذت من هذه التلمذة وانست بالصحبة) .

ولم تنته بانتهاء الرسالة والكتاب، اذ تواصلت الي مابعدهما، اذ يذكر المخزومي : انه (اذا ألمت بي حاجة الي توضيح غامض وتبين مبهم، بذلت ماتهيأ من جهد لاستشفاف روح الخليل وعقله واستكناه علمه) .

ويقول ايضا: (اني لم أوف الرجل ولا استطعت ان ارسم له صورة مكتملة).

وبالرغم من انشغاله في الاعداد لمرحلة الدكتوراه يقول: (لم أنس الرجل ولم يضعف اعجابي به، وبما قدم للعلم والحضارة والتاريخ العربي الاسلامي من اسباب الاعتزاز والفخر) ويؤكد هذا القول باظهار كتابه الثاني عن الخليل بعنوان :(عبقري من البصرة) عام 1972، الذي قال في مقدمته: (جاءت الفرصة ان أجدد العهد به وان لم تنقطع صحبتي له، وان أرد بعض ماله علي وأدفع بعض ما استطيع دفعه.. واستدرك مافات همي ومطلبي من تعليقات وزيادات ألحقها بأصل الرسالة) .

وواصل المخزومي اهتمامه بابداع الخليل ولاسيما وقفته في وجه موجة التشكيك التي قادها الذين درسوا علي الغربيين من الذين شنوا حملات الاساءة الي التراث العربي الاسلامي، من دون استناد الي موضوعية او حقائق علمية، وقد انطلقوا هم واساتذتهم من نفي اية حسنة تنسب الي هذه الامة حتي في لغتها التي كانت مدار الاعجاز السماوي وساحة التحدي لما كان يحسن من واجهتهم الدعوة الاسلامية.

خاطب المخزومي هؤلاء بقوله: (قد استعظم بعض ذوي القصد السيء وبعض ذوي الغفلة وبعض المقلدين من الدارسين المحدثين ان يتفرد الخليل بالمنجزات العلمية، فراحوا يتخبطون في المزاعم تخبطاً، ويخلطون في الاراء تخليطاً، فنسبوا النحو لليونان.. والسريان.. وشككوا في نسبة كتاب العين.. اذ نسبوه الي الهنود مرة والي الصينيين اخري وانكروا ابتداعه) .

(فلم تصمد امام الحقائق، ولم تثبت امام حكم التاريخ، ولم تنل بالسوء عمل الخليل، ولا استطاعت ان تمحو اثاره .. ولاقويت.. علي اخفاء الحقيقة الناطقة بعبقرية الرجل الذي آمن بالعقل هادياً وبالعلم مرشدا وبالفكر وسيلة وبطلب العلم وخدمة الحضارة غاية فنأي (هذا العملاق) عن كل مافي الحياة من بهرجة، وعن كل مافي نفوس الناس من جشع، واغلق بابه دونه حتي لايجاوز همه) .

ويهون المخزومي علي الخليل، وربما يهون علي نفسه كما سنري، هذا الانقطاع وهذه الوحشة مما ظهر او يظهر من جفاء في قوله: (ولن يضيرك يا أبا عبد الرحمن عقوق مايرتكبه تلاميذك في هذا العصر، كما لم يضرك من قبل حملات الحمقي واتهامات ذوي الغفلة، ودعاوي أدعياء العلم، سينشكف الغطاء الذي ران علي النفوس، وينقشع الضباب الذي اشاعته نفثات الحقد والحسد، وتبقي عبقريتك خالدة، وعربيتك صافية وحرفك متألقاً) .

محنة المخزومي

لقد توطدت عند المخزومي المكانة الكبري للخليل بن احمد الفراهيدي العالم المتفرد والانسان الكامل والنموذج الذي يحتذي الذي لايدانيه نظير، فيقول فيه: (كان الخليل من أزهد الناس وأشدهم تعففاً، واعلاهم نفساً، يتأبي ان يبيع علمه بيع السلع، ويتعفف ان يوقفه علي مجالس الامراء وذوي السلطان وكان (غيره) فضلا عن انه علي شيء من اليسار، وعلي كثير من الحرص، لايأبي ان يمد يده حتي الي تلاميذه.. في المقابل يرد الخليل من يلوح له بالثروة والجاه.. رداً جافيا.. في ما يشد غيره الرجال طلباً لما عافه الخليل) .

ولايجد المتتبع لما يعرض المخزومي سردا مجردا منفصلا عن شخصية كاتبه، بل فيه مافيه مما كان يعاني، ولعل عبارته: (الخليل يصرخ في مسمع الدهر ليلتفت اليه ويتحدث عنه باحاديث الخلود) هي تعبير عما يعتمل في صدر الرجل المعبر عن نفسه لان الدهر تحدث عن الخليل والتفت اليه، لكنه كان صامتا بازاء المخزومي في محنة اقصائه عن طلبته ومريديه في معاهد العلم وقاعات التدريس.

وفي تأمل المخزومي لسر عبقرية الخليل وابداعه وتكامل شخصيته يقول: (وُهِبَ عقل مستوعب، وذهن ناقد .. وبيئة البصرة.. والبوادي.. فالتقت في ذهنه كل تلك الثقافات، وحفظها وتمثلها، واعاد صوغها، واحكم بناءها وتبويبها وتصنيفها واضاف اليها تجاربه وأمدها بابداعه)وقد (طفر بالعقل من طور السذاجه والفجاجة الي طور النضج والاكتمال، واذا بالدرس اللغوي غير الدرس اللغوي، وبالنحو، غير النحو، واذا بالدارسين ينثالون علي مجلسه من كل جانب ومن كل أفق، ليعبوا من نحو الخليل في - الكتاب- ) كتاب سيبويه (ت 180هـ) الحاوي علم الخليل.

و (ليس العلم استيعابا للمسموعات، ولا استظهارا لمحفوظات ، لكن العلم هو الحفظ والفحص والنقد والتمثل) ويورد قول ابن المقفع في الخليل: (رأيت رجلا عقله أكبر من علمه) ويقول المخزومي :(طول التدبر والتفكر في ما في نفسه وفي ما حوله هو الذي وسع عقله وشحذ فطنته وأرهف حسه وفجر عبقريته (اذ) يخضع كل شيء لطول التدبر واعمال الفكر.. كان عالما من طراز خاص، ودارساً يتمثل به نوع أمة وعبقرية جيل).

وقد خطا الخليل بالنحو خطوات واسعة فاكتمل علي يديه ، بعد ان جاءه ممن سبقه، ثم اعاد النظر فيه بعد ان اجري وصفا جديدا للعربية استنادا الي مايسمعه بمشافهة الاعراب في بوادي نجد والحجاز وتهامة، كان يسمع من هؤلاء ليعيد النظر وليثبت اركان هذا العلم علي قواعد راسخة وأصول واضحة، انطلاقا من اللغة نفسها في التحليل والتأويل والافتراض والقياس..الخ لكن المتأخرين أقحموا المنطق وعلم الكلام والفلسفة وليس من هذا العلم فيه، وهذا ما رفضه المخزومي الذي تمسك بمنهج الخليل وانتقد الدرس النحوي الذي دب اليه الجدب الذي (أودي بحيويته وقدرته علي تأدية وظيفته وصار درسا في الجدال يعرض النحاة فيه قدرتهم علي التحليل العقلي بما كانوا يفترضون من مشكلات ومايقترحون من حلول).

وقد سمي النحو الذي ابتعد عن الغرض الذي أنشيء من أجله، بالنحو المريض، اذ يقول : (استطاع النحو المريض ان يعبر هذه الفروض وان يخطو ثقيلا علي العقول.. وسره ان يجد في مدارسنا الحديثة من يحتفي به ويفرضه علي الناشئة).

وقد ميز المخزومي بين نمطين من العلماء في تاريخ النحو العربي في كتابه (اعلام في النحو العربي) عام 1982م ، نمط الخليل ومن سار علي نهجه وهو النمط الايجابي، والنمط الثاني النمط السلبي، وكانت غاية المؤلف لفت النظر الي (عصر ازدهار الدرس ويسهم في الدعوة الي الموازنة بين أول النحو واخره، والي احياء النحو، وتجديد ديباجته، ورد الاعتبار اليه، لان هؤلاء الاعلام هم الذين وضعوا قواعد هذا الدرس وهم الذين اعلوا صرحه، وهم الذين احسنوا رعايته وتنشئته.. وان الاخذ بأساليبهم، والاقتـــــــداء بهم باصطناع مناهجهم انمــــــا يعد احياء للدرس وانتصارا للدعوات الخيرة التي دعت الي تخليص النحو من قيوده الثقيلة والي تنقيته من الشوائب التي وسمته بها العصور المتأخرة عصور التخلف والانحطاط عصور الموسوعات والمختصرات عصور المنظومات والمتون والشروح والتعليقات، وشرح الشروح).

وقد أكد المخزومي ان (النموذج الذي يجب ان يحتذي.. أقصد الخليل بن احمد الفراهيدي وتلميذه سيبويه عالم اهل البصرة وحامل علم الخليل، والفراء الذي فتح آفاقا جديدة لدرس ينبض بالحيوية والافق الاوسع، وعند المخزومي ان الاخفش (ت 215هـ) انموذج سلبي دعي متناقض متكسب ادركته حرفة الادب (وحرفة الادب آفة الادباء كما يقول الخليل)، لكنه لاينسي فضل الاخفش وحفظه ونقله لكتاب سيبويه.

ويجد المخزومي بين (المبرد 285هـ ) والخليل بونا شاسعا ذلك لاتجاه المبرد الي الجدل والمنطق والفرضيات والامثلة البعيدة عن الواقع اللغوي.. ثم التكسب بهذا العلم.

نقد وتقويم

ومن النماذج السلبية ابو علي الفارسي (377هـ) الذي انصرف عن الرواية الي المبالغة في القياس وقد قال عبارته الشهيرة : (لئن أخطيء في مئة مسألة لغوية ولا اخطيء في واحدة قياسية). وقد رفض المخزومي هذا الاتجاه للانصراف عن المصدر الحيوي وهو السماع والمشافهة.. واخذ كذلك عليه بعده عن سلوك الخليل في ولوج القصور ومصانعة السلطان ومنادمة الامراء.

ومثلما انتقد الفارسي انتقد الرماني (384هـ ) الذي جاء بـ (نحو جديد لايتصل بنحو العربية من قريب او بعيد.. وليس فيه من نحو الخليل والفراء الا مصطلحات خالفت معانيها، والا عبارات غيرت دلالاتها.. لذلك كانوا يقولون : (النحويون في زماننا ثلاثة واحد لايفهم كلامه وهو الرماني، وواحد يفهم بعض كلامه وهو ابو علي الفارسي وواحد يفهم جميع كلامه وهو السيرافي).

والسيرافي (368هـ) في اعتداد المخزومي وتقويمه: (كان زاهدا في المناصب قانعا بهذه الدراهم المعدودات يصرف فيها شؤونه وحاجاته مقتفيا المثل الاعلي في الزهد والعفة والاباء، والاقبال علي طلب العلم والانصراف عن الدنيا، الذي قل ان يشهد التاريخ له نظيرا اعني الخليل بن احمد الفراهيدي الذي ابتســــــــمت الدنيا لتلاميذه وهو في خص لايشــــــعر به احد، وكان ابو سعيد السيرافي كثير الاستشهاد باقواله شديد الميل الي احتذائه) .

ثم ابن جني (ت 392هـ) تلميذ ابي علي الفارسي الذي وضعه المخزومي في خانة الايجاب خانة الانصراف الكامل للعلم خانة الخليل ابن احمد الفراهيدي وقال فيه : (كان لايدع فرصة الا استغلها في طلب العلم فكان ان احتل مركزا مرموقا وقدم للدرس العربي مددا جديدا، ولمجالس الدرس مواد جديدة، وخاض مجالات للدرس عزيزة علي غيره من الدارسين منذ ان توفي الخليل والفراء فكان ابو الفتح (ابن جني) بحق متمما لما بدأه الخليل من بحوث في اللغة تتعلق بدراسة الصوت، وبنية الكلمة.. وكان في مقدمة اعماله الفخمة كتابان مايزالان مرجع الدارسين في فهم آراء الخليل.. وهما: (سر صناعة الاعراب).. وكتاب (الخصائص) في اصول الدراسة النحوية) .

لكن المخزومي يأخذ علي ابن جني اهماله نسبة آراء الخليل لصاحبها وكأنها له: (حتي خيل للدارس انها لابن جني ويزيد ابن جني في حمله علي مثل هذا التخييل ان ينسب الي نفسه امورا لو تتبعها الدارس الفاحص لأوصله تتبعه الي الخليل من هذا مقالته التي عقد لها بابا سماه: امساس الالفاظ اشباه المعاني). ومافات المخزومي النظر في دعوة ابن مضاء القرطبي الاندلسي التي دعا بها الي هدم نظرية النحو المشرقي استنادا الي مقاييسه التي تحترم منهج الخليل فيقول :(ثم نحاة الاندلس وهم النحاة المشرقيون- اللهم الا ما كان من ابن مضاء القرطبي (ت 592هـ) الذي درس كتاب سيبويه.. وكان يضيق بمعاصريه من النحاة.. وكان يغيظه منهم اندفاعهم في التقليد فطالب النحاة ان يحذفوا من مايستغني عنه ودعاهم الي الغاء فكرة العامل) ثم يبين المخزومي رأيه في هذه الدعوة: (لست ممن يجحد لابن مضاء ومضة ذهنه او يوهن دعوته القوية العارمة، ولكني انست من بعض اقواله لمحات رجعت بي الي ماوجدته عند الفراء وغيره ولم يكن كتاب - الرد علي النحاة لابن مضاء- في واقعه خطة لدرس جديد ولكنه طائفة من آراء متفرقة اراد صاحبها ان يهدم بها بناء تعاونت القرون علي اقامته دون ان يقدم للدرس خطة جديدة ينبني عليها نحو جديد) وهذه الخطة هي ماكان من سعي المخزومي ودأبه كما سنرى.

وأصل رد ابن مضاء علي النحاة انهم (التزموا مالايلزمهم وتجاوزوا به القيد الكافي في ما ارادوا منها وتوعرت مسالكها ووهنت مبانيها وانحطت عن رتبة الاقناع حججها).

غير ان المخزومي الذي وضع الخليل وعصره المثال الذي يحتذي وبه يجب ان يتمسك قائلا :(فاذا بهذه الدراسة ناصحة مكتملة، منهجا واصولا ومسائل، وقد بلغت ذروتها علي يد الخليل بما قدم لها من اعمال وقد ساعد الخليل علي ان يمضي بهذه الدراسة شوطا بعيدا في النضج والاكتمال ماتيسر له ولمعاصريه من مصادر لغوية منقولة له من شعر وخطب وامثال ومن مصادر حية كانت بوادي نجد والحجاز وتهامة تحفل بها، اعني العرب الفصحاء).

وبالرغم من اعتراض المخزومي علي ابن مضاء ومجمل دعوته يوافقه في الغاء نظرية العامل والتقدير والغاء العلل الثواني والثوالث، في قوله : (ان نخلص الدرس النحوي مما علق به من شوائب جرها عليه منهج دخيل، هو منهج الفلسفة الذي حمل معه الي هذا الدرس فكرة (العامل) واذا بطلت فكرة العامل بطل مايبني عليها من تقديرات متمحلة وكان الخليل بن احمد اذا تناول مسألة.. نحا فيها نحوا مقبولا في نظر الدرس اللغوي ولم يفلسف المسألة او يتكلف تعليلا عقليا، وانما يستعرض في ذهنه استعمالات العرب واساليبهم، وكان الفراء، وهو اشبه الدارسين بالخليل يتناول القياس تناول الخليل اياه.. دون ان يتكلف واستناجا، او يتمحل في استنباط.. ان ماجاء به الخليل والفراء ليس من النحو الخالص، وانما كان درسا شاملا لفروع الدراسة النحوية واللغوية والصرفية والصوتية).

واصبحت الحاجة ماسة الي تفريق الموضوعات التي هي خليط من العلوم اللغوية من التي تناولها الخليل والفراء ومن عاصرهما مختلطة متشابكة.. (من اجل ان طبقات النحويين الذين جاؤا بعد الخليل والفراء لم يدركوا موضوع دراستهم ولاعرفوا حدود تخصصهم وقد فاتهم الكثير من الاصول التي هي من صلب موضوع الدراسة ولم يلتفتوا الي اهميتها والي عمق الصلة بينها وبينه واقتصروا في دراستهم علي ماشغفوا به من فكرة العمل والعامل، وقصروها علي ما كانوا يلاحظون من تأثير لبعض الكلمات في بعض ولايمثل هذا الاجانباً ضئيلا من جوانب الدرس النحوي الحق..) وقد اعتذر المخزومي لهؤلاء المتأخرين بالاستناد الي المتاح والمتيسر من اتصال النحويين بالمتكلمين او قد يكون بعضهم منهم، وان المنهج لم يتضح ويستقر عندهم، ولاعهد لهم بمناهج البحث العلمية الرصينة انما كانوا في مرحلة النشأة والبداية.