لورنا و فراغ الرحيل

لورنا و فراغ الرحيل

إنعام كجه جي

وجدت لورنا نفسها في مأزق بعد وفاة زوجها . فهي بلا عمل وتعيش بعيد عن والديها ، وليس لها من مورد سوى الراتب التقاعدي البسيط الذي تركه جواد لابنتيه وقدره ستة وعشرون دينارا . اما مكافأته عن نصب الحرية فلم تتجاوز الثلاثة الاف دينار .

هنا ارتأى رفعة الجادرجي ان ذلك المبلغ لا يتناسب والعمل المضني الذي انجزه جواد فاقترح ان يحاول الحصول على مبلغ اضافي يدفع للورنا مقابل اشرافها على استكمال تعليق المنحوتات في اماكنها المناسبة على الجدار ، باعتبارها رافقت زوجها في كل مراحل هذا العمل ، وباعتبارها هي نفسها فنانة في الاساس .

وفعلا رسمت لورنا التصميم الذي جرى تعليق قطع البرونز استنادا اليه ، وكانت تذهب يوميا الى موقع العمل الى ان اخذ النصب شكله النهائي وصار جاهزا للتدشين . وقد صرفت لها في اخر الامر ثلاثة الاف دينار اضافية ، كان لها اثرها في مساعدتها في المأزق الذي كانت فيه .

تقول لورنا : (( لم افكر بترك العراق بعد وفاة جواد لان زوجي كان علما في بلد، واردت لابنتيه ان تكونا فخورتين بابيهما ، وان تعرفا اي فنان كبير كان . ولو اخذتهما وهما في تلك السن الصغيرة وعدت الى بريطانيا فقد لاعرفان عنه شيئا )) .

وقف اصدقاء مخلصون الى جانب لورنا في تلك الفترة العصيبة من حياتها ، بينهم لمعان البكري وزوجها محمد عبد الوهاب . وقد اقترحت لمعان على لورنا ان تكتب رسالة الى عبد الكريم قاسم تقول له فيها ان جواد قد ضحى بنفسه وهو ينجز هذا الصرح الفني الوطني ، وانها لا تنوي مغادرة العراق بل تريد تنشئة ابنتي جواد سليم ، زينب ومريم ، في وطن ابيهما .

كان الامل من تلك الرسالة ان الزعيم عبد الكريم قاسم سيأمر حال قراءتها بقطعة ارض تبني عليها لورنا بيتا لها ولابنتيها ، وتستقر في بغداد كما تحب . وهي قد كتبت الرسالة وراحت تنتظر الجواب الذي سيحدد مصيرها ، وقد جاء الجواب هاتفيا كالتالي : وصلت رسالتك الى سيادته واسعده رغبتك في البقاء في العراق ، لذلك امر باعطائك الجنسية العراقية .

ولانها اخذت صورا للمنحوتات بعد انجازها في ايطاليا ، فقد رغبت في ان تطلع الزعيم عليها قبل ازاحة الستار عن النصب ، وذهبت فعلا الى وزارة الدفاع ، حسب موعد مسبق ، وانتظرت طويلا ، ثم جاء احد الضباط ليقول لها ان الزعيم مشغول ولا يستطيع مقابلتها ، واخذ منها الصور ليريها له ، ولم يعدها اليها .

سافرت لورنا ذلك الصيف لقضاء اجازتها في بريطانيا مع ابنتيها ، ولم تحضر حفل ازاحة الستار عن نصب الحرية في تموز 1961 ، اذ كان احتفالا رسميا كل الحضور فيه من الرجال . وهي لا تذكر انها تلقت دعوة للحضور .

بعد عودتها من الاجازة كان اول ما فعلته انها ذهبت لرؤية النصب ، وشعرت انه ليس عظيما فحسب ، بل هو متعة للنظر ومحرك للروح . وفي تلك اللحظات الراعشة التي كانت تقف فيها مثل كائن ضئيل امام ذلك الصرح العالي . تذكرت ما قاله الفنانون الايطاليون الذين اتيحت لهم رؤية المنحوتات اثناء صبها في فلورنسا . لقد قالوا لجواد انه فنان محظوظ لحصوله على فرصة انجاز نصب بهذه الضخامة ، وحتى في اوربا يندر ان تمنح دولة من الدول احد فنانيها فرصة كهذه .

هل جاء النصب تتويجا لابداع جواد سليم ؟ تعلن لورنا بصوت خافت انها تحب نصب الحرية كثيرا ، لكنها لا تعتبره افضل اعمال زوجها . فالعمل الاقرب الى قلبها هو منحوتة ( الاسطة البناّء) التي اقتناها متحف الموصل ، ثم أنتقلت فيما بعد الى متحف الرواد في بغداد .

بدأت لورنا تدرك معنى ان تبقى وحيدة بدون جواد ، مع كل ما يعنيه ذلك من اعباء ،لكنها كانت قد فرحت بحصولها على الجنسية العراقية ، اذ اتاحت لها ان تلتحق بهيئة التدريس في كلية البنات كموظفة عراقية لا اجنبية متعاقدة .

وعندما اتجهت النية لاغلاق كلية البنات اواسط الستينات انتقلت بمساعدة من محمد مكية الى تدريس الرسم في كلية الهندسة ، وبقيت فيها ست سنوات .

الامر الوحيد الذي كان يحبطها هو انها لم تتعلم العربية على اصولها ، وكانت تكرر ان تلك غلطة جواد ، اذ كان يفضل ان يحادثها بالانكليزية في البيت لكي يساعد ابنتيه على اتقان تلك اللغة ، مادامتا تتعلمان العربية في المدرسة .

اضطرت لورنا الى تعلم لغة زوجها بعد وفاته ، مثلما حصلت على جنسيته بعد وفاته ايضا . كانت تستطيع تدبير امورها في السوق ، وتتحدث مع ام جواد عن الطبخ واحوال الطقس وحاجيات البت ، لكنها لم تتمكن يوما من الدخول في نقاش سياسي باللغة العربية ، في وقت كان كل العراقيينفيه يتجادلون في السياسة .

وهكذا صار لزاما عليها ان تعود الى دراسة العربية قراءة وكتابة بحيث تستطيع ان تقرأ لافتات الوزارات واسماء الدوائر والمصالح المختلفة ، اذ كان عليها ان تلاحق معاملة تقاعد جواد ، وان تجهد في حل مشكلة عالقة بسبب سلفة على الراتب كان قد اخذها من معهد الفنون قبل وفاته ، واستغرق حلها سنتين !

ثم ان وظيفة لورنا الجديدة كمدرسة في كلية البنات كانت تستوجب منها ان تعرف اجزاء الجسم على الاقل بالعربية كاليد والذراع والمرفق والركبة ، وقد تعلمت كل ذلك ، لكنها عجزت عن اتقان قواعد اللغة وبدون القواعد لا يمكن تكوين جملة صحيحة ، لكن الوان كان قد فات .

.. ومن بين طالباتها في كلية البنات تذكر لورنا الطالبة سعاد العطار .

كانت سعاد قد تزوجت صغيرة وسافرت مع زوجها الى امريكا حيث درست الرسم في احد المعاهد ، وعندما عادت الى بغداد لم يعترفوا بشهادتها في المعهد الذي درست فيه . فالتحقت بكلية البنات لدراسة الرسم من جديد . وحالما رأت لورنا رسوم سعاد ،ادركت انها امام فنانة بالفطرة ولا تحتاج الى محاضرات حول كيفية مزج الالوان وغير ذلك من مبايء اولية ، فقالت لها انها معفاة من حضور الدروس ، وستعطيها الدرجة في آخر السنة على رسومها .

شغل العمل في التدريس لورنا ، لكنه لم يملأ كل وقتها . لقد ترك جواد فراغا هائلا في حياتها ، مثل الصمت الذي يعقب انفضاض عرس صاخب دام عدة ايام .

عن كتاب : لورنا .. سنواتها مع جواد سليم