المفكر عبد الغفار مكاوي والمسرح

المفكر عبد الغفار مكاوي والمسرح

عبد الغني داود

تتعدد إبداعات الراحل (د. عبد الغفار مكاوي ) 1930 – 2012 ما بين الدراسات الفلسفية والقصة القصيرة ، والترجمات ، ( والشعر في بدايات حياته ) ، والمسرح الذي عشقه وتعددت فيه أشكاله في مختلف مراحل حياته، إذ من الغريب أنه كتب أكثر من سبعه عشر نصا مسرحيا ثريا بالرؤى والخيال ، ورغم ذلك لم يقدم له المسرح المصري نصا واحدا سوي مسرحية “ البطل” في مسرح الثقافة الجماهيرية !!

بدأت علاقة الكاتب المبدع والمفكر د. عبد الغفار مكاوي بالمسرح منذ وقت مبكر ــ ففي مجموعته القصصية الثانية ( الست الطاهرة 1961 ) نشر بعض مسرحيات الفصل الواحد ( علما بأنه قد نشر أولى قصصه القصيرة عام 1952 ) ، وكان من بين مسرحيات تلك الفترة ( المرأة ) وفكرتها ( مستوحاة ) من حكاية ذكرها الشاعر الألماني ( جيته ) في تعليقاته على ( ديوانه الشرقي ) ــ فقد رأى القائد المغولي المرعب وجهه لأول مرة في المرأة ــ فأستبشعه ، وانخرط فى البكاء ـ عندئذ قال له بعض المحيطين به :- إذا كنت قد بكيت بعد رؤية وجهك مرة واحدة فما ذا تفعل ونحن نراه كل يوم ؟ ، كذلك استلهم هذا النص من حكايات ونوادر جحا وبعض كتب التاريخ عن لقاء جحا ( بتيمور لنك ) فتبدأ الأحداث بإصرار ــ تيمور لنك ( الأعرج ) على أن يسير حافيا بقدمه الواحدة ــ لأنه لا فرق بين الملك والحارس فى المشاعر الإنسانية كالحزن والفرح والبكاء ، ويعبر ( الملك ) عن رغبته في الضحك فيدله ( الحارس ) على جحا وحماره لأنه الوحيد الذي يستطيع أن يجعل الإنسان يضحك من القلب ، ويلتقيان فلا يتعرف ( جحا ) على شخصية الملك فهو مشغول بفقدان حماره ، ويسخر ( جحا ) من الملك وجنوده ــ الذين يتهمهم بسرقة الحمار لدرجة أنه يبحث عنه عنده ــ إلى أن يخبره الحارس بشخصية ( تيمور ) فيناوله جحا مرآته التي يحتفظ بها ليرى فيها الملك نفسه ، ويكشف له جحا عن أعماقه ، ورحلته فى الحياة ، وكيف تحول من فتى حالم بسعادة البشرية إلى سفاك دماء وقاتل للشعوب ، فيتعرف ( تيمور لنك ) على نفسه كسفاح ، وهناك يكسر جحا المرأة ، ويعرض تيمور على جحا أن يصبح نديمه مدى الحياة ، فيبكى جحا حزنا ويرفض ، ويجعل رجال جيش ( تيمور ) يرون أنفسهم في قطع المرآة المكسورة كي يتعلموا الضحك وينصرفوا عن الحرب كما أنصرف ( تيمور لنك ) عنها .. والنص كما نرى ــ قطعة حوارية جذابة ولقطة ذكية تخاطب المثالية عند البشر .

ومن ( روايات وقصص مصرية ، ترجمة : دعاء حافظ) يستلهم مسرحية ( الموت والمدينة ) 1968 وهى قصة ( الشبح ) ، وتروى قصة ملك عجوز يطارده ويؤرق نومه(شبح) هو روح ميت يهدم قبره ، ولا تهدأ هذه الروح حتى يأمر الملك ببناء قبر جديد له ، وقد عاد الكاتب في صياغة نصه إلى قصة ملك الهكسوس المتبجح الذي ادعى أن أصوات أفراس البحر في طيبة تزعجه بينما هو يقيم في الدلتا ـ أما الأشعار المنبعثة في النص فقد استوعب بعضها من نصي ( نذر أيب أور ) وبعضها الآخر من ( حديث متعب من الحياة مع نفسه ) وهما من نصوص الأدب المصري القديم ، ويعد هذا النص إعادة نظر وتعليق عل أسباب هزيمة يونيو 1967 مستعيرا أزمة التاريخ القديم ليقدم لنا استعارة درامية على ما يحدث فى الحاضر ، ومستفيدا ـ أيضا من نص ( شكاوى الفلاح الفصيح ) ، ويستشهد بفقرات منه ، ويشير فيه أن لا سلام مع العدو الغاصب كما تقول الروح أو الشبح بقولها ( لكنهم لن يتركوكم فى سلام ) ، وأن الهلاك قد جاء بسبب موت الضمير والموت فى النفوس والصدور ، ولن يأتي الخلاص الأعلى أيدي من ينصف المغبون ومن يهزم الظلام فى الصدور والعيون ، ومن يحقق العدل ـ ليموت الملك المتهالك ـ الذي عاش ومات فى قصره كاليتيم كما يشير ( الراوية ) الذي يتجه للمشاهدين ويطالبهم بأن يتذكروا العدو الذي يذبح الرجال والأطفال والنساء ، ونتوقف هنا عند توظيف ( الراوية ) في هذا النص والذي سيتكرر في النصوص الأخرى كواحد من ملامح ( المسرح الملحمي) .

ويعد نص “ ثوب الإمبراطور “ 1971 ( مجلة الأدب ) النص الوحيد من نصوصه الذي ينتمي إلى المسرح الطبيعي أو المسرح الأرسطي ، وهو من ثلاثة مشاهد ، كما استلهم من قصيدة للدنماركي ( هانز كريستيان أندرسون ) .. حين تصرف كاتبنا في بعض تفاصيلها عند كتابتها تحت تأثير هزيمة يونيو 1967 لتخرج كوميديا خفيفة ذات أسلوب ذكى ، ورغم نلمح ( المهرج ) في هذا النص وكأنه يقوم بدور ( الراوية ) .. بما يشير إلى مدى التأثير القوى للدراما الملحمية على مسرح الكاتب ، وكذلك ميله ( للاستلهام ) من إبداعات الآخرين ، وإقامة جدل وحوار معها ـ وليس ( تناصا ) معها .

يقول الكاتب: ( كانت أعوام انتدابه ما بين أعوام 1978 ـ 1982 للتدريس . بجامعة صنعاء باليمن ( أطيب سنوات عمري و أغناها بالرضي والطمأنينة والإنتاج الأدبي ) حيث كتب بعض ( المسرحيات اليمنية ) والتي أكملها بعد رجوعه للقاهرة سنة 1982 ـ وهى أربع مسرحيات هامة ( مستوحاة ) من القصص الشعبية اليمنية ، وأولها مسرحية “ البطل “ والتي قسمها الكاتب إلى ( بداية ، ولعبة ، وخاتمة ) وبطلها ( حسن سيف ) الرجل القصير القامة والذي يترنح وفى يده سيف أطول من قامته ، والذي يقال أنه قهر ( الطاهش ) . أي الوحش الذي يقف على الأسوار يفتك بالراكب والسائر .. فيصبح ( حسن سيف ) محرر الشعب . لكنه لا يلبث أن يتحول إلى طاغية ليصرخ الناس : من ينقذنا من منقذنا .. وتتحول الخاتمة إلى محاكمة لحسن سيف ، ويتوجه ( الراوي ) للجمهور قائلا : - ( انتهت اللعبة ، وعليكم أن تنتبهوا كي لا تتكرر كذبة .. تتولد منها كذبة )، وفى هذا النص يوفق الكاتب في نقل بعض عادات وتقاليد اليمن ومفردات حياتهم ، ونكتشف أن القيم الفكرية قد وصلتنا كاملة وأننا لسنا أمام شخصيات خرجت من بطون الكتب الصفراء بل أمام شخصيات فى الحاضر المعاش .. ورغم رصانة القضية التي يتناولها النص . إلا أننا نلمح عناصر الفرجة والكوميديا ، وكذا يبرز الجانب التعليمي البريختى والمباشر في ( الخاتمة )، وهو الجانب الذي يقلل من شاعرية النص والإيقاع ، ونحن عندها نستعرض بقية ( المسرحيات اليمنية ) كما يسميها الكاتب نجده يوظف ( الراوية ) كشخصية رئيسية تستطيع أن تكون نائبا عن أشخاص آخرين ويستطيع أن يجسد أحداثا وقعت لهم ، أو ينقل إلى شخص ثالث ، وكذا الممثل هنا من الممكن أن ( يقتبس ) أو ينقل عن شخص غائب ، و إعطاء الشعور ( بما ضوية ) الأحداث ، لا بأنها تحدث الآن .

و يميل ( عبد الغفار مكاوي ) إلى استلهام نصوص مبدعين آخرين في شكل مسرحي له خصوصيته التي تنتمي إلى ملامح فكر وإبداع كاتبنا .. فقد استلهم نصه “ الجليسة “ فى مجموعة عبد الرحمن فهمي القصصية “ العودة والزمان “ 1969 ـ ليقدمها فى مسرحية “ الانتهازيون لا يدخلون الجنة “ 1982 معتمدا على ( جوقة ) من الممرضين ، وأحداث تتجسد من خلال العودة إلى الماضي وتوظيف تيار الوعي والتداعي الحر ، وبلغة أدبية فصحى ، وبحرية العودة إلى الماضي ثم إلى الحاضر كما لو كانت جلسات للتحليل النفسي ، والانتقال بين المناظر والذي يأتي بشكل تلقائي .. منطلقا من غرفة طبيب التحليل النفسي ليستكمل تداعيات حياة ( البطل ) .. الذي أصبح مريضا كي يواصل سرد رحلة حياته كموظف انتهازي لم يهتم برعاية ابنته وأهتم بنفاق رئيسه العائد من الخارج ــ فيشعر بالذنب إذ يوجه إليه الجميع الاتهام بأنه تسبب في قتل الابنة لأنه لم يسارع إلى إحضار الدواء لها وانشغل بعودة رئيسه ، وكيف أنه في سعيه للتسلق والوصول إلى منصب أعلى قد فقد حبه الطاهر لحبيبته ، وتخلى عن مبادئه اليسارية .. وتتركه زوجته بعد زواج عشرين عاما لتتزوج صديقه الفقير نافع بعد أن ماتت ابنتهما ، ويبقى وحيدا ضائعا ، ومن خلال السرد تنفى الزوجة عن نفسها تهمة الخيانة ، وتشير إلى قيمة المشاعر والأحاسيس التي تفوق قيمة المادة ، وتلومه لأنه كان دائما مشغولا عنها وعن ابنتهما الراحلة ، وفى النهاية يتجسد مشهد دخول ( الطفلة ) إلى الجنة .. يشهده الطبيب والزوجة .. فترجو ( الطفلة ) الممرضين الذين تحولوا إلى ملائكة وعلى رأسهم الملاك الأسود = ملاك الموت كي يتيحوا لأبيها دخول الجنة .. فيرفضون ويطلبون منه أن يتوب ويتطهر أولا .

وعن قصيدة صلاح عبد الصبور يوميات الصوفي بشر الحافي في ديوانه “ أحلام الفارس القديم “ وبالإضافة لبعض أخبار الصوفي ونوادره وأقواله في القرن الثالث الهجري يستلهم مكاوي مسرحية “ بشر الحافي يخرج من الجحيم “ 1986 وحشد فيها ( 9 ) تسع شخصيات ، وجنود وحراس ورجال ونساء ، والنص عبارة عن لقطات بانورامية لأحداث ووقائع حياة ( بشري الحافي ) الشاعر الصوفي. وفي مسرحية “ زائر من الجنة “ 1985 المكونة من أربعة مشاهد ، وأربع شخصيات هي ( المرأة ، وزوجها ، والشاب ، والمعتوه ، وأصوات نساء ) والقصة الأساسية لهذا النص كانت لوحة شعبية كتبها صانع الأحذية في مدينة نورمبرج وشاعر عصر النهضة (هانو زاكس ) (1414 – 1576 ) الذي ترك عدداً كبيرا من الأشعار واللوحات الدرامية بشخصياتها وحواراتها ولغتها الخشنة مستلهما إياها من المواد والحكايات الشعبية من العصور القديمة والوسيطة ، واللوحة التي اعتمد عليها الكاتب هي إحدى تمثليات عيد الفصح القصيرة بعنوان “ الطالب المسافر إلي الفردوس “ ، وتصرف كاتبنا في صياغة هذه الحكاية الأصلية تصرفا كبيرا ، ويبدو أن هذا التصرف ربما يكون قد جني على روحها الفلاحية الساذجة ، وأنه كان يتمني ان يكون من شعراء العامية المصرية وكتابها .. فلربما جاءت أكثر توفيقا ، وهذا النص يختلف عن شكل ( المسرح الملحمي) الذي التزم به في نصوصه ، ويقوم على مادة غنية حفيفه ، ويحتوى علي الكثير من الفكاهة الشعبية التي استطاع أن يعايش مناخها بقاموس فصحي قريب من الروح الشعبية - حيث تقوم على حيلة شاب يقنع أرملة وفية لزوجها الراحل بأنه جاء برسالة من زوجها من العالم الآخر فتقع في حبه مما يصنع مفارقة ساخرة، خاصة أنها من المفارقات الضاحكة المرحة في جو المقابر ، ومثال آخر لأعماله مسرحية “ الحكماء السبعة “ 1989 ، وهي مسرحية من فصل واحد دارت أحداثها في القرن السادس قبل الميلاد في اليونان .

ويقدم لنا كاتبنا صياغة جديدة لأعمال خالدة في تاريخ الأدب والثقافة مثل “ أوديب” و”ملحمة جلجامش” بملامح مختلفة تصطبغ بصبغته كأديب وفيلسوف .. إذ يقدم “ دموع أوديب 1987 بكائبة في تسعه مشاهد ، حيث يظل اوديب يسرد ( كراوية ) حكايته المعروفة لكنه يسرد ما هو مسكوت عنه ، وما لو يتم تناوله في نصوص السابقين من كتاب المسرح الذين تناولوا هذا الموضوع مثل الحوار مع الوحش قبل أن يقتله ، ومثل أول لقاء بينه وبين أمه جوكستا ودخوله إلي مخدعها ليصبح زوجها، وكيف أن المدينة قد عرفت ان اوديب قد تزوج أمه ، وأنه قد ( دنس ) المدينة ، وأن الوحش قد عاد يهدد (المدينة )وعاد الوباء ، والنص صياغة حداثية بأسلوب السرد الملحمي ، والقيام بأكثر من شخصية من خلال الشكل الدرامي – مُشيرا بأن أوديب المغادر لوطنه ( جانيا ) في العلن وضحية في الباطن ، وهذا هو الإنسان ، ويقدم آخر مسرحياته “هو الذي طغى “ أو محاكمة جلجاش في بداية تسعينيات القرن العشرين ، وهي قراءة جدية ومعالجة درامية لنص تراثي حاول أن يجعله معاصرا في عشر ( لوحات ) درامية ، ومن المثير أن كاتبنا قد ترجم الملحمة بعد ذلك عام( 1994 ) عن الألمانية .. لكنه في النص المسرحي قد سمح لنفسه في اللوحة ( الأولي ) أن يقدم جلجاش للمحاكمة ، ويمزج ما بين النص التسجيلي والدراما الملحمية وبين ( جوقة الشيوخ ) التي تحذره من مغبة السفر والتغيب عن وطنه وأهلة، كما تصرف كاتبنا في صياغة النهاية التي تركها مؤلف الملحمة الأصلي مفتوحة وغير شافيه ولا ممتعه ، وأفترض كاتبنا ان تنتهي الملحمة نهايتين محتملتين – فإما أن يرجع البطل اليائس إلي اوروك صفر اليدين من نبتة الخلود فيجد مدينته خرابا ، ويتضاعف يأسه واغترابه ، وإما أن يعود وقد تطهر من ( أحلامه ) المستحيلة التي تطهرة من بطشة واستبداده فيضع يده في يد شعبه ، ويشارك في البناء الحضاري الذي يتيح له نوعا من الخلود البديل عن ذلك الخلود الوهمي الذي اقتنع أخيرا باستحالته ، وينحاز كاتبنا إلي النهاية الثانية حيث يحرص جلجامش علي بناء سور المدينة الشهير، ويدعو صديقة الملاح ( اورشنابي ) كي يشاركه الإعجاب بأعتاب ومواد بناء للسور الذي صنعه قبل رحيله - بمعني أن العمل والبناء الحضاري هو سلاحه الوحيد في مقاومة الفناء ومواجهة الموت المحتوم، وهذا النص لا هو مسرحية ملحمية على غرار مسرحيات سابقة للكاتب ولا هو ملحمة درامية - إذ أن هناك تداخل للأزمنة بحيث يعيش في عالم الملحمة .

عن المصري اليوم