رحلة بليغ حمدي الملهمة مع الموسيقى وأثره الباقي

رحلة بليغ حمدي الملهمة مع الموسيقى وأثره الباقي

حسام فهمي

إن حاولنا تذكر أكثر الجمل الموسيقية العربية العالقة في أذهاننا، بالتأكيد ستأتي مقدمة “ألف ليلة وليلة” لأم كلثوم في مركز متقدم للغاية، ومن يمكنه أن ينسى أيضا “سواح” و”زي الهوا” للعندليب، لا شك سنتذكر أيضا “يا حبيبتي يا مصر” لشادية، ولا يفوتنا أيضا بعض أشهر الأغاني الشعبية مثل “ميتا أشوفك” لمحمد رشدي، و”يا بهية خبريني” لمحمد العزبي.

وستفرض أغنية “مستنياك” لعزيزة جلال نفسها، وستتصارع أغنيتا “ أنا بعشقك” لميادة الحناوي و”حكايتي مع الزمان” لوردة الجزائرية للحصول على مركز متقدم، وفي النهاية سنتذكر موسيقى “بوابة الحلواني” وتتر المقدمة بصوت علي الحجار.

المذهل أن الملحن الذي قام بتأليف الأمثلة السابقة هو رجل واحد، اسمه بليغ حمدي، تنوع إنتاجه من الرومانسي إلى الوطني، ومن الشعبي إلى الديني، منذ عصر أم كلثوم إلى عصر علي الحجار وسميرة سعيد، لهذا كله استحق بليغ مكانته، بوصفه أكثر ملحني الوطن العربي تأثيرا في نفوس الجماهير العربية، وأكثرهم رسوخا في ثقافتهم الشعبية.

سلاح كوكب الشرق المقاوم للزمن

مع بداية الستينيات شعرت كوكب الشرق “أم كلثوم” بأنها تخسر مكانتها شيئا فشيئا نتيجة استمرارها في غناء النمط نفسه الذي تعودت عليه برفقة السنباطي، وكان الشباب ينجذب بشكل أكبر لجيل جديد من المغنين في مقدمتهم عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش ومحمد فوزي، حينها أتى التعاون الذي منح “الست” سنوات وسنوات أخرى من العطاء.

وتكفل المطرب والملحن المصري محمد فوزي بإهداء السيدة أم كلثوم فكرة التعاون مع بليغ حمدي، الشاب العبقري الذي أتقن عزف العود وهو ابن التاسعة، وهكذا بدأت مرحلة بليغ والست بأغنية “حب إيه” في عام 1960، لتتبعها أغنية “أنساك” في العام التالي.

واستمر التعاون عقب ذلك حتى عام 1973، وأغنية حكم علينا الهوى، وهي آخر ما غنته أم كلثوم قبيل وفاتها. وفي هذه الرحلة الطويلة يبرز بشكل خاص ثلاث أغنيات هي “سيرة الحب” عام 1964 و”فات الميعاد” عام 1967، ورائعة “ألف ليلة وليلة” عام 1969.

بداية حليم وأوج عطائه

ربما تعاون عبد الحليم حافظ في بدايته مع صديقه الملحن محمد الموجي، لكن تعاونه مع بليغ جاء ليسطر معه حليم مرحلة شهدت أوج عطائه، في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات كان حليم ملء السمع والبصر ليس فقط باعتباره مغنيا ولكن بوصفه نجما سينمائيا، وفي هذه المرحلة صنع بليغ مجموعة من أكثر أغاني حليم شعبية، نذكر منها “تخونوه” من فيلم الوسادة الخالية، و”خسارة” من فيلم فتى أحلامي.

واستمر التعاون عقب ذلك حتى وفاة حليم، حيث تنوع بين مجموعة من أبرز أغاني حليم الدرامية على شاكلة “أعز الناس” و”أحضان الحبايب”، وأغانيه التي حاول فيها استلهام اللون الشعبي على شاكلة “على حسب وداد قلبي”، وبالطبع لا يفوت بليغ تأليف مقدمات موسيقية يطلب تكرارها الجمهور في “زي الهوى” و “حبيبتي من تكون».

مصر الانتصار والانكسار

كان بليغ فنانا من نوع خاص، لم يحسب حسابات النجومية والشهرة، ظل بسيطا ومنتشرا ومتعاونا مع الجميع، ولكنه أيضا كان محبا لمصر مهما تغيرت الظروف، ولهذا الصدق والبساطة في شخصيته نجح الرجل في صنع أشهر الأغاني الوطنية المصرية وأكثرها شعبية حتى اليوم، نقصد هنا بالتحديد “يا حبيبتي يا مصر” التي لا تخلو مناسبة وطنية مصرية من سماعنا لها.

وفي الانكسار تبقى كلمات الأبنودي التي لحنها بليغ هي الأصدق في التعبير عن نكسة 67، ونقصد هنا بالطبع رائعة “عدى النهار” التي أصبحت عقب ذلك نشيدا معبرا عن المرحلة من 67 إلى 73.

الجملة الموسيقية الخالدة

إذا ما أردنا تلخيص مسيرة بليغ الطويلة والمتشعبة، فلن نجد خيرا من هذا العنوان، هذا رجل موهوب وبشدة في خلق الجمل الموسيقية الخالدة، يصنعها عشرات المرات ولا يبدو أن بحره ينضب، ستجد هذه الجملة الموسيقية الخالدة في كل الأغاني التي سبق وذكرناها، وستجدها أيضا في أغان منفردة صنعت شهرة مطربين حتى اليوم، مثل “مستنياك” مع عزيزة جلال، و”عاشقة وغلبانة” مع صباح، وبالطبع “حكايتي مع الزمان” مع زوجته وردة الجزائرية.

وإن أردنا دليلا واحدا على عبقرية بليغ في تأليف الجمل الموسيقية الخالدة، فلا نجد في الختام أفضل من تعاونه مع الشيخ “سيد النقشبندي” في أكثر التواشيح شعبية على الإطلاق، الذي حمل عنوان “مولاي”، والذي قيل عن كواليسه أن النقشبندي رفض التعاون مع بليغ في بداية الأمر، لكنه بمجرد تركهما معا لبضع دقائق، استطاع النقشبندي وبفضل لحن بليغ أن يتجلى وينشد عمله الأفضل على الإطلاق.

هذا هو بليغ إذن، برحلته الملهمة وأثره الباقي بالثقافة الموسيقية العربية، مهما طال الزمان.

عن جريدة المصري اليوم