الشاعر الغنائي ذياب كزار (أبو سرحان) .. رائد الأغنية العراقية الحديثة

الشاعر الغنائي ذياب كزار (أبو سرحان) .. رائد الأغنية العراقية الحديثة

قاسم حسن

في صيف العام 1982 غادر بسيارة من المفترض انها تسير بطريق آمن كي تصل بالشاعر الى بر الآمان.. غادر بيروت الغربية المحاصرة متجها الى دمشق مرورا بشرق بيروت التي كان الجزء الاكبر منها محتلا..

والتي لاطريق للخلاص سواه ولضمان حياته كونه يعاني من امراض وكان جسمه النحيل.. لايحتمل اكثر مما هو عليه من منفى وفراق عن بلده وأهله وزوجته وطفله الوحيد (طيف) كان خروجه من العراق مكرها بل هاربا من جحيم آخر كانت كوابيسه تنخر بذاكرته...كل يوم وليلة لا بل كل ساعة...أيامه في بيروت في ذلك الوقت لم تكن نزهة او سياحة بل كانت ساحة معركة لايعرف مصيره فيها... كسائر المبدعين العراقيين من امثاله الذين اختاروا العبور من تلك الساحة الفوضى علهم يقولون كلمتهم من خلالها للعالم أن عراقا انتهك فيه الانسان... ودعناه في وقت هدأت فيه اصوات المدافع وقصف الطيران في هدنة ساعات لاغير لاخلاء الجرحى والشهداء من ساحة المعركة... وهذا اتفاق المتحاربين وليس لشاعرنا فيها لاناقة ولاجمل

اودعناه في سيارة ضمن قافلة من السيارات الخاصة والعامة... حاملا دفترين لاثالث لهما... جواز سفر..وديوان شعر لم يكتمل بعد..

ولد الشاعر ذياب كَزار (أبو سرحان) في مدينة البصرة عام 1946 وفي شبابه إلتزم الخط الوطني حيث كان في مقدمة المناضلين بالدفاع والوقوف الى جانب المظلومين والمضطدين من ابناء شعبه من العمال والفلاحين والناس الكادحين معزرا ذلك بأنتماءه والتزامه بخط الحزب الشيوعي العراقي، إثر ذلك النضال بين الجماهير تم اعتقاله وهو لازال شابا دون الثامنة عشر من عمره، دخل السجن (نكَرة السلمان) عام 1963 وكان أصغر المعتقلين سنا كما ذُكر ذلك في وثائق وسجلات الأمم المتحدة.

أتقن اللغة العربية وقواعدها في السجن بوجود مجموعة من المثقفين والسياسيين المناضلين.. ومنهم الادباء والشعراء أيضا كالمحامي والشاعر الفريد سمعان، والشاعر الكبير والمعروف مظفر النواب، وهاشم الطعان وغيرهم...

وبعد اطلاق سراحه واصل (ابو سرحان) نضاله من خلال كتاباته المستمرة في النشريات

ومن خلال عمله في الصحف والمجلات العراقية وكذلك في الأذاعة والتلفزيون أيضا مع نخبة من الكتاب والشعراء والصحافيين في جريدة طريق الشعب التي تصدر في بغداد في اوائل السبعينات.. الى جانب مجموعة من خيرة الكتاب والصحافيين في ذلك الوقت..أصدر الشاعر ذياب كَزارالذي عُرف بأبي سرحان ديوانه الأول والوحيد (حِلم وٌتراب) في أوائل السبعينيات، ساهم في المجموعة الشعرية المهمة والغنية بمضامينها ومن شارك فيها ديوان (أغاني للوطن والناس) والتي صدرت عام 1974 بمناسبة العيد الأربعين للشيوعي العراقي مع شعراء تلك المرحلة.

يُعد الشاعر من رواد شعراء الأغنية العراقية الحديثة في مرحلة إنتعشت الاغنية العراقية وعرفت برصانتها وجماليتها، ولازال العراقيون يتناولون تلك المرحلة ويطلقون عليها، (أغاني الزمن الجميل) كان عاشقا للوطن، تواقا للحرية والحب والكلمة الشعبية والجميلة المنتقاة من الواقع، وهو الشاعر الذي بقي في قلوب واذهان وضمائر الناس فقد إتخذ لنفسه طريقة جديدة في كتابة الاغنية، ويعتبر ظاهرة جديدة حيث أبتكر أدواته التعبيرية ومفرداته التي أستنبطها من الموروث الشعبي، وكانت أغانيه تعبرعن المعاناة اليومية للريف العراقي بصورة كاملة لطبيعة هذا الريف.

ان الاغاني التي كتب كلماتهاالشاعر(ابو سرحان) لازالت راسخة في اذهان الناس يتذكرها العراقيون يوميا لما فيها من مساس بأحاسيسهم سواء في غربتهم او في وطنهم ومفرداته المميزة.. حيث النخله، وطيبة أهله وبيوت الطين، والجنوب والاهوار والمكَذلات، وكَصايب البنات، وزفة العروس، وحديث الامهات وجلسات عتبات البيوت، وشاي أبو الهيل والشناشيل ودجلة والفرات والنذور وتسيير الشموع في النهر (شموع الخضر) ليلا، والريل والديرة، وشدات الورد،وحمرةالخدود، والليل والكَمره... الخ من تلك المفردات التي تلامس أحاسيس الناس.

مره مرني الطيف نسمة على جنح

وبلل عيوني بدمعتين الصبح

سولف بهيده على روحي الغافية

سوالف عرس

جانت الكذله ذهب

جانت الدنيا كرستال وشمس

كما أشتهرت كلمات أغانيه بالرمزية والوطنية العالية والسياسية الناقدة والتي عرفت في مرحلة السبعينات، العصر الذهبي للاغنية العراقية، تلك الفترة التي أثار فيها غضب النظام البائد.. الذي كان ومن أبشع قراراته بعدم تداول ونشر النص الشعبي والعامي في الصحف والكتابات والاصدارات ومنع تلك الاغاني من الاذاعة والتلفزيون وهي المؤسسة الوحيده و المتنفس الوحيد للعراقيين لسماعها لكن هذه الاغاني بقيت في أذهان الناس وضمارهم والذين تداولوها بطرقهم الخاصة والمبتكرة ويرددونها في كل المناسبات.. أبنادم. الكنطرة بعيدة. وشوك الحمام وغيرها.. كما ان للشاعرمؤلفات في مجال الآوبريت والمسرح الغنائي في العراق بدأه منذ ان كان في البصرة ومنها (بيادر خير، والمطرقة)..

العراقيون يتلمسون ويتحسسون تلك الكلمات التي لازالت تردد على مسامعهم ويستمعون اليها باختيارهم في هذا الزمن الذي تتسع فيه دائرة الاختيار نظرا للتطور الهائل في وسائل الاتصالات والشبكة العنكبوتية وبأصوات مطربين عراقيين كبار لازال العراقيون يكنون لهم كل الاحترام والتقدير لما لهم من فضل كبير على الاغنية العراقية وانتشارها بكلماتها الرصينة وألحانها.. التي تركت بصماتها في اذهان الناس وضمائرهم.. ان هذه الاصوات كالمطرب فاضل عواد وسعدون جابر وفؤاد سالم ومائدة نزهت وسيتا هاكوبيان وحسين نعمة وياس خضر وحميد منصور... وغيرهم من غنوا كلمات الشاعر (ابو سرحان) وغيره تثير عند العراقيين الروح الوطنية والشوق والشجن... والحنين للوطن والحب والأصدقاء..

سيبقى الشاعر (ابو سرحان) ذياب كَزار ابا طيف معلما للحب والعشق والوفاء لوطنه وشعبه..الذي تعلمنا منه الروح الوطنية..والتشبث بالحرية وروح الصمود في مقارعة الأنظمة المستبدة والفاسدة.. من خلال إرثه الابداعي وكلماته التي اصبحت حِكما يتداولها الناس..وستظل صرخاته مدوية تفيض حنينا وعشقا للانسان...