عمانؤيل رسام المخرج النموذج

عمانؤيل رسام المخرج النموذج

د. صالح الصحن

يبدو أن علامة الاسم التي اختُصرت بثلاثة أحرف (ع. ن. ر) كانت ماركة مصممة من قبل عقل راجح، أدت إلى إثارة السؤال عن السبب الحقيقي الذي يختفي به اسمُ صاحبه، مُكتفيًا بهذه الرمزية؟ إنه ارتباط هذه الماركة بالنجاح الباهر الذي شدّ الجمهور اليه أكثر، وهو يتابع أعماله التلفزيونية الناجحة.

عمانوئيل رسام، مخرج عراقي من طراز خاص، ومن الدورة الأولى في كلية الفنون الجميلة ببغداد، تمكن من تحقيق لمسة واضحة في الإخراج الذي يؤمن به كثلاثية قائمة على “النص الجيد والإخراج المتقن والتمثيل البارع”.

لا تخلو حياة هذا الفنان من بعض المتاعب، فقد عاشَ ورحل وهو يعاني من مرض القلب. وزادت معاناته بسب ما تفرزه بيئة العمل من قِيم سلبية، فقد أصيب بنوبة شديدة بسبب حذف الإدارة لأكثر من نصف ساعة من تمثيلية أخرجها، لاعتزازه الشديد بها، وقد تم عرضها ناقصة، من دون أن يعلم، ممّا سبب له صدمة كبيرة أدت إلى جلطة قلبية ظلّ يقلّب صفحاتها كثيرًا، إلى أن رحل - رحمه الله-. كان مخرجنا في شبابه يُكنّى بـ (عمو)، حتى تحولت هذه الكُنية إلى اسمٍ ظلّ محفورا بقلوب من اشتغل معه، ومن عمل معه مِن قُرب. ترك لنا هذا الفنان المخرج إرثا تلفزيونيا، شاخصًا، وخالدًا في ذاكرة الجمهور. ويُتيح لنا الاطّلاع على نشأته وتجربته، أن نطلق عليه (المخرج النموذج) ذلك لأنه يتّسم بجملة من السمات عالية الشأن في التعامل الأخلاقي، وفي المهارات التي يتمتع بها في محترفه الفنيّ، ويشهد له الكثير من العاملين في القطاع الفني، بالخلق الرفيع وحسن التعامل واحترام الآخر مقرونةً بسِمة التوازن، والمبدئية، والجرأة، والموضوعية في العمل. كما غلبت عليه صفة الهدوء، والصبر، يعتمد التخطيط ولا يعتدّ برأيه، بل يميل إلى استشارة الآخرين. وهو الذي يشيع المحبة بما حوله ويصنع الاجواء الصحية المتفائلة المناسبة للعمل بفضل قوة شخصيته وحكمة الإدارة التي يتمتع بها، وهو الذي يمتلك الخيارات البديلة، والحلول لأيّة معضلة طارئة تعترض مجرى العمل. ومع حرصه على إرساء القواعد الفنيّة، والبناء على ما حققه غيره، فإنه ينزع إلى التجديد والابتكار في أعماله. وتشهد لـ (ع. ن. ر) أعماله الخالدة في الذاكرة، منها مسلسل (تحت موس الحلاق)، ذلك المسلسل الذي غلبت عليه روح الكوميديا والبساطة التي عدّت الذائقة نوعًا من البلاغة الشعبيّة في تجسيد الأفعال والحركات والمواقف، بسياق التلقائية وعفوية التعبير، بعيدا عن التصنع والرتوش، فضلا عن خلق شخصيات متميزة بهيأتها وشكلها، وتعبيرها، وأدائها، والبصمة التي تحملها كأيقونة للنوع أو النمط من الشخصيات، مثل شخصية حجي راضي وعبوسي وآخرين في المسلسل. ومن الأعمال التي نالت نجاحًا واعجابًا كبيرًا مسلسل (فتاة في العشرين) الذي أعاد كتابته، تلفزيونيًّا، الكاتب (صباح عطوان) بعد أن كان أُنتِج إذاعيا، والتي اشتغل فيه (عمو) بمهارة إخراجية لافتة باستعماله خمس كاميرات تفنن فيها في تشكيل تكوينات بصرية مميزة وملاحقة حركة الممثل وجعله مستمرًا في أدائه لأطول مدّة ممكنة، وبما حقق متعة بصرية تناولت موضوعًا في الحب والعلاقات العاطفية والاجتماعية الطيبة. ويعد مسلسل (حرب البسوس) علامة إيجابية متميزة تحسب للمخرج ع. ن ر. لجرأته باستقدام عدد من الممثلين العرب للمشاركة في أدوار مهمة، وفاعلة، وكذلك دوره في إكمال مسلسل (حكايات الأيام العصيبة) للكاتب عادل كاظم، بعد وفاة المخرج الراحل إبراهيم عبد الجليل، وقد حافظ في إخراجه هذا العمل على الأبعاد الدرامية المنسجمة مع روحية السيناريو وممكنات السرد الصوري، وبناء الشخصيات، وكذا الحال في مسلسل (الذئب وعيون المدينة)، وهناك عدد من الأعمال التي أخرجها، منها مسلسل (صاحب السعادة)، ومسلسل (فارس بني خيبان)، وتمثيلية (ليطة)، و(عش الهدهد)، و(أبو محجن الثقفي)، و(الصرخة)، و(الستائر الزُّرق)، و(شرف المهنة)، وغيرها.

مما تُكمن الإشارة اليه، في ختام هذه الكلمة، هو أن البيئة الغنية بعوامل النشأة الصحيحة، كانت وراء بناء هذه الشخصية المحورية في تأريخ الفن العراقي. وُلد المخرج عمانوئيل رسام في الموصل لأبٍ مدرّسٍ للغة الإنكليزية، ومخرجِ مسرحٍ طلابيّ، وأم منشدة في كورال كنائسي. من هذه الأجواء المفعمة بالفن والتربية اللائقة، قدم إلى بغداد المزدحمة بالنقائض.

ليتأصّل ابتعادُه عن الابتذال والتلوّن، وحياة المصالح، وهو ما يعبّر عنه قولُه (أنا ما أعرف أسَوّق نفسي).. و(ولن أطلب من أحد اي شيء). شغل الراحل رئاسة قسم الدراما آنذاك، وبعدها كلف بإدارة شركة بابل للإنتاج السينمائي والتلفزيوني، وإدارة شركة عشتار للإنتاج التلفزيوني، ولكنْ تظلّ العلامة الراجحة في تجربة الفنان المخرج عمانوئيل رسام

( ع. ن. ر) هي التحولات الإيجابية التي أحدثتها أعمالُه في ذائقة الجمهور، والبصمة التي لا يمكن محوها في سجلّ تأريخ الفن التلفزيوني العراقي المعاصر.