وفاة الملك فيصل الأول.. رواية جديدة

وفاة الملك فيصل الأول.. رواية جديدة

ناصر الدين النشاشيبي

فــي يوم 3 نيسان من عام 1968 كتبت (فيكي أو فيكتوريا) من مدينة لوزان رسالة باللغة الإنكَليزية، وصلتني، وكانت موضع اهتمامي على طول الوقت

واشكر الله على كل شئ , أشعر انني بصحة جيدة اليوم , كما أن زوجي (أحمد صديق باشا) يشعر بتحسن صحته , غير أنه لايقوي على السفر إلى الحبيبة مصر إو إلى أي مكانٍ آخر , ويفضل البقاء في لوزان , إنها الجنة فعلا ً.

نحن ننتظرك الليلة ’ لمواصلة الحديث عن الماضي الذي لازال عالقا في ذهني ولازلت نادمـةُ عليه.

لقد زارنا أمس جارنا , إنه يشبهك وهو كثير القراءة والإطلاع , كما أن عزيزنا (تحسين قدري) قد إتصل هاتفيا ُ ويخطط لزيارة لندن. ماذا تنوي عمله وما هو رأيك به؟

إنه يحمل الكثير والمهم من القصص والأسرار ماتنفعك للكتابة سواء للصحافة أو للتأريخ. إنها وثائق تكاد تكون خاصة.

إن شخصية تحسين قدري تنطوي على نقاء طفولي , وهو لازال بالرغم مما جرى مبتهج وممتع في نفس الوقت. ولديه حقائق وأسرار تتعلق بالعائلة المالكة والامراء في العراق وبالتحديد ما يتعلق بالملك المغدور , أرجوك تعال حالاً لنكمل القصة.

أخيرا ً نحن بالإنتظار ,, لقد إفتقدناك ,, محبتنا

((كما ذيلت الرسالة بالكتابة باللهجة المصرية وبخط ٍكمن إبتدء توا ً في تعلم اللغة العربية ــ وحشتنا أوي.. أوي... وختمت الرسالة بكتابة إسمها بالعربية أيضا ً.. فيكي)) والتي إبتدأت حكايتها في هذا الفصل الأخير والذي يروي اللحظات الأخيرة لملك العراق الأول.

دخلت على جناح الملك فوجدته منزعجاً من شدة الحٌر وينوي الخروج للمشي في حديقة الفندق. ودعاني للخروج معه , وكنا وحدنا بلا حرس ولا عسكر وراح الملك يشكولي من تعب الايام الاخيرة التي قضاها في بغداد بسبب حركة الآشوريين ثم شكى مــــــن حملات الصحف الانجليزية عليه لحساب تلك الحركة كان يتحدث لي بصدق وبساطة وبدون أُبهة ولا عظمة كان في ذلك اليوم لا يرتدي الجاكيت ولا السدارة وكأنه في مظهره الرياضي يشبه لاعبا ًانجليزياً يمارس لعبة التنس او لعبة الكريكت ولكن الملك في حقيقته لــم يكن يحب ان يشبهه احداً بالانجليز ولا باهل الرياضة منهم , كــــان يكرههم جميعا وكانت ابغض الاسماء الى قلبه هي أسماء السير(هنري دوبس) والسير (غلبرت كلايتون) والسير(فرنسيس همفريس) وثلاثتهم عملوا في وظيفة المندوب السامي البريطاني على العراق طيلة أيام (الملك فيصل) وسألني الملك: هل جاءت اخبار من زوجته الملكة (حزيمة) ومن ابنه غازي؟ وكان يبدو مهموماً ثم قال لي:انه مدعو بعد يومين لتناول الغداء مع عائلة هندية معروفة اسمها (زوجة راجا) ومن صديقات الملك المقربات وسيكون الغداء في موقع مجاور عند رأس جبل من الجبال المحيطة بالعاصمة السويسرية ثم روى لي ان رئيس تشريفاته (تحسين قدري) قد ذهب الــى فندق (بوريفاج)فــي مدينة (لوزان)وبعد ان طال به السهر واستبد به الهوى نام في غرفة الحمام بعد ان ترك حنفية المياه تصب الماء على ارض الحمام ثم تسقط منه الى الأدوار السفلى من بناية الفندق مما ازعج النزلاء ودفع بعضهم الى ترك الفندق والانتقال الى فنادق اخرى ثم سالني الملك وهو ينظر الى ساعته المعلقة في جيبه الصغير فوق قميصه الصيفي الملون: (هل حان موعد اخذ الحقنة). قالت فيكي: ورجعنا الـــــــــى جناح الملك وأعطيتهُ الحقنة الطبية لعلاج الشرايين وعندما عدت الى غرفتي لكي استريح وجدت السفير البريطاني بانتظاري وعلى فمه السؤال العادي (كيف حال جلالة الملك؟) ثم راح يمطرني بعشرات مـــن الاسئلة الدقيقة وكلها تدور حول الحالة الطبية للملك وعدد الحقن وعدد الحبوب المنومة ومقياس الضغط وسرعة النبض ,,,والى اخره.... ثم نهض السفير من مقعده وفتح خزانة الادوية وفتح علبه الحقن والقى عليها نظرة دقيقة ثم عاد واغلقها وتركها في مكانها وهو يقول لي وخطواته تسبقه صوب الباب الخارجي سأراك في المساء لكي اتلقى بقية اخبارالملك. ترى ما معنى هذا الاهتمام المريب بصحة الملك؟ ومــــا هذه الاسئلة السرية المحرجة حول شخص الملك؟ ولماذا السفير البريطاني بالذات؟ ولماذا انا بالذات؟ وهل هناك مؤامرة؟ وهل هناك خطر؟ قالت فيكي ألف سؤال وسؤال هزني وهدٌَ قلبي وحطمَ أعصابي كنت انقل كل شئ الى رستم فلا اجد عنده ما يبرر شكوكي , كنت أحب رستم واعرف انه يحبني وانه لايخفي عني شيئا قد ادفع ثمنه فيما بعد من عمري وحياتي. ومضى اليوم الواحد وجاء الغد واستمرت (فيكي) في أداء عملها وهي تغرس الحقنة في عِرق الملك لكي تعالجه مــــــــن مرض الشرايين وتحميه من ضربه القدر حقنة بعد حقنة وقرصُُ بعد قرص وعلاج ًُبعد علاج ,, وبعد ثلاثة ايام ذهب الجميع الـــى الجبل المجاور تلبية لد عوة النداء من (زوجة الراجا) التي كانت قد التقت الملك خلال زيارته الأخيرة للعاصمة البريطانية (لندن) ودعتهُ لتناول الغداء في الشاليه الخاص المعلق بين الارض والسماء فوق ذلك الجبل العالي من جبال الالب المحيطة بالعاصمة السويسرية وكان الملك في ذلك اليوم بكامل نشاطه وموفور صحته وكان يضحك ويركض ويشرب ويأكل وكأنه شابُُ في العشرين من عمره ولكنه عندما عاد بعد الظهر الى جناحه الخاص في الفندق بدا يشعر بضيق في الصدر وتعب في الجسم وجاءت فيكي وأعطته الحقن اللازمة ولكنها وقبل ان تخلع ثيابها لكي تستريح قبل حلول موعد العشاء سمعت صوت (تحسين قدري) يناديها من وراء الباب كي تأتي بحقنة الإنعاش وتعطيها فورا للملك ودخلت فيكي علـــــــــى الملك فوجدتة مستلقيا فوق سريره وقد ارتسمت خطوط زرقاء فوق وجهه ورفعت فيكي سماعة التلفون وطلبت الطبيب الخاص وتظاهرت بانها نسيت شيئا في غرفتها وعليها ان تاتي به واتصلت بالسفير البريطاني لكي تدعوه للمجيئ ولكن السفير على ضوء حساباته وتوقعاته كان جالسا في بهو الفندق بانتظار المفاجات وجاء الطبيب واعطيت الاسعافات اللازمة ولكن الموت كان اقوى من كل شئ اذ اغمض الملك عينيه وفارق الحياة بعد ساعة واحدة وكان موجودا حول سرير الملك عند وفاته (رستم حيدر) و (تحسين قدري)والممرضة (فيكي) و(السفير البريطاني) قالت لي (فيكي حكيم)او الممرضة التي شهدت وفاة الملك فيصل بن الحسين وهي تعلق على الخبر: لا ادري لماذا احسست في تلك اللحظة برغبة ملحة تدفعني لكي الطم وجه السفير البريطاني بيدي او أبصق عليه او اشتمهُ او أفعل اي شئ اطفئ به حقدي وشكي وقلقي وهواجسي ,,, وكان ذلك في يوم الثامن من شهر (سبتمبر) عام 1933. فنقل الجثمان الى (برنديزي) ومنها على الطراد البريطاني , أجل البريطاني المسمى (دسبتش) الى حيفا بفلسطين ومنها بالطائرة الى بغداد..... وعادت فيكي الــى أهلها في مصر حيث تعرفت هناك علــى شخصية سياسية معروفة هـــو(احمد صديق باشا) محافظ الاسكندرية وتزوجته وصدر الامر بنقل الباشا من الادارة الى السلك السياسي حيث اصبح سفيرا لمصر في اليابان وفي اللحظة التي وصل فيها الباشا الى (سنغافورة) في طريقه الى طوكيو اعلنت الحرب العالمية الثانية فعاد الباشا فورا الى مصر واصبح يشغل منصب الحارس على أملاك الأعداء من ألمان وطليان في الدولة المصرية واعتنقت (فيكي) دين الاسلام وقامت ثورة 23 يوليو فقرر(صديق باشا)ان يهاجر الى سويسرا وأن يقيم مع زوجته (فيكي)في مدينة لوزان..

والتقيتُ بها في لوزان , صوتها رفيع ولهجتها مصرية بنت بلد , وتصوم رمضان وتحب الباشا زوجها وتحب الحياة وتروي الذكريات , وعندما سألتها عن أسماء الأشخاص الذين يحملون سرٌ وفاة الملك (فيصل بن الحسين) في صدورهم, قالت على الفور:كان(رستم حيدر) يعرف سرٌ القصة , ولكن الذين يعرفون عنه ذلك قد قرروا التٌخلص منه عندما أرسلوا إليه مفوض شرطة مفصول من عمله وأطلق عليه الرصاص فقتله فــي مكتبه بوزارة المالية ببغداد في منتصف شهر يناير من عام 1940!!

سألتها: وماذا جرى للسفير البريطاني.. إياه؟

قالت: لقد قضت عليه الحرب...!

قلت: وماذا عن (تحسين قدري)؟

قالت: هذا الموضوع هو آخر همومه...

قلت وأنا أرفع يدها الصغيرة البيضاء وألثمها مودعا ً وشاكراً وحزينا ً,,,,

وهكذا لم يبق منهم إلا (فيكي) , وأنا أرجو لك الصحة والعمر الطويل , بكت وهي تجيبني قائلة بصوت خنقتهُ الدموع: أنا سألحق بهم قريباً.. سألحق (بفيصل), و(رستم حيدر) وبقية الأحباب , ثم إفتعلت ضحكة قصيرة قالت لي من خلالها: من يدري؟ قد نكمل في (الآخرة) القصة التي بدأناها في هذه الدنيا ولم يسمح لنا السفير الأنجليزي في “ بيرن “ أن نكملها فــي سويسرا , ولــم أر “ فيكي “ بعدها.

عن كتاب (الحبر اسود اسود)