«التطور الخلاق” لبرغسون: العقل العاجز عن إدراك طبيعة الحياة

«التطور الخلاق” لبرغسون: العقل العاجز عن إدراك طبيعة الحياة

إبراهيم العريس

“ إن تاريخ تطوّر الحياة، وإن كان لا يزال ناقصاً، يبيّن لنا كيف تكوّن العقل بتطوره المستمر على طريق صاعد يمرّ بسلسلة الحيوانات الفقرية حتى يصل إلى الإنسان. وهو يبيّن لنا أيضاً أن ملكة الفكر تابعة لملكة العمل، وأن التكيّف بين شعور الكائنات الحية وشروط الوجود المهيّأة لها إنما هو تكيّف متزايد الدقة والتعقيد والمرونة.

ومن هنا يجب استخراج النتيجة التي تقول إن عقلنا بالمعنى الضيّق لهذه الكلمة، قد أُعدّ لضمان اندماج جسمنا في بيئته اندماجاً تاماً، ولتصوّر العلاقات القائمة بين الأشياء الخارجية ومن ثمّ للتفكير في المادة...”. الحقيقة أن من يقرأ هذه العبارات التي يلج هنري برغسون من خلالها إلى مدخل كتابه الأساسي “التطوّر الخلاق” قد يخيّل إليه أنه أمام فيلسوف يحاول الاستناد إلى النظرية الداروينية مطعّمة بكانطية جديدة للبحث عن تفسير لمعنى الوجود وعلاقة الفرد البشري به.

لكن الأمور ليست في الحقيقة على هذا النحو. فبرغسون في النهاية براء من داروين واشتغل على الدوام ضدّه. وهو لئن كان كانطياً في جانب من فكره، فإن كانطيته كانت متأثرة أكثر بظواهيرية هاسرل. أو هذا على الأقل ما يمكننا تلمّسه من خلال الصعوبات اللغوية والمفهومية التي تسم “التطوّر الخلاق».

العقل والدماغ

ولعل الفكرة الأساس التي شاء برغسون التعبير عنها في هذا الكتاب، وعلى الأقل بحسب تحليل عبد الرحمن البدوي، تمثل في أن «النشاط العقلي يتجاوز النشاط الدماغي وليس ناتجاً منه بل يحدّ منه. وبرغسون، كما يرى بدوي، يدرس معنى الحياة ضمن إطار نظرية التطوّر ولكن «كما سيحدد هو وليس استناداً لا إلى سنبسر – الذي كان يناصره – ولا إلى داروين – الذي كان مختلفاً معه –». ويبيّن برغسون في «التطور الخلاق» أن العقل البشري «غير قادر على إدراك الطبيعة الحقيقية للحياة والمعنى العميق لحركة التطوّر بما أنه ليس سوى جزء منبثق من الحياة خلقته الحياة في ظروف معينة ليعمل في ظروف معينة». ويؤكد برغسون في هذا السياق أن «كل مقولاتنا العقلية لا تنطبق على الحياة: من وحدة وكثرة، وغائية ذكية» ومن هنا يكون من العبث أن نحاول «إدخال ما هو حيّ في هذا الإطار أو ذاك، فكل الإطارات تنكسر لأنها ضيقة جداً، ولكن قاسية جداً بالنسبة إلى ما نريد إدخاله فيها.

والحقيقة أن مئات الصفحات التي يتألف منها هذا الكتاب الذي وضعه برغسون في العام 1907، إنما تدور حول هذه الأطروحة بالتحديد عبر فصول أربعة تحمل العناوين المفهومية التالية تباعاً: في تطوير الحياة الآلية والغائية – الاتجاهات المتباينة لتطوّر الحياة – معنى الحياة: نظام الطبيعة وصورة العقل – وأخيراً آلية الفكر السينمائية والوهم الميكانيكي الذي يمكن اعتباره بحسب العنوان الفرعي للفصل، نظرة إلى تاريخ المذاهب الفلسفية، الصيرورة الحقيقية ومذهب التطوّر الباطل. وقد يكون من المفيد أن نذكر هنا أن هذا الفصل الأخير هو الذي شكّل قبل سنوات منطلق الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز لوضع كتابه الأشهر حول السينما، “الصورة/ الحركة».

كان كل ما في برغسون، وما ينبثق من فكره يسير عكس التيار، وينضح بالتمرد على كل ما هو قائم كمعطى قَبْلي، وهو غالى في ذلك إلى درجة أنه لم يجد، ولا وجد غيره، أيّ غضاضة في أن يكون أول أهم تكريم عالمي له، يقوم في منحه جائزة نوبل للأدب، مع أن اختصاصه ومجال عمله كان الفلسفة لا الأدب، وأنه لم يخض في الميدان الأدبي إلا بشكل عارض وعلى هامش حياته الفلسفية. ومن هنا كان من اللافت أن يرضى بأن تحكم عليه أكاديمية نوبل بأنه أديب متجاهلة كونه فيلسوفاً، أو لعلها اعتبرته - كما كان حال ابي حيان التوحيدي عندنا - أديب الفلاسفة وفيلسوف الادباء..

لقد كان من سوء حظ هنري برغسون أنه رحل عن عالمنا عند بدايات عام 1941، وفرنسا - وطنه - مشغولة بذلّ هزيمتها التي طاولتها على يد النازيين الألمان، فلم يكن الالتفات إلى موته كبيراً، أو في حجم نفوذه وتأثيره الفلسفيين على معاصريه. بل ربما لم يتنبه كثر يومها إلى أن ذلك العجوز الهادئ الذي مات عن أكثر من ثمانين عاماً كان يعتبر، بالنسبة إلى الكثيرين، أكبر فيلسوف عرفته فرنسا خلال الفترة الانعطافية بين القرنين التاسع عشر والعشرين. ولعله لن يكون من المغالاة أن نقول إنه كان قبل سارتر بزمن، الفيلسوف الذي تُقرأ أعماله كقطع أدبية صرفة. نقول هذا وفي ذهننا كتاباه الأساسيان “الضحك” و”التطور الخلاق” الذي اشتهر شهرة كبيرة وقرئ على نطاق واسع وترجم إلى العديد من اللغات على الرغم من حظره من قبل الكنيسة الكاثوليكية، ثم بخاصة “منبعا الدين والأخلاق».

عكس التيار

غير أن برغسون الذي ولد عام 1859 في باريس، لم يكن “على عكس التيار” لمجرد أنه كتب كتباً حُظّرت، أو لأن كتبه الفلسفية اتسمت بطابع أدبي، بل كذلك - وبخاصة - لأنه انفرد في ذلك العصر الذي عرف بعصر العقلانية والعلمانية الطاغيتين، بعودة فلسفية إلى الميتافيزيقا، معتبراً عودته سلاحاً في معركته ضد “النزعة الثقافوية الشكلية”، وبخاصة منها الجانب الذي كان يعلن وراثته لكانط وللكانطية الجديدة، في الوقت الذي خاض معركة طاحنة ضد “الوضعية العلمية” وضد “النزعة المادية”. وهو في سبيل ذلك عرف كيف يصيغ أفكاره عبر نقده التحليلي للمناهج والاستنتاجات العلمية التي كانت لها السيطرة الفكرية في زمنه كما في الأزمان السابقة عليه، مستنداً في ذلك كله إلى علمه الواسع في مجالات البيولوجيا وعلم النفس، كما إلى اهتمامه بإبعاد التجربة الحسية المباشرة وقدرته على تنظيم فكر يدور من حول موضوعة الديمومة الزمنية وتتابع حالات الوعي في ارتباط بالزمان وانفصال عن المكان. وهو في هذا الميدان الأخير عرف بالتأثير الذي مارسه على عدد من أبرز كتاب زمانه ومنهم مارسيل بروست وشارل بيغي، حيث لا يندر بين النقاد من يقول دائماً إن “البحث عن الزمن المفقود”، رواية بروست الأساسية، ليست في نهاية الأمر سوى تطبيق أدبي لنظرية برغسون حول مفهوم الزمن..

غير أن هذا لا ينبغي أن يدفعنا إلى اعتبار برغسون مجرد فيلسوف منعزل في برجه العاجي متأمل على الشاكلة التي قد ترسمه بها آراء أولئك الذين مثل صمويل ألكسندر، اعتبروه “أول فيلسوف، منذ هيراقليطس، حمل الزمن على محمل الجد”، بل أنه كان ابناً لعصره، وأتاحت له الوظائف التعليمية التي شغلها أن يحتك مباشرة بالأحداث والأجيال الجديدة، كما أتاحت له زياراته المتكررة إلى الولايات المتحدة أن يوثق علاقاته مع فلاسفتها، ثم بخاصة مع رئيسها ويلسون حيث تذكر بعض المصادر أن شروحات برغسون أمام هذا الأخير لصورة الوضع الأوروبي خلال الحرب العالمية الأولى، ساهمت في اتخاذ ويلسون قراره بدخول بلاده الحرب.

وفي خضم ذلك كله كان برغسون لا يكف عن الكتابة وعن الاقتراب من الميتافيزيقا إلى حد أن مؤرخي الفلسفة روزنتال ويودين وصفا فلسفته بأنها “تعبير حي عن اللاعقلانية”، وهو ما تؤكده بعض كتبه - الأخيرة بخاصة - ومنها ذاك “منبعا الدين والأخلاق”، الذي صالحه مع الفكر الكنسي، وجعله - وهو اليهودي الأصل - يعلن انتماءه الإرادي إلى المسيحية “مهتدياً إلى إيمان البسطاء، إلى إيمان الواعي لا إلى إيمان الفيلسوف»

عن صحيفة الاندبندنت