الحروفية العربية وموقع مديحة عمر

الحروفية العربية وموقع مديحة عمر

نور زاهي

يُعتبر الخط العربي أحد أبرز مظاهر العبقريّة الفنيّة عند العرب، فهو الوسيلة التي حفظ بها العرب تراثهم العريق، وبه كُتِب القرآن الكريم، والحديث الشريف، والحكم والمواعظ، والأشعار. فتفنّن العرب بابتكار الصفات والألقاب للخط العربي، حيث وصفه الخطّاط ياقوت المستعصمي بأنّه هندسة روحانيّة تمّت بآلة جسديّة. واعتبره البعض تذكارًا لرفاهيّة روحيّة عميقة نابعة من نفس صافية تواجه العصر المضطرب والشائك في كثير من جوانبه.

إنَّ فن الخط هو فن خصوصي، وإبداع متفرّد للعرب فهم لم يأخذوه عن غيرهم، بل وضعوه بأنفسهم، وصاغوا قواعده، وبلوروا طرزه الفنيّة. ونشأ الخط، أساسًا، كفن في البلاط واستجاب إلى حاجات الدولة (الدواوين، نسخ القرآن، نسخ المؤلفات…) قبل مكابدات ومجاهدات المتصوّفة. فأضحى فنًّا مقدَّسًا، رسميًّا، تمازج فيه الدين بالدولة، والروحاني بالزمني، والفنيّ بالحرفي.

تعدّدت الخطوط ومن أشهرها الكوفي، والثلث، والنسخ، والفارسي، والديواني، والرقعة.

الحروفيّة

يمكننا تعريف الحروفيّة بأنّها استلهام الحرف العربي في الفن الحديث أو في اللوحة التشكيليّة فهي تُشير إلى أعمال فنيّة تعاملت مع اللغة العربيّة، كحروف أو كنصوص، مثل “معطى” (أو مادة) بصري للتشكيل. هي ظاهرة عربيّة (وإيرانيّة)، أطلقها غير فنان عربيّ (وإيرانيّ) متأثّرا بتجربة بول كلي وأقرانه من “الحروفيين الغربيين” طلبًا لعمل فني ذي مراجع “محليّة” وهويّة “حضاريّة” . بدأت هذه الحركة أواخر الأربعينات وغمرت الشرق الأوسط بأكمله منذ السبعينات. أمّا سبب ظهورها فيعود بشكل أساسي إلى نكبة فلسطين عام 1948 والهزائم العربيّة التي أنتجت ردّات فعل من قبل الفنانين الذين يبحثون عن الأصالة في الفن ومزج التراث بالحداثة.

تعرّف الباحثة سيلفيا نايف الحروفيّة بأنّها محاولة لخلق حداثة تغرق في المحلّي ولكنّها تندمج في نهاية المطاف بالتيارات الثقافيّة العالميّة في تلك الحقبة.

يصف شربل داغر، في كتابه الحروفيّة العربيّة: فن وهويّة، الحروفيّة بأنّها ردّة فعل على الفن الغربي المتمثّل بلوحات الطبيعة الصامتة وصور التماثيل الإغريقيّة. فقد لجأ الحروفي إلى استلهام الحرف العربي وسيلةً للعودة إلى الأصل والتراث. وهكذا تكوّنت الحروفيّة ضمن حركة عامّة، لم تعد تكتفي بمحاكاة الفن الجديد الذي تعلمته ولا بالنزعة الاقتدائية بالتجربة الغربيّة، بل باتت “تحوّر” هذا الفن، واجدةً له “منابت محليّة”. إنّها “تبيئة” الفن الغربي في البلاد العربيّة، والسعي لانتاج لوحة “خصوصيّة”.

والحروفيّون، جماعة مرتبطة بتقاليد الخط العربيّ العريقة، وفي التأويل الشعبيّ والصوفيّ الذي يتحدث عن تأثير الحرف في مصائر الناس وعواطفهم وأحاسيسهم وعقولهم، لما يحمل من أبعاد إيحائية بصريّة ومضمونيّة كبيرة.

الرائد الأوّل:

يميل داغر إلى الاعتقاد بأنّ الفنانة العراقيّة مديحة عمر هي الرائدة الأولى في مجال الحروفيّة . فقد عمدت منذ سنة 1944 إلى البحث الحروفي وقد فصّلت ذلك في بيانها الفني تحت عنوان الخط العربيّ عنصر استلهام في الفن التجريدي. اطّلعت في لندن وباريس على الاتجاهات الفنيّة الحديثة وشاهدت المعارض والمتاحف. درست مديحة عمر الفن في أميركا، وشاركت في المعارض التي تُقام هناك حتّى إنّها أقامت معرضًا فرديًّا لنتاجها التجديدي في الحروف العربيّة في مكتبة بيبودي George Peabody Library في جورج تاون بواشنطن.

جماعة “البعد الواحد”:

تعتبر هذه الجماعة تتويجًا لظاهرة الحروفيّة العربيّة حيث تقدّم مجموعة من الحروفيين العراقيين بتجاربهم الفنيّة الخاصة. رغم أنّ الجماعة عراقيّة، إلّا أنَّ تأثيراتها الفنيّة ستمتد إلى خارج العراق خاصةً وأنَّ فنانيها قد صاحبوا أعمالهم ببيانات وكتابات نظرية وفنيّة عمّقت البحث الحروفي. هذه الجماعة هي في الأساس معرض فني ووثائقي جرى في بغداد في 1971، بعد أن ظهرت الفكرة، لأول مرة، في 1969؛ وهي فكرة تنظيم معرض عن تـأثير الحرف في الفن التشكيلي. ساهم في إنضاج هذا المشروع: جميل حمودي، ضياء العزاوي، رافع الناصري، عبد الرحمن الكيلاني محمد غني، وشاكر حسن آل سعيد الذي قام أيضًا باعداد كتاب خاص بهذه المناسبة.

المقصود بـ”البعد الواحد” هو اتّخاذ الحرف الكتابي نقطة انطلاق للوصول إلى معنى الخط كقيمة شكلية حرف. والرجوع إلى بُعد للخط كانتماء إسلاميّ عروبي مناقض للبعد الثلاثي في اللوحة الغربيّة. شكّلت هذه الجماعة، أول مدرسة حديثة، اهتمت بإدخال الحرف العربيّ في عالم الفن التشكيلي المعاصر ووتطويعه فأبدعت مجموعة من الأعمال الفنيّة عربيّة السمة، إسلاميّة اليد واللسان، شرقيّة الهوى والنكهة

نماذج حروفيّة:

للحروفيّة العربيّة ميدان تشكيلي يقوم على مبدأين أساسين:

القطيعة التّامة مع طرز(نمط) الخط العربي، والتعامل مع الحروف العربيّة كمادة للتشكيل.

بناء لوحة حديثة، ولكن بصيغة محوَّرة، مطوَّعة للتعبير عن خصوصية ثقافيّة أو حضاريّة.والحروفيّة تتوزّع على أكثر من فئة

اللوحة – الحرف:

يدرس الفنان القابليات التشكيليّة في الحرف الواحد لغايات زخرفيّة، تصميميّة أو تحليليّة. فالحرف هو مادة العمل، هو نقطة الانطلاق ونقطة الوصول، النواة والبنية.

أجمع علماء اللغة والحروفيون على أن العلامة اللغوية مبنى – معنى. فانقطع الحروفي عن الخط كطراز في الكتابة، لا عن معنى العبارة، وعن العبارة الدينيّة السامية لا عن العبارة المعبّرة. فعاد الحروفيون إلى النصوص الأدبية العربيّة، القديمة أو الحديثة، كموضوعات ومجالات عمل لنتاجاتهم الفنيّة.

من الفنانين من يتصل باللغة العربية لجهة شكلها الكتابي وايقاعها الغرافيكي فوق المساحة التصويريّة. فينتج أعمالًا فنيّة من الأشكال الكتابيّة، ولكن دون أن تؤدي أي معنى، إنّها أعمال كتابات غير مقروءة أبدًا، مرئية وحسب، تصبح الريشة فيها بمثابة القلم، وفق حركة في الكتابة – التلوين، نظاميّة وحرّة في آنٍ معًا.

اللوحة – النص:

تقوم على استعمال الحرف الكتابي بوصفه مادة للتشكيل، ولكن بين جملة مواد أخرى؛ وتنطلق من صيغته الغرافيكية، ولكن دون أن تتقيّد بها، فتحوّرها تمامًا أو تجرّدها. تستدعي اللوحة مفردات مستعملة، وتعطيها معاني سياقيّة جديدة لها. فالحروفي هنا يستمد من الكتابة الشكل التصويري والبناء التشكيلي لصورة الحرف والكلمة.

بين الخطاط والحروفيّ:

يعتقد الفنان التشكيليّ الحروفيّ أنّه قد جمع في منجزه البصري طرفي المعادلة: التراث والمعاصرة. فلقد استلهم الخط في لوحة تحاكي الزمن الحاضر. أمّا الخطاط العربي الحديث فينفي ارتباط عمل الحروفيّ بالخط العربيّ لأنه لم يتّبع فيه القواعد المعروفة لهذا الخط، إنّما استفاد بشكل من الأشكال من الجماليات التشكيليّة للخط العربيّ، ووظّفها في منجزه البصري الحروفيّ. ويرى الخطاط أنّ ما يقوم به الحروفيّ هو زخرفات خارجة عن نظم وأصول وموازين الخط العربيّ، تغيّر شكل الحرف العربيّ ما يُفقده معناه وذاته وبنيته الشكليّة الصحيحة برأيه، هو تدخّلٌ مشينٌ بتخصّص الخطّاط وتقليدٌ لا تطوّرٌ للخط العربيّ، خاصة بوجود مقاييس ومعايير ونظم تحدد شكل وحجم الحرف، لا أحد يستطيع تجاوزها، وإلّا فقد الخط صفته. في المقابل ينظر الفنان الحروفيّ إلى الخطّاط على أنّه نسّاخ يُكرّر ما أنجزه الأقدمون، دون ابتكار أو إضافة، ما يجعله أقرب إلى الحرفيّ منه إلى الفنان.

من بحث قُدِم الى الجامعة اللبنانيّة – الفرع الأول الأونيسكو