مديحة عمر الرسامة التي كانت لغزا جماليا

مديحة عمر الرسامة التي كانت لغزا جماليا

فاروق يوسف

إذا صح خبر وفاة الرسامة العراقية مديحة عمر عام 2006 فإن تلك المرأة الرائدة تكون قد عاشت 98 عاما، ولكن لا أحد بإمكانه أن يؤكد خبر وفاتها. لا لأن ذلك الخبر لم ينشر في حينه، بل لأن تلك السنة كانت سنة موت عراقي شامل. فمَن يلتفت إلى موت امرأة مسنّة وسط أهوال القتل الطائفي. كانت هنالك حرب، وكان شاكر حسن آل سعيد، وهو شيخ الحروفية، الرسام الوحيد الذي أتوقع أن خبر موت مديحة يمكن أن يهزّه قد رحل إلى العالم الآخر قبل سنتين.

المرأة التي لم يُعرف عنها الكثير كانت واحدة من أهم رائدات الفن التشكيلي الحديث في العراق بل إن ظهورها الفني في أربعينات القرن الماضي كان قد شكل منعطفا مهما في مسيرة ذلك الفن التاريخية. وقد لا يكون مستغربا أن عمر التي لم تعش في العراق إلا الجزء الأقل من حياتها لم تقم إلا معرضين شخصيين في بغداد.

هل كانت زاهدة في عرض أعمالها؟ سيكون من الصعب تتبع مراحل سيرتها الشخصية ذلك لأنها عاشت جل حياتها في العاصمة الأميركية واشنطن، غير أن فنها وبسبب معرضيها يبقى شاهدا على أثر مرورها بالثقافة العراقية. وهو مرور تأخر كثيرا.

كانت سمعتها باعتبارها مرجعا تاريخيا قد سبقت لوحاتها إلى بغداد، لذلك قد لا يجرؤ المرء على الحديث عن تأثير ما مارسته تلك الفنانة من خلال تجربتها على الفن الحديث في العراق، غير أن ريادتها في مجال الكشف عن جماليات الحرف العربي في اللوحة كانت دائما موضع تقدير واهتمام.

لغز الفنانة

ولدت مديحة حسن تحسين، وصار اسمها بعد زواجها من الدبلوماسي ياسين عمر مديحة عمر، في العام 1908. وتخرجت عام 1933 من دار المعلمات البريطانية في بيروت. بعدها عادت إلى بغداد لتمارس دورا رياديا في الدفاع عن حق المرأة في المساواة.

غير أن شغفها بالفن دفعها إلى مواصلة دراسته في إسطنبول ومن ثمة في لندن وفي عام 1945 بدأت بدراسة النقد في جامعة جورج واشنطن الأميركية. عام 1949 أقامت معرضها الشخصي الأول في واشنطن. وهو المعرض الذي لم يُسمع بخبر إقامته الفنانون العراقيون إلا بعد عقود. ولكن استعادة ذكرى ذلك المعرض صارت جزءا مهما من الذاكرة التشكيلية العراقية. فهو يشير إلى المرة الأولى التي استعمل فيها الحرف العربي لغايات جمالية خارج فن الخط العربي الذي لا يستند عادة على الحرف بل على الجمل التي تشكل نصا متكاملا. ولو لم تعرض الفنانة لوحاتها في معرض استعادي شامل أقيم لها عام 1981 في بغداد لبقيت تجربتها أشبه باللغز المحير.

سمعتها باعتبارها مرجعا تاريخيا تسبق لوحاتها إلى بغداد، لذلك قد لا يصح الحديث عن تأثير ما مارسته تلك الفنانة من خلال تجربتها على الفن الحديث في العراق، غير أن ريادتها في مجال الكشف عن جماليات الحرف العربي في اللوحة كانت دائما موضع تقدير واهتمام.

لم تكن ريادتها في مجال جماليات الحرف العربي موضع شك، غير أن تلك الريادة لم تكن تتعارض مع ريادة فنان عراقي آخر هو جميل حمودي في المجال نفسه. ومن المؤكد أن حمودي كان قد سبق الفنانة عمر بسنوات، لا لأنه تعرّف على تجربة الفنان الفرنسي أندريه ماسون قبلها، وهو ما جرى فعلا، بل لأنه كان أكثر جراءة منها في الذهاب إلى التجريد من خلال الحرف العربي. كانت عمر قد أخذت الكثير من ماسون وكانت بعكس حمودي سريالية مثل ماسون.

غير أن ذلك التنافس على الريادة الذي لم تقل الفنانة رأيها فيه لن يكون أساسيا في ما بعد، حين استطاع شاكر حسن آل سعيد في تجربة “البعد الواحد” أن يسرق الأضواء من الاثنين فصار نجم الحروفية العربية من غير منازع.

حين ابتكرت مديحة عمر أسلوبها الفني في استحضار الحرف العربي جماليا لم تكن تفكر في أن تنافس أحدا على الريادة. كانت تفعل ما تراه صحيحا في مكان بعيد. فحين أقامت معرضها الأول لم تصل أخباره إلى بغداد إلا بعد عقدين من الزمن.

لم يكن جميل حمودي وقتها قد صاغ نظرية، يكون الحرف العربي مجالها الحيوي. كانت تجربة عمر تتمحور حول اكتشاف صلة بين الحروف باعتبارها كيانات تجريدية وبين الكائنات الحية. فالياء مثلا تشبه الأفعى واللام تشبه السلّم والميم تشبه المفتاح إلى ما لا نهاية تلك المحاولات المجازية التي كانت الفنانة من خلالها تضع خبرة العيش لدى الكائنات في خدمة مفردات لا تكشف عن قيمتها إلا من خلال اللغة، التي هي كون تجريدي.

الحروف والمعاني

فهل كانت الفنانة تسعى إلى أن تعتق الحروف من صمتها الشكلي؟ لم يُكتب عن رسومها الكثير، غير أن ذلك القليل كان يصرّ على الإشارة إلى مناخها التجريدي. وهو خطأ أوقع الكثيرين في سوء فهم.

فالمرأة التي أُسرت منذ طفولتها بالخطوط العربية المتشابكة على أبواب المساجد والمحيطة بالقباب والمآذن وسحرت بها كانت مهتمة بشكل أساس بالمعاني. لا معاني الحرف لذاته، بل معاني وقوعه على سطح اللوحة. وهي المعاني التي تخلق واقعا تصويريا حلميا، تتخلى فيه مفرداته عن وظائفها في الواقع المجاور.

التنافس على الريادة الذي لم تقل الفنانة رأيها فيه لن يكون أساسيا في ما بعد، حين استطاع شاكر حسن آل سعيد في تجربة “البعد الواحد” أن يسرق الأضواء منها ومن غيرها فصار نجم الحروفية العربية من غير منازع.

كانت مديحة عمر تنتزع الحرف من وظيفته اللغوية لتضعه في خدمة وظيفة جمالية، هي أقرب إلى اللهو العابث منه إلى التسليم بحقائق الوجود. كانت مديحة عمر تلهو شأنها في ذلك شأن الفنانة الفرنسية لويزا بورجوا التي عاشت في الولايات المتحدة في الحقبة نفسها، من غير أن تسمع إحداهما بالأخرى.

يقول آل سعيد “أسهمت السيدة مديحة عمر منذ الأربعينات في البحث عن الحرف العربي عبر الفن التشكيلي متوخية الكشف عن طاقاته الإبداعية كبعد واحد وكرمز حياتي. خاصة في استعمال الحرف الكوفي. ومن هنا تبرز أهميتها في البحث حيث تعود إلى كونها من الرواد الأوائل لوضع الحرف في محله الملائم كأحد عناصر الإبداع للفكر المعاصر”.

يبدو اعتراف شيخ الحروفية العربية مضللا. فهو لا ينكر على المرآة موقعها الريادي وهو الذي اكتشفها من أجل أن يفسد على خصمه جميل حمودي تفرده بالريادة، غير أنه في ذات الوقت يلحقها بفكرة البعد الواحد، وهي الفكرة التي أنشأ من أجلها تجمعا حروفيا بداية سبعينات القرن الماضي، حمل عنوان “تجمع البعد الواحد”.

من وجهة نظر آل سعيد فإن تجربة مديحة في الحروفية بالنسبة إلى حروفيته هي أشبه بتجربة لوتريامون بالنسبة إلى السورياليين الفرنسيين. الجذر الذي يشير إلى الشجرة التي لن تكون شبيهة به. لم يكن آل سعيدا متضررا بريادتها التاريخية كما هو حال جميل حمودي، منافسها في تلك الريادة، غير أنه لن يعترف بقيمة ما فعلته جماليا. وقد يكون آل سعيد من وجهة نظري محقا.

لقد التبس أمر الحرف على مديحة عمر كثيرا. فبدلا من أن تتماهى مع تجريدية الحرف صارت تنقب في خصائصه الشكلية التي يمكنها من خلالها أن تجعل منه مصيدة لمعان، لم يكن قد ابتكر من أجلها. من وجهة نظر من لحقوا بها في مجال الكشف عن جماليات الحرف العربي فقد كانت رسومها تنطوي على نوع من الخيانة المبيّتة للحرف باعتباره كيانا جماليا مستقلا.

لم تكن سيدة الحرف العربي في اللوحة كثيرة الاهتمام بما يقوله الآخرون عن عملها. عاشت حياتها كما تحب ورسمت أحلامها كما تحب وكانت حروفية كما تحب.

عن ( العرب )