من تاريخ الحركة النيابية في العراق..إنتخابات 1948 وتدخل السلطة فيها

من تاريخ الحركة النيابية في العراق..إنتخابات 1948 وتدخل السلطة فيها

د. بشير حمود الغزالي

بدأ الشروع بالانتخابات النيابية في )حزيران 1948 (، في ظل ظروف شاذة إذ كانت الأحكام العرفية معلنة بسبب حرب فلسطين، والتي استغلت استغلالاً فضيعاً لأضعاف المعارضة الوطنية والانتقام من كل فئة نشطت في أثناء الوثبة الوطنية.

وعلى أية حال فان أحزاب المعارضة السياسية العلنية والسرية قررت الاشتراك في الانتخابات الجديدة، كما استعد جماعة )الكتلة ( لخوض الانتخابات أيضا، وبذلك بدأ الصراع بين أحزاب المعارضة ورجال الكتلة المؤيدة لمعاهدة )بورتسموث(على أشده .

بدأت أحزاب المعارضة بإقامة المهرجان للتعريف بالمرشحين وبالمناهج الانتخابية وألقى كامل الجادرجي رئيس الحزب الوطني الديمقراطي المرشح عن المنطقة الثالثة ببغداد كلمة في اجتماع انتخابي أقيم في مقهى )مجيد معروف( بشارع غازي قال فيه مخاطباً الجماهير :... أن مسؤولياتكم في هذا الدور من تاريخ العراق خطيرة وخطيرة جداً، لأن قوى مختلفة - وارجوا أن لا تستهينوا بها - أخذت تتجمع للحيلولة دون مجيء مجلس يمثل إرادة أكثرية الشعب،وهذه القوى تعمل ليل نهار كي تبرهن على أن الوثبة التي قمتم بها ما هي إلا )حركة رعناء( كما قال صالح جبر، وإنها ليست منبثقة من صميم الشعب، فبرهنوا على أنكم لا تعملون إلا في سبيل مصالحكم ولا تعملون إلا بوحي من ضمائركم . أكد مرشحوا المعارضة العلنية والسرية في الاجتماعات الانتخابية على المطالبة بإشاعة الحريات،ومكافحة الغلاء ورفض المعاهدات، وحل قضية فلسطين، وتطبيق أحكام الدستور، وكانت تحضر إلى هذه الاجتماعات جماهير غفيرة، تؤيد مرشحي المعارضة، وتتحمس لمطاليبهم الوطنية، ومن بين هذه التجمعات، الاجتماع الذي عقد في الصحن الكاظمي الشريف في ) 6 نيسان 1948 ( الذي حضره مؤيدوا المرشح جعفر حمندي،أحد أعضاء الجبهة الدستورية المعارضة في مجلس النواب السابق ألقيت فيه الكلمات الحماسية المنددة بالاستعمار وبلجان التفتيش وبالحكومة، وانتهى الاجتماع بمظاهرة جماهيرية هتفت ضد مرشح الحكومة عبد الهادي الجلبي المنافس لجعفر حمندي في منطقة الكاظمية. كما أصدر الحزب الشيوعي بياناً ناشد فيه الشعب الحيلولة دون مجيء مجلس نيابي موال للاستعمار وطالب بعدم السماح لجماعة صالح جبر وأمثالهم بالرجوع إلى الحكم، وطالب كذلك بإطلاق الحريات الديمقراطية وتنظيف الجهاز الإداري خصوصاً ذلك الذي له صلة بالانتخابات، ورفع شعار )لا انتخابات حرة والأحرار في السجون(.

استخدمت الحكومة وسائل جديدة لأضعاف مرشحي المعارضة الوطنية منها ترشيح أشخاص من عائلة مرشحي المعارضة نفسها لخلق الشقاق بين أفراد العائلة الواحدة وإفشالهم في الانتخابات، وهذا ما حصل في مدينة المسيب حيث رشحت الحكومة عم السيد عبد الهادي صالح ليكون منافساً لصهره وابن أخيه عبد الهادي، ثم كلفت الحكومة أمير ربيعة لإقناع عبد الهادي صالح بسحب ترشيحه بعد أن قال له: إنك من غير المرغوب فيهم لدى الجهات العليا. كما حدث الشيء نفسه في الحلة منطقة الهندية حيث كان مرشح حزب الاستقلال السيد علي القزويني معتمد فرع الحزب في الحلة، ولأجل إفشاله عمدت الحكومة إلى ترشيح أحد أبناء عمومته لمنافسته في المنطقة الانتخابية.

وفي بغداد العاصمة اتهم كامل الجادرجي الحكومة، بالتدخل في انتخابات المنطقة الثالثة، إذ أن لجنة الانتخابات والهيئة التفتيشية كانت منحازة إلى مرشح الحكومة علي ممتاز، حيث كانت تكره الناخبين بالاتجاه إلى الكتاب المعينين لمصلحة المرشح علي ممتاز، كما يقوم الموظفون المشرفون على لانتخاب بأخذ أوراق انتخابية وتأشيرها لصالح المرشح المذكور وإلقائها في الصندوق وتقوم الشرطة بمنع مؤيدي مرشح المعارضة كامل الجادرجي من دخول المركز الانتخابي، الذي كان مقره جامع )الحيدرخانة( ،وكان الجادرجي يشاهد هذا التدخل والتزوير بعينه، مما أضطره إلى ترك مركز الانتخاب احتجاجاً على هذه التدخلات المخالفة للقانون، وإبلاغ السلطات المختصة بمذكرة اعتراضية رفعها إلى رئيس محكمة استئناف منطقة بغداد، ذكرفيها حالات التزوير والتدخل في الانتخابات وأساليب الإكراه والتهديد والإرهاب التي تستخدمها الهيئات التفتيشية في انتخابات المنتخبين الثانويين، وطلب إبطال هذا الانتخاب المخالف للقانون وإعادة أجرائه بصورة قانونية صحيحة خالية من أي تهديد أو إرهاب أو تدخل من جانب الشرطة أو غيرها من السلطات، ووجه صورة من الاعتراض إلى رئيس الوزراء وإلى وزير العدل ووزير الداخلية، ورئيس الديوان الملكي وإلى حاكم المنطقة الانتخابية الثالثة.

استغلت الحكومة الأحكام العرفية المعلنة لمقاومة مرشحي الأحزاب السياسية ولا سيما الحزب الوطني الديمقراطي، فأوقفت محمد السعدون، رئيس فرع الحزب في البصرة وعدداً من أعضاء الحزب وحكمت على بعضهم بالسجن والإخراج من مدينة البصرة .مما دفع رئيس الحزب الوطني الديمقراطي إلى رفع كتاب إلى رئيس الوزراء بشأن التدخل في الانتخابات في ) 23 مايس 1948 ( أوضح فيه استغلال الأحكام العرفية من السلطات الحكومية لتهديد بعض المرشحين بإحالتهم إلى المحاكم أمام المجلس العرفي العسكري، كما أن الإدارة اوقفت بعض الذين ينوون ترشيح أنفسهم للنيابة وأحيلوا إلى المجلس العرفي العسكري، ليحال بينهم وبين الترشيح، ثم ختم هذا الكتاب بلفت نظر رئيس الوزراء إلى هذه البوادر الخطرة وطلب التحقيق مع الأشخاص الذين أرادوا استغلال هذه المحاكم، وتوجيهها إلى غير الوجهة التي أنشئت من أجلها.

أدى البلاط الملكي دوراً في التدخل بالانتخابات النيابية، بهدف منع مرشحي المعارضة ووضع قوائم للمرشحين الذي ينبغي مؤازرتهم وضمان فوزهم بالانتخابات وأنيط هذا الجدول بوزير الداخلية لاتخاذ الإجراءات اللازمة لتحقيقه، وهذا بدوره أبلغ المتصرفين )المحافظين ) بمرشحي الحكومة والعمل على إنجاحهم ومقاومة منافسيهم من مرشحي العناصر المعارضة كما أوعز البلاط المتصرفين بأن الجهة الوحيدة المسؤولة عن الانتخابات هي وزارة الداخلية وعليهم تلقي التعليمات بشأن ذلك منها دون غيرها من سلطات الدولة، وهكذا أصبحت تصريحات رئيس الوزراء ورغبته الصادقة في أن تجري الانتخابات بحرية تامة غير ذات موضوع ولهذه التدخلات المستمرة حاول محمد مهدي كبة رئيس حزب الاستقلال أن ينبه المراجع المختصة على هذه التدخلات إلا أن تنبيهاته المستمرة لم تجد أي نفع في تعديل ذلك الأنحراف. وعلى أثر هذه المخالفات القانونية في التدخل والتزوير واستغلال الأحكام العرفية لصالح مرشحي الحكومة اجتمعت الهيئة الإدارية لحزب الاستقلال وبحثت هذا الموضوع ورأت أنه من غير الصحيح الاستمرار في تحمل المسؤولية، وقررت الأنسحاب من الوزارة، قبل أيام من انتهاء الانتخابات، حيث قدم محمد مهدي كبة استقالته من وزارة التموين في ) 7 حزيران 1948 ( .

ومما يجدر ذكره هنا أن أساليب الحكومة لم تقتصر على التدخل في الانتخابات وتزويرها بل تجاوز ذلك إلى حوادث القتل والإرهاب الدموي، إذ حصلت معركة دامية في محلة الدوريين، التابعة للمنطقة السابعة في الكرخ يوم ) 13 مايس 1948 ( بين أنصار حزب الاستقلال والعشائر المسلحة من أنصار مظهر الشاوي وشاكر الوادي أحد أعضاء الوفد المفاوض في معاهدة بورتسموث، وأسفرت هذه المعركة عن مقتل خمسة أشخاص وجرح 27 آخرين. وفي مدينة الصويرة قتل حامد، العجيل رئيس فرع الحزب الوطني الديمقراطي ومرشح الحزب هناك ليلة ) 29 نيسان 1948 (، وفي بغداد أيضاً اغتيل سليم الدرة، أحد أعضاء حزب الاستقلال قبيل الانتخابات . أما في مدينة الكوت فقد دخلت أعداد كبيرة من العشائر المسلحة إلى مدينة وأخذت تهدد الناخبين لأرغامهم على انتخاب الأقطاعيين أمثال بلاسم الياسين وظهرت حوادث أخرى من السليمانية بقيادة الشيخ محمود.

انتهت المعركة الانتخابية بفوز حزب الاستقلال بأربعة مقاعد، إذ فاز رئيس الحزب محمد مهدي كبة ومعتمد الحزب داود السعدي، وإسماعيل الغانم عن بغداد وفائق السامرائي عن مدينة سامراء كما فاز ثلاثة نواب من الحزب الوطني الديمقراطي هم: محمدحديد نائب رئيس الحزب عن الموصل وسكرتير الحزب حسين جميل وخدوري خدوري عن بغداد كما فاز سعد صالح عن حزب الأحرار فضلًا عن عدد من النواب الوطنيين المستقلين الذين شكلوا فيما بعد جبهة برلمانية معارضة.

عن كتاب ( المعارضة النيابية في العراق في الحكم الملكي )