عبد الملك نوري و تجديد القصة العراقية

عبد الملك نوري و تجديد القصة العراقية

ناطق خلوصي

اعتاد النقاد ودارسو القصة العراقية على الجمع بين عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي عند الحديث عن ريادة التجديد في القصة العراقية ، في حين ان عبد الملك نوري ينفرد بهذه الريادة كما تدل عليه المصادر التي تتحدث عن سيرة كل منهما وشهادات أربع شخصيات كبيرة هم قاصان وناقدان ممن عاصروه أو تابعوا مسيرته القصصية .

يقول عنه الدكتور عبد الاله أحمد في كتابه ” الأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية : ” يمكن أن نسمي جيله الذي أخذ انتاجه القصصي بالظهور منذ أواخر الأربعينات “جيل عبد الملك نوري “، مما يؤكد ريادته .

ولد عبد الملك نوري 3/1/1921 في محجر صحي على قناة السويس في مصر عندما كان أبوه عبد اللطيف نوري (وهو عسكري أصبح وزيرا للدفاع في فترة من تاريخ العراق الحديث )، عائدا من الحجاز بعد المشاركة إلى جانب الشريف حسين في الثورة العربية الكبرى ، فتم احتجازه هو وزوجته ومن عاد معه ، بسبب انتشار وباء في الجزيرة العربية آنذاك . حسبما جاء في كتاب ” عبد الملك نوري : رحلة الابداع ” لهاتف الثلج .

نشر قصصه الأولى في مجلة ” المجلة ” في الأعوام 1941 ــ 1944وكان طالبا في كلية الحقوق آنذاك وأصدر مجموعته القصصية الأولى ” رسل الانسانية ” عام 1946 ” . أما فؤاد التكرلي فقد ولد في محلة باب الشيخ في بغداد عام 1927 ونشرت له أول قصة ، وهي بعنوان ” همس مبهم ” عام 1952 وصدرت مجموعته الأولى ” الوجه الآخر ” عام 1960 ،بمعنى ان أكثر من عشر سنوات تفصل بين بداية كل منهما . وفضلا ً على ذلك فإن اللغة الانكليزية التي كان عبد الملك يجيدها ساعدته على قراْءة القصص العالمية والاستفادة من أساليبها التي تركت بصماتها على اسلوبه فنحا به منحى تجديديا في حين لم يتوفر ذلك للتكرلي.

يعترف فؤاد التكرلي بتقدم عبد الملك عليه زمنيا في كتابة القصة وفي تجديدها . يقول في المقدمة التي كتبها لمجموعة ” ذيول الخريف ” لعبد الملك ،عن بدايات تعرفه عليه عام 1949 : ” كنت قد التقيت به قبل اسبوع في مقهى ” سويس ” ، حين كنت أمضي يومين أو ثلاثة في بغداد لقضاء بعض الحاجات . كان اللقاء بواسطة صديقنا المشترك ساطع عبد الرزاق وبطلب من عبد الملك . امتد بيننا ، حال التقينا ، نوع من الإلفة ، والتفاهم الصافيين . كان عبد الملك آنذاك كاتب قصة معروفا فازت قصته ” فطومة ” في السنة الماضية بجائزة مجلة ” الأديب ” البيروتية لأحسن اقصوصة عربية ، وكنت شابا صغيرا لم أنشر شيئا ، إلا اني كتبت بعض الأقاصيص التي لم أقتنع بها وأعطيتها ــ كما أتذكر ــ إلى صديقي نزار سليم للاطلاع عليها فأعطاها بدوره إلى ساطع ليعيدها الي ّ فوصلت إلى عبد الملك فاطلع عليها ، ومن هنا كان طلبه من ساطع أن يلتقي بي .” وهذا دليل صريح على أسبقية عبد الملك نوري في ريادة التجديد على فؤاد التكرلي .

لقد وجد عبد الملك نوري نفسه امتدادا لجيل القصاصين الذين سبقوه . فهو” يعترف بأن ذالنون أيوب وعبد المجيد لطفي قد أثروا بهم لأنهم الجيل الأسبق وكان يعدهما كاتبين طايعيين بالنسبة للاجيال السابقة ، لكنه وأبناء جيله قد افترقوا عنهما من حيث الاسلوب ” الفن ” فقد كانوا جيلا جديدا في الكتابة ” . في حين يتقاطع موقف فؤاد التكرلي معً موقف عبد الملك ، من الجيل الذي أشار اليه ، فهو يقول عن تأثر عبد الملك بجيمس جويس : ” ففي ذلك الجو الأدبي ، خلال الأربعينات ” حين كان ذوالنون أيوب ورفاقه منكبين على قرع طبول الأقاصيص ” الاجتماعية ” الساذجة ، تبدو محاولة عبد الملك مثل نيزك أضاء سماءنا السوداء . ”

أما محمود عبد الوهاب ، وهو ينتمي إلى جيل الخمسينات الذي ينتمي التكرلي اليه ، فيعترف في حوار كنت قد أجريته معه عام 2005 ونشر في جريدة الزمان ، باستاذية عبد الملك نوري وريادته . فهو يقول : ” كان جيل الخمسينات جيلا قارئا وعارفا باشتراطات فعل الكتابة ، ان من يعرف حرفية العمل يكون كثير التدقيق في انجازه . كنا ، في مقهى البرازيلية ، نصغي إلى القاص الرائد الراحل عبد الملك نوري في خشية ، انه لا يقصينا بحديثه لكنه كان يبصّرنا بحدود معرفتنا ، تعلمنا منهم كم هي متشددة اشتراطات الكتابة ، ثم كم عملت التحولات السياسية الحادة والعنيفة والحاسمة على عزلة القاص القسرية والمؤقتة أحيانا ” .

يدرس الدكتور عبد الاله احمد تجربة عبد الملك نوري على نحو موسع فيقسم مسيرته القصصية إلى أربعة مراحل يبدأها ببداية حياته الأدبية منذعام 1941 حيث نشر أولى قصصه ، ( قصة ” بدرية ” في العددين 6 و7 من مجلة ” المجلة في آب وايلول 1941 ) ، ويرى ان قصصه التي نشرها بين عامي 1948 و1951 ، تمثل نتاج المرحلة التجريبية في قصصه ، في حين لم يكن فؤاد التكرلي قد نشرأية قصة آنذاك . ويشخّص أبرز سمات لغة مرحلة عبد الملك نوري التجريبية باهتمامه بوصف ” المظاهرالمحيطة بأحداث قصصه وشخوصها . ” ولا ينزه الناقد قصص عبد النملك من الضعف في مختلف المراحل التي تحدث عنها غير انه يتفق ، كما بدا واضحا ، مع قول فؤاد التكرلي ” ” ان الاقصوصة العراقية المستكملة لأقل حد من التقنية المعترف بها في الآداب الغربية ، لم يكتبها “السيد ” ولا الخليلي ” ولا ” ذنون أيوب ” ، ان يقظة التقنية القصصية في العراق و الشعور بضرورتها كانت لدى عبد الملك نوري . لا يهم كثيرا مدى أو عمق نجاحاته في هذا المجال انما يجب أن نسجل له تلك الرغبة المحرقة المستمرة لتحقيق مستوى فني محترم في الاقصوصة العراقية لم يسبق اليه . كان جادا في عمقه ومحاولاته ، ولم تكن الثقافة تعوزه ولا الاطلاع أو الجرأة ” .وهذه شهادة أخرى على ريادة عبد الملك نوري في التجديد .

أما الدكتور علي جواد الطاهر فهو يحدد ، في كتابه ” في الريادة الفنية للقصص العراقي ” ، التيارات التي ميزت انجاه عبد الملك نوري ، بالتيار الاجتماعي الانساني الأخلاقي ( الماركسي) والتيار النفسي الذي يستلهم تيار الوعي من القصص الغربي ثم التيار الوجودي ، وتعمق التيارين الأخيرين قراءات عبد الملك نوري باللغة الانكليزية : ” وأبرز ما في هذا الجديد ــ غير الواقعية الغربية التي صارت معروفة ــ واقعية ” شرقية ” تبناها عبد الملك نوري ( إلى جوار آخرين ــ لم يكن فيهم التكرلي ــ جاؤوها عن طريق الفكر الماركسي على وجوه مختلفة ــ ولكنه زاد عليها وعلى الآخرين ــ يشاركه في هذا التكرلي ،، اتجاها نفسانيا من اللاوعي وسمه تيار الوعي أو الحوار الداخلي . ثم لمحات من الوجودية ــ نجد شيئا منها عند التكرلي ــ متأثرين بعبد الملك بعده ــ وهكذا اختلف عن الآخرين كلهم يجمعه ثلاثة اتجاهات متناقضة أو كالمتناقضة هي الاجتماعية ــ الاصلاحية ــ الثورية اذا لم نسمها الماركسية وما هي اكثر من الماركسية، والنفسية ــ النفساتية ــ اذا لم تحددها بتيار الوعي ، وضياع الفرد بين اختياره وجبره وعوامل تشاؤمه ” قرفه ” والارادة والمصير والعبث .. اذا لم نسمه الوجودية ” ، ولم يتوفر مثل هذا لفؤاد التكرلي تماما.