أفكارٌ للعبور من محمد حسين فضل الله إلى الضفة الأخرى

أفكارٌ للعبور من محمد حسين فضل الله إلى الضفة الأخرى

جعفر محمد حسين فضل الله

في الرابع من تموز / يوليو 2010، رحل عن هذه الدنيا محمد حسين فضل الله. بعده، انفجرت المنطقة على صراعاتٍ لم تضع أوزارها حتّى لحظة كتابة هذه السطور؛ هذه المرحلة التي ستشكّل بالنسبة إلى هذه المقالة نقطة البداية رجوعاً إلى الوراء لتلمّس القضايا التي شكّلت جدلًا في حركة «السيّد».

ليس الغرض من ذلك هو إثبات استشرافيّة «السيّد» للمرحلة كلونٍ من التبجيل، ولكن لاعتقادنا بأنّ الوقوف على طبيعة النتاج ــ بقراءة مستجدّة ـــ يمكن أن يحدّد الثوابت الأساسيّة، في الوقت الذي يمكن أن يشكّل جسر عبورٍ لتجاوز أزمات المرحلة إذا ما خلصت النوايا.

لم يكد يمضي على الرحيل عامٌ حتّى تحرّك ما سمّي بـ«الربيع العربي»، والذي شكّل نقطة خلاف محوريّة، لكنّ ما يعنينا فيه هو دخول حركاتٍ ودولٍ إسلاميّة في المواجهة، هذه المواجهة التي أعطيت عنواناً مذهبياً، وكأنّه صراعٌ سُنّي شيعي، وحاول كثيرون من المتطرّفين إقحام بعض الأدبيات والمفردات التاريخية، فبات لدى هؤلاء أنّ الشيعة «رافضة»، والسنّة «نواصب»، وربّما استعاد المخيال شيئاً من الصراع الصفوي العثماني مع دخول الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتركيا على خطّ الصراع؛ وبدأت ترتفع الأصوات المنادية بالخلافة الإسلامية، وبعضهم جعلها خلافة راشدة سادسة.

في مصر دخل الإخوان المسلمون في واجهة الحكم، ليخسروها بعد ذلك بما أوحى بفشل «الإسلاميّين» في مسألة الحكم، ولتبرِز في هذه التجربة مشكلة الاعتراف بالعدوّ الصهيوني ومراسلته وحصار غزّة كواحد من الاختبارات القاسية تجاه القضايا الكبرى.

برز في «الربيع» أيضاً اختلاف المعايير؛ فكان مسموحاً عربياً ودولياً في دولٍ وممنوعاً في دولٍ أخرى، حتّى أُخرجت سوريا من جامعة الدول العربية، وشُنّت حروبٌ عربيّة على دولٍ عربيّة، كاليمن، ودخلت كثير من الدول في التطبيع مع العدوّ، في ظلّ استفحال العداوة مع إيران، ليُعلن في نهاية عام 2017 ما سمّي بـ«صفقة القرن»، التي تنهي قضية فلسطين تماماً، وتنفتح معها قضايا التوطين في أكثر من بلدٍ عربي، شكّلت مشكلة وجوديّة وإشكاليّة كيانية للكثير منها، فضلاً عن القضية المركزيّة نفسها.

بمعزلٍ عن أيّ جدلٍ حول ما جرى، ولكنّنا نستطيع أن نستدعي في حركة «السيد» عدّة قضايا شكّلت هواجس ومشاريع في آنٍ معاً، كان يرى بأنّه يجب العمل عليها قبل وقوع الواقعة، مع تصريحه بالتشاؤم من المستقبل في آخر أيّام حياته.

1 ــ القضيّة المذهبيّة

الذي يراقب خطاب «السيّد»، منذ نعومة أظفاره في النجف، يرى بوضوح كم كان مسكوناً بالمشروع الإسلامي الحضاري، والذي هو حكماً مسكونٌ بالوحدة الإسلامية، التي لا تعني تنازل أيّ فريق عن قناعاته، ولكن تعني الانطلاق من القواعد الإسلامية المشتركة، والهوية الجامعة، وتأكيد القضايا التي يلتقي عليها المسلمون، وإدارة الاختلاف عبر الحوار على قاعدة الأخوّة الإسلامية.

بقيت قضية الوحدة الإسلامية قضية مركزيّة، على طول حركته، حتّى قال وهو على فراش المرض الأخير: «لقد كنت رائداً أو داعياً للوحدة الإسلامية منذ خمسين عاماً ولا أزال».

حدّد «السيد» كثيراً من القضايا التي عملت عليها أجهزة الفتنة، وشكّلت في العقل السنّي أو الشيعي العام نقاطاً حسّاسة، ولذلك عمل باكراً على عدّة صُعُد:

الأوّل: تصحيح علاقة المسلمين مع التاريخ الإسلامي؛ إذ التاريخ، بكل ما يحمله من صراعات، هو مسؤولية الذين صنعوه، وليس مسؤوليّتنا، فلا ينبغي أن يشكّل قاعدة للصراع المعاصر؛ بل إنّ هذا لونٌ من ألوان التخلّف.

ومن جملة ذلك، أنّه جعل البحث التاريخي تجاه بعض الأحداث الإشكالية بين السنة والشيعة، أمراً مفصولاً عن البحث العقدي؛ فمن الممكن للبحث التاريخي أن يصل إلى قناعة بعدم الاعتداء على السيّدة الزهراء أثناء قمع المعارضة في بيت الإمام عليّ، من دون أن يتنازل قيد أنملة عن القضية العقدية في أحقّية الإمام عليّ بالخلافة ممّن تقدّموه، وذلك بالنصوص التي يحاجج فيها. كما لا مانع من الحديث عن معركة الجمل، بقيادة طلحة والزبير ومعهما السيدة عائشة، ضدّ الإمام علي، الخليفة المبايَع آنذاك، في الوقت الذي يحرم التعرّض لها بسوءٍ، حيث لكل قضيّة حسابها، ولا ينبغي الخلط بين القضايا على نحو ما تصنع الفئات المغالية.

ولكنَّ هذا الأمر، قد يكون موقعه البحث العلمي وحركة النخب الفكرية، وليس الأمر كذلك في ذهنية الجماهير التي تنشأ عادة على ثقافة أكثر خلطاً بين الأمور، نتيجة ظروف تشكّل الجماعات، أو تفرضه سياقات الصراعات التي تستغلّ فيها القضايا المذهبية لشدّ العصب وتسعير الأحقاد ضدّ الخصوم بكل ما يمكن. ولذلك كان العمل على الصعيد الثاني التالي.

الثاني: نزع الفتائل من الثقافة الشعبية، والتي منها ثقافة السبّ واللعن، التي لم تكن ثقافة إسلامية، بل ثقافة كرّسها حكّام الجور على امتداد التاريخ الإسلامي، ولعلّ أول هؤلاء كانت السياسة الأموية التي اتبعها معاوية في تكريسه لسبّ الإمام عليّ على المنابر. لم يقتصر «السيد» على الفتاوى فقط، وإنّما عمل على إحاطة الفتوى بعناصرها الثقافية التي تغيّر ذهنيّة الجماهير، وتطبع أخلاقيّتهم الإسلامية انطلاقاً من أصالة الأدبيات الشيعية، والتي لم ترضَ بأن تكون في أي موقع تفرقة بين المسلمين.

من الممكن للفتوى بتحريم سبّ الصحابة وأمهات المؤمنين هنا أن تكون إعلاناً عن الموقف المبدئي، ولكنَّ الأهمّ في نزع الفتائل هو عملية تربية جديدة للجماهير، تعيد ربط الفتوى بالأدبيات الإسلامية القرآنية والنبوية والإمامية؛ لأنّ المطلوب إعادة تشكيل الذهنية، وتغيير أدبيات التعاطي، وهذه لا تتمّ بإعلان موقفٍ فقط.

الثالث: إعادة إنتاج العقل الإسلامي، واعتبار التسنّن والتشيّع ــــــــ في المجال الإسلامي العام ــــــــ وجهتَي نظر في فهم الإسلام، وإنّ قناعة أيّ طرفٍ بالإسلام ضمن وجهة معيّنة لا تُلغي انتماء الآخر، وهذا ما يفتح على رؤية التسنّن والتشيّع ضمن المجال الإسلامي الذي لا بدّ أن يبقى متحرّكاً على أساس العقل المتحرّك، والذي يسمح بإعادة تشكيل القناعات لدى أيّ فريقٍ من خلال ما يطرحه الآخر، على قاعدة الحوار والبحث العلمي والموضوعي، وانطلاقاً من الأسس الاجتهادية التي يحتكم إليها الطرفان.

ولكنَّ هذا كلّه لا يمكن أن يتمّ إلّا على قاعدة فتح باب الاجتهاد وتطوير العلوم الإسلامية لدى الفريقين، السنّة والشيعة؛ لأنّ السنّة إذا كانوا قد ساروا عملياً على غلق باب الاجتهاد نظرياً وعملياً، فإنّ الجمود الذي قد يعاني منه الفكر في المجال الشيعي قد ينعكس غلقاً لباب الاجتهاد عملياً وإن كان مفتوحاً نظرياً؛ ما يجعل الحاجة إلى التجديد حاجة ملحّة، وإن كانت في أحدهما أكثر تعقيداً من الآخر.

وإذا كان كلُّ ذلك قد فتح أمام «السيد» مشكلة مع المجال الشيعي نفسه، ولم يكن ذلك في الحقيقة مسألة فكرية بحتة، بقدر ما كانت مسألة تعقيدات جعلت «السيد» نقطة التقاء مصالح في ضرورة حذفه من الساحة، بدءاً من الجهات المغالية شيعياً التي أغلقت الهويّة الشيعية على العداء للآخر المذهبي، وهي فئات لا تمثّل الأغلبية بالمناسبة، مروراً بقضايا المرجعيّة وتعقيدات المنافسة فيها، وصولاً إلى أجهزة المخابرات الإقليمية والدولية التي كانت لا ترتاح إلى هذا اللون من الفكر الذي يعمل على تصحيح مسار الحالة المذهبية في الأمّة الإسلامية.

المشكلة هنا، أنّ العقل الإسلامي لم يتنبّه إلى الحالة المأزومة التي هو فيها، فانشغل الكثيرون في التصويب على «السيد» في المجال الشيعي، ورآها كثيرون في المجال السنّي فرصةً لتسجيل نقطة على الشيعة، من دون وعي أنّ على الطرفين أن يعيدا إنتاج الثقافة وآليات الفكر بما يسمح بإعادة رسم العلاقة التي تمثّل غنًى للطرفين، بدلاً من حالة الصراع التي دائماً ما تخضع للاستغلال السياسي من القوى المستكبرة أو التابعة لها.

قد نكتب أطروحة هنا ولا ينتهي القلم، ولكن ما نريد أن نخلص إليه أنّ القضية المذهبية الحارّة، كانت تفترض العمل باكراً على نزع فتائلها، ولا سيما أنّ الأمة كانت تختبر في لحظة اندحار العدوّ الصهيوني عن جنوب لبنان عام 2000 مشاعر إسلامية عارمة، كانت تحتاج إلى مواكبة ثقافية من هذا النوع؛ لأنّنا نعرف أنّ الظرف الشعوري الذي يتجاوز الحالة المذهبية، هو أهمّ ظرفٍ يمكن أن تنزع فيه الكثير من عوالق التاريخ وتراكمات الثقافة، بما يؤسّس لتمتين الذهنية والروحية الإسلامية في الأمّة، وللأسف لم يحصل ذلك حينها.

سنوات من الضخّ المذهبي عبر الإعلام والسياسة خلال السنوات اللاحقة، كانت كفيلة بالتنبّه إلى خطورة هذه الفتائل المتغلغلة في الثقافة الشعبية، بحيث كانت استعادة مفردة «روافض» كفيلة باستدعاء مفاهيم التكفير، ما استدعى شعور الكثيرين لتأكيد مبدأ نزع الفتائل، ولكنَّ الظرف كان أبعدَ عن ذلك، وما زلنا إلى الآن نعيش هذا اللون من الاستغلال للثقافة الشعبية لبثّ الفتنة بين المسلمين.

عن جريدة الاخبار اللبنانية