رحيل عالم

رحيل عالم

قاسم محمد عباس

لم يكن أخرويا بالمعنى الرافض للحياة بوصفها نعمة إلهية، ولم يكن دنيويا بالمعنى المُبعِد لقيمة الروح الانسانية في وجودها الارضي.. بل كان مسافة تفصل وتجمع بين عالمين قدمهما آية الله العظمى العلامة محمد حسين فضل الله في صورة تعبر عن حقيقة الانسان وجوهر علاقته بالله، لم يكن يسعى في رحلة نضاله العلمي والديني والسياسي إلى أمجاد شخصية بقدر ما كان مهموما بمراجعة التراث المذهبي وفحصه،

واستحداث مواقف تنسجم وروح العصر،فضلاً عن اهتمامه بعذابات المحرومين ، منشغلا بالبحث عن وجود فاعل ومؤثر للقيم الاسلامية في عالمنا المعاصر .. لذا لم يتجنب المعالجات العميقة التي كانت تؤدي لاستنتاجات مغايرة .. ولم يكن ليسمح ان يشطب على أهمية التجديد والاستنارة ومراجعة مساحات اشكالية تفعل فعلها الى اليوم في الوجدان الديني بصوره الشعبية ، لكنه في الوقت ذاته لم يكن ليختزل الحياة بفكرة مادية مبسطة ، انما اختار الاخلاص والتفاني والعدل باعتبارها قيمة كبرى في الضمير الاسلامي .. لقد تعرض العلامة فضل الله لمحن عدة ، ومر بظروف معقدة بسبب بعض مواقفه ، لأنه كان عارفا بمكامن الخلل في طبيعة المشكلات الثقافية التي تعيشها ثقافتنا الاسلامية ، فلم يصف الجو بينه وبين الفضاء التقليدي بسبب طروحات واجتهادات كانت تعبر عن رغبة في تضييق مساحات التقاطع والتشتت، والبحث عن مشتركات تمثل الأمل الواقعي لاستمرار تأثير القيم الاسلامية ونظامها الاخلاقي في العالم المعاصر.. لقد مر الراحل بتحولات عدة ، من نشأته في مناخات مدينة النجف .. وتلقيه لتعليمه الاساسي في حوزاتها وتدريسه فيها لمدة، ثم مغادرته الى لبنان ليكون في موقع الاب الروحي لتأسيس الحركة الاسلامية ، وابتعاده عن النشاط السياسي بعد ذلك للتفرغ لمعرفة حاجات الناس والالتصاق بهمومهم. برحيل العلامة محمد حسين فضل الله نستعيد سيرة حياة رجل دين من طراز فذ ، وعالم دين متنور ، وفقيه استضاء بنور نعمة العقل، ومزج كل تلك الخصال في شخصية عالم دين معاصر صرف سنواته من أجل استحضار القيم الاسلامية ودورها في حياتنا الراهنة ، لاستنهاض طاقات العالم الاسلامي وزجها في مخاض صنع مصير الاجيال، واختبار تأثيرهذه المواقف في صنع الحياة إلى جنب الدين. فعبر صوت الاعتدال والتجديد ، تمكن فضل الله من التأسيس لموقف انفتاح على الاصلاح ..ليتحول الى ظاهرة تركت بصماتها على قطاعات كبيرة من مجتمعنا الاسلامي .. فمنذ بداياته في أزقة النجف الاشرف الى ربوع لبنان مرورا بخوض غمار النضال السياسي ،وتجربة تصديه للدرس الديني أغنى محمد حسين فضل الله مجالات الحياة العلمية والثقافية بتجربة كبرى .. وترك بصماته واضحة على جمع كبير من العلماء والتلامذة.. وهو ما جعله يترسخ في شخصية عالم الدين المميز ، المتنور ، الداعي للحوار ، المتصدي لاعداء الاسلام،الناقد للكثير من الروايات، هذا المحمّل بالمعنى الانساني الداعي للانطلاق من أسر الخلافات إلى البحث عن مشتركات تسمح لذاكرتنا الاسلامية بصياغة موقف جديد يغادر التاريخ الى الواقع . لقد كان لانعكاس شعاع شخصيته على شرائح واسعة من المسلمين بمختلف مشاربهم ومذاهبهم ، دوره في الانتصار لصوت العقل الناقد وتنقية مساحات مكتسبة من ادبياتنا الدينية.. الملتزم بنوع من الوفاء لقيمة الانسان الذي كرمه الله بوصفه خليفة في الارض..بالانتصار للحقيقة الجوهرية الاسمى ، وسعى فضل الله جاهدا للارتقاء بالفكر الاسلامي وتمظهراته كممارسة ومعرفة .. وهو ما دفع به الى قلب محن وازمات عدة . ففضل الله العالم ، والمرجع ، والعلامة إلى جانب صفاته الدينية والعلمية هذه جمع صفات طيبة اخرى كالمعاملة الطيبة والابوية مع الناس وطلبة العلوم الدينية، فحظي بشخصية ملفتة لها حضورها الفاعل في مختلف الازمات التي مرت بها بلدان المنطقة ... سنبقى نتذكر وجهه المشرق الذي تضمن الوقار والبساطة والاخلاص والتسامح والانفتاح على آلام الاخرين .. سنبقى نتذكر تلك الحياة المشرّفة بالنبل والشجاعة والنضال والكرامة .

نشر في المدى عام 2010