الرحيل المفجع..الدكتور عماد عبد السلام رؤوف.. المؤرخ الثبت

الرحيل المفجع..الدكتور عماد عبد السلام رؤوف.. المؤرخ الثبت

رفعة عبد الرزاق محمد

غال الردى صبيحة يوم 27 حزيران 2021 ، سيرة شخصية فكرية اطبقت شهرتها الآفاق عن ثلاث وسبعين عاما ، قضى معظمها في سوح التوثيق والتحقيق والبحث الجاد ، باحثا عن المعرفة التي تقوده الى الحقيقة ليشيعها بين المتلهفين لمعرفة تاريخهم بصنوفه وفنونه وتحولاته ، تلكم هي سيرة المؤرخ العراقي الكبير عماد عبد السلام رؤوف .

ومهما اختلفنا حوله ، فهو من القليلين الذين واصلوا جهود الجيل الذي صنع نهضتنا ، فجيل اعلام اليقظة الفكرية في العراق ، وجد ــ لحسن الحظ ــ من يواصل المسيرة ، ليس باحياء آثار اولئك الاعلام ، بل السير على خطاهم في البحث والتحقيق وتثبيت الحقائق التاريخية قبل ان يعيث بمقدراتنا التاريخية المتطفلون والمزورون والسارقون .. وما اكثرهم في يومن هذا !!

شعر عماد عبد السلام رؤوف العطار في وقت مبكر من حياته ، وهو في السابعة عشر من عمره باهمية وضع الحقائق التاريخية في مكانها الحقيقي وتصحيح ما وقر بين الناس من اوهام واغلاط بقصد او بلا قصد ، فكانت اولى كتاباته عن بعض المعالم التاريخية ببغداد وما اكتنف تاريخها من اوهام ، فاختار جريدة ذائعة يومئذ ، هي ( البلد ) لصاحبها عبد القادر البراك الذي استن سنة استاذه رفائيل بطي وجريدته ( البلاد )في الاهتمام بجوانب تاريخية قريبة من القراء . كان ذلك في عام 1965 ، فاشتهر اسمه بين المؤرخين، ووجد بين الكبار منهم من يؤازره ويدعوه الى المزيد ، ثم اخذ بالتنقل بين الصحف والمجلات الرصينة مقدما كتاباته التاريخية المحققة من فصول ونصوص ونبذ واستدراكات وتصويبات تاريخية وخططية ، واستمر بهذا النشر الى الايام الاخيرة من حياته .

وكان نيله شهادة ( الماجستير ) ثم ( الدكتوراه ) في جامعة القاهرة عن استحقاق كامل بمثابة دفعة قوية للولوج الكامل الى عالم البحث والدرس ، ليقدم نحو مئة وخمسين كتابا بين التأليف والتحقيق ،وقد اصبحت كتبه من مصادر المعرفة التاريخية التي لا غنى عنها ، وكان اول كتبه هو ( مدارس بغداد في العهد العباسي ) سنة 1966 .

تعرفت على الاستاذ عماد عبد السلام رؤوف في منتصف ثمانينيات القرن الماضي في مكتبة المثنى في شارع المتنبي ببغداد ، اذ كان يزور هذه المكتبة الكبيرة منذ الستينيات كل يوم خميس ،ولهذه المكتبة منزلة كبيرة في قلبه وعقله ، فقد وجد لدى اسرة هذه المكتبة منذ ايام صاحبها قاسم محمد الرجب كل العناية والترحيب ، فاخذ ينشر في مجلتها( المكتبة) مقالات ماتعة في التاريخ والفهرسة والبلدانيات ، ثم وسع هذه المقالات في السنوات التالية لتصبح بحوثا كبيرة . ومن المناسب فان الدكتور عماد عبد السلام نهد الى تحقيق ونشر مذكرات المرحوم قاسم محمد الرجب صاحب مكتبة المثنى ، وهي مذكرات جمعت تفاصيل الحياة الثقافية في العراق وطرائفها منذ عشرينيات القرن المنصرم .

ثم تعمقت صلتي به مقرونة باعجابي التام بما يقدمه من فوائد جليلة في كتبه ومقالاته ، لاسيما عن مدينة بغداد التي عشقها وعشق تاريخها الحضاري من كل الوجوه ، وكان للاستاذ زين احمد النقشبندي فضل في هذا التواصل الجميل . حتى قر قراره على النزوح الى اربيل وترك مدينته الحبيبة بغداد بعد عام 2003 بعد ان اصبحت مخاطرها لاصحاب الكفاءات والمشاهير بينة ! شد رحاله الى اربيل التي تضم جامعتها ( جامعة صلاح الدين ) الكثير من عارفي فضله وعلمه ، واغلبهم ممن تتلمذ على يديه .. فتحولت صلتي به من المعاينة الى المهاتفة . ولما حللت اربيل في ربيع 2018 بزيارة (طبية) وعرف بامري اتصل بي هاتفا : الزائر يزار ، فكحلت عيني بلقائه والتحدث اليه طويلا .

ومن احاديثي تلك ، الحديث عن عمله التاريخي المبارك باعادة نشر اغلب آثاره التي نشرت في السنوات السابقة بعد اجالة النظر فيها تصويبا واستدراكا وزيادة ، وكان عمله هذا مفهوما بعد ان طالت بعض ابنية ومعالم بغداد القديمة يد العبث والتزوير ، غير ان الحقائق التي احتجنته تلك الكتب من وثائق ونصوص اصيلة كان لها بعض الدور في ايقاف ذلك التطاول !

ولعل من اهم التصانيف البغدادية التي نهد الى تحقيقها كتاب ( العقد اللامع ) للمؤرخ البغدادي المنسي عبد الحميد عبادة ( ت1930 ) ، وقد بقيت مخطوطته تحن الى التحقيق والنشر ، لما فيها من معلومات تاريخية وخططية لا تجدها في المظان الاخرى ، وقد انجز تحقيقها ونشرها وتيسيرها للباحثين عن الحقيقة ، غير ان تلك الطبعة كانت مليئة بالاغطاء الطباعية والادبية والتاريخية ، وقد اعترف ــ رحمه الله ــ بذلك بان لم يقف على تجارب الطبع فظهرت بما ظهرت عليه . اقترحت عليه في اربيل ان يعيد نشر الكتاب واحيائه والاسراع بذلك ، فكلفني بقراءة الكتاب بتدبر وتصحيح ما اقع عليه من اخطاء او هنات .فاستجبت له ونظمت له ملفا باكثر من عشرين صفحة للتصويبات والاستدراكات المختلفة . وما ان اكتمل طبع الكتاب بعناية مكتبة ( تفسير) في اربيل ، بطبعة فخمة ، حتى ارسل لي نسخة منها ، فوجدت ان جميع تعليقاتي قد اخذ بها ، وضمن مقدمته الجديدة للكتاب اطراءه لكاتب هذه السطور ، بعبارات قد يكون مبالغا فيها ، قال ـ رحمه الله ـ:

(( لابد لي هنا ان اتقدم بالشكر والامتنان لكل من شحذ عزيمتي وأمدني بملاحظاته ، وفي مقدمتهم الصديق الاستاذ رفعت عبد الرزاق محمد ، الذي اتحفني بعدد كبير من الملاحظات القيمة ، دونها في قائمة مستقلة ، كما انه لم يبخل علي ببعض الوثائق المهمة مما يحتفظ به في خزانته ، اغنت ترجمة المؤلف بما تحتاجه من تفاصيل على ما سيرى القاريء الكريم )).

والحقيقة ان امانته العلمية تجسدت كثيرا في تحقيقه لكتاب ( العقد اللامع ) ، فقد اشار في كل موضع استدركت عليه الى ذلك ملاحظاتي او اوراقي ، وتلك خلة طيبة خضع اليها في كل مصنفاته بالاشارة الى الذين اشاروا عليه ببعض المعلومات ، خدمة للحقيقة واعترافا بالفضل ، على العكس تماما من العديد من مدعي العلم والتأليف ممن استحلوا التدليس على القاريء والتمويه عليه وانتحال ما يقدمه الاخرون بلا ترو وتردد !

اخلص الى القول بان ليس في العراق اوالعالم العربي والاسلامي من كتب عن تاريخ حضارة بغداد في القرون الاخيرة الا وهو يدين بفضل كبير للاستاذ الدكتور عماد عبد السلام رؤوف حتى تكاد ان تقول ان اغلبهم عيال عليه ، و كثيرا ما يتوجون اسانيد بحوثهم بالاشارة الى عبارة وردت هنا او هناك في كتاباته .. لقد عاش متبتلا لعلمه ، منقطعا لرسالته ، مخلصل لنهجه ، عازفا عن كل صور الاعلان عن مهامه الجسيمة التي حملها بحق ، وادى امانتها بكل فخر وصدق .