ميرلو بونتي.. المُدافع عن الالتزام الإنساني في العالم

ميرلو بونتي.. المُدافع عن الالتزام الإنساني في العالم

كريستين جمال

موريس ميرلوبونتي، فيلسوف ومفكر فرنسي خضع لعدة مؤثرات في بنية إنتماءاته الفكرية، فقد تأثر بفينومينولوجيا “هوسرل” ووجودية “سارتر” وبالنظرية “الجشتالتية” التي وجهت اهتمامه نحو البحث في دور المحسوس والجسد في التجربة الإنسانية، ومن الصعب تحديد إلى أي المذاهب الفلسفية ينتمي ميرلوبونتي؛ إلا أن معظم النقاد يميلون إلى عدّه فينومينولوجيًا بالدرجة الأولى على الرغم من أنه قد خالف هوسرل في بعض الآراء الأساسية.

عمل ميرلوبونتي أستاذًا في جامعة ليون والسوربون والكوليج دو فرانس، أصدر عام 1945 مع جان بول سارتر مجلة الأزمنة الحديثة، وفي عام 1953 انفصل عن سارتر بسبب خلاف في بعض المسائل، ذات الطابع السياسي، وخصوصًا فيما يتعلق بالموقف من الماركسية، وذلك لأنه دافع عن فكرة الالتزام الإنساني في العالم وفي التاريخ.

أهم مؤلفاته: “بنية السلوك”، و”فينومينولوجيا الإدراك”، “مغامرات الجدل”، وانطلق ميرلوبونتي من الفينومينولوجيا، لكي يوضح صلة الإنسان بالعالم، وأكمل وجود حلقة لاتنفصم بين الذات والموضوع، لأن العالم هو إسقاط من جانب الذات، والذات تُحقق الإنسان والعالم تحقيقًا موضوعيًا. وأخذ ميرلوبونتي الإنسان انطلاقًا من واقعه المعيش، فكرةً وجسدًا وعقلًا وعاطفة ووعيًا ولا وعي، محاولًا أن يجمع بين التجربة المعيشة والتأمل الفكري، وبناء على هذا الموقف طرح فلسفة الالتباس التي لاتريد أن تحلّ المشكلات بل أن تدرسها بعمق أكثر.

في علم النفس تأثر إلى حد كبير بنظرية الجشتالت، التي تقرر أن الجشتالت “الكلّ” معطى ظاهري مع العناصر مباشرة، ومقولتها الأساسية تتلخص في أن مجموع العلاقات بين العناصر ليس هو بعينه خاصية الكلّ؛ معارضة بذلك مذهب الترابطيين الذين يرون أن مجموع العناصر يساوي صفة الشكل الكلي. ويرى ميرلوبونتي أن الفلسفة هي علم وصفي لأحوال الشعور، ولم يأخذ بفكرة الاختزال الظواهري عند هوسرل، على الرغم من أنها نقطة أساسية في المذهب الفينومينولوجي لكنه يأخذ بفكرة القصدية التي ترى أن الشعور تجاوز مستمر لنفسه، والمكان الأصيل لهذا التجاوز هو الإدراك الحسي، ويهاجم بشدة رأي علم النفس التقليدي في الإدراك الحسي لكونه قائمًا على أساس معطيات حسية محضة. ومن هنا فإن نظريته في الحرية الإنسانية تعتمد على نموها من خلال العمل التاريخي، والحرية متضمنة في قدرة الشعور الإنساني على موضعة مواقفه في سياق من تصرفات الفعل الممكنة، ويختلف مع سارتر في أن الحرية لا يمكن أن تكون شاملة وكلية، إنما تكتسب تدريجيًا، وتعدّ المعاني المقررة جماعيًا نقطة انطلاق.

وتُعدّ فلسفة ميرلوبونتي الجمالية خلاصة التحليل الفينومينولوجي للإدراك الحسي بوصفه رؤية للعالم والأشياء، لا ينفصل فيهما الذهن عن البدن أو المتخيل عن المحسوس أو اللامرئي عن المرئي، مما يجعل الفلسفة الجمالية فلسفة في معنى الرؤية ذاتها، بمعنى أن الرؤية هي موضوعها سواء أكانت الرؤية إبداعية من جانب الفنان أم رؤية المتلقي للعمل الفني، فالرؤية هي انفتاح على الأشياء أو عين حضور الأشياء ذاتها، وإنها ليست نمطًا من التفكير، إنما هي مجال من مجالات الجسد كاللمس والإحساس، ويبدأ الإدراك الحسي أولًا بالرؤية انطلاقًا من السطح المحسوس، ومن ثم تتوغل داخله، فالإنسان يدرك أولًا العالم المحسوس ثم يتجاوزه دون أن يتخلى عن الرؤية ذاتها، واستطاع ميرلوبونتي بذلك أن يتجاوز المناقشات العقيمة حول الإبداع بوصفه نتاجًا لعبقرية ما، مؤكدًا العلاقة التبادلية بين الرائي والمرئي وخبرة الفنان، فالفن هو نتيجة احتكاك الفنان بعالمه، وهو يعير جسده للعالم محولًا العالم إلى رؤية حيث تكمن العملية الأكثر أهمية، وهي إعادة اهتداء الفنان إلى جسده بعد أن وزعه على العالم فيكتمل الجسر بين الفنان والعالم، وهذا الجسر هو الفاعل الحقيقي في العملية الفنية.

يخوض ميرلوبونتي معركة عنيفة مع الماركسيّين الفرنسيين الذين هاجموا المذهب الظواهري، لكنه على لرغم من ذلك لم يصل إلى الرفض المطلق للماركسية، ويرى أنه على الماركسية أن تُنقذ الوجودية من أزماتها، لا أن تخنقها وتقضي عليها .

عن المصري اليوم