الحياة الأجتماعية للملك فيصل الأول

الحياة الأجتماعية للملك فيصل الأول

وديان حيدر الدلفي

اتسمت حياة الملك فيصل الاول الاجتماعية بالتواضع الاجتماعي داخل العائلة المالكة وخارجها, وكانت تفاصيل حياته اليومية تتصف بالتنظيم والترتيب العالي والذي يبرمج حياته اليومية على وفق مهامه الكبيرة بكونه ملكاً يقود دولة فتية جديدة تحتاج إلى كثير من القضايا المهمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية,

الأمر الذي تحتم على الملك فيصل أن يجعل حياته اليومية وتفاصيلها تتناسب مع هذه المهام الثقيلة, وهو يعد غريب عن هذه الأمة ولم يطلع على واقعها الاجتماعي والسياسي, لذلك كانت حياته الاجتماعية (وهو ما سنركز عليه) بعيدة عن التفاصيل السياسية والاقتصادية التي تناولتها كثير من الدراسات البحثية والأكاديمية.

يستيقظ الملك فيصل من نومه عند الساعة الخامسة صباحاً من كل يوم ليؤدي صلاة الفجر, وبعدها يستحم ويتزين ويقوم بتناول فطوره, حيث كان الفطور البسيط يقتصر على جبن وزبد وكوب الشاي, وفي الساعة السابعة صباحاً يغادر قصره باتجاه البلاط الملكي فيباشر أعماله المعتادة بدراسة الملفات والأوراق والتقارير الرسمية وكذلك الرسائل والعرائض, وينظر إليها بعناية ودقة, ثم يقوم بقراءة الصحف وخاصةً المصرية ويطلع على جميع ما تكتبه عن العراق والدول العربية, كما ترفع إليه قصاصات من الصحف الأوربية ليقرأهاوفي الساعة العاشرة يبدأ الملك باستقبال الزائرين بعد أن يقدمهم إليه رئيس التشريفات, وعند دخول الضيف يكون الملك واقفاً لاستقباله ويأمرهم بالجلوس إلى جانب مكتبه, ويبدأ حديثه مع الضيوف ويختمه حين ينظر الملك إلى ساعته يدرك الضيف أن الحديث انتهى, وقد خصص الملك يومين لاستقبال الضيوف على اختلاف طبقاتهم.

كان الملك فيصل مولعاًبالألعاب الرياضية فكانت أكثر الألعاب التي يمارسها يومياً لعبة التنس, فضلاً عن ذلك كان مولعاً بقيادة السيارة ويعتبرها من أفضل ضروب الرياضة, فقد عرف عن الملك بساطته, فكان لا يحب المظاهر لذلك نراه يركب سيارته الخصوصية لكي لا يعرفه أحد, وعندما يقرر الذهاب إلىإحدى الحفلات الرسمية يخرج من البلاط إلى قصره الخاص بسيارته الخصوصية ثم يستقل من هناك سيارته الملكية إلى مكان الاحتفال, وكثيراً ما يقوم بقيادة سيارته بنفسه حتى في قلب العاصمة بغداد من دون أن يكون هناك إلى جانبه رجال شرطة, وقد عرف عن الملك فيصل أيضاًإنه صياد ماهر, فكان شغوفاً بالصيد والقنص كما كان يقضي أوقات راحته في ممارسته لعبة الشطرنج, وهي لعبة شائعة في الحجاز, كانت أسرته تمارسها بدون استثناء, وقد تعلم اللعبة منذ أن كان شاباً, وفي الساعة الواحدة ظهراً يقوم الملك بتناول الغداء في الدار التي خصصت قبل إكمال قصر الزهور.

كان طعام الملك بسيطاً يعتمد على نظام صحي, خاصةً بعد أن أصيب الملك فيصل بوعكة صحية في عام 1922, إذ كان الملك يشتكي باستمرار من ألم في أسفل الظهر من جهة اليمين, حتى ان درجة حرارته كانت تصل في بعض الحالاتإلى 39 درجة الأمر الذي اضطر في حينها إلى الرقود والراحة ثم نقله إلىالمستشفى للعلاج ومعرفة الأسباب, وبعد إجراء التحليلات والإجراءات الطبية ظهر أن الملك مصاب بالتهاب الزائدة الدودية, وتقرر على ضوء ذلك إجراء عملية جراحية فورية, وتمإجراء العملية من قبل الفريق الطبي الذي اشرف على العملية, ومتابعة مباشرةً من قبل وزير الصحة, حتى بدأت صحة الملك تتحسن,وكانت توصية الفريق الطبي على ضرورة لزوم الراحة, للملك لمدة أسبوعين أو ثلاثة, كي تستقر حالته الصحية ومن ثم يمكن أن يمارس نشاطه اليومي.

اعتاد الملك فيصل أداء صلاة الجمعة في جامع السراي القريب من مقر الحكومة في السراي, وكان عادةً يصحب معه في ذلك ولده الأمير غازي, يذكر أن وزارة الأوقاف قد خصصت عشرة آلاف روبيةلتكبير هذا الجامع كي يكون لائقاً ومناسباً لإداء الملك ورجال الحكومة الصلاة فيه أيام الجمع والمناسبات والأعياد. وقد حرص على مشاركة أبناء شعبه من مختلف المذاهب مناسباتهم الدينية من خلال حضوره لمجالس العزاء الحسيني التي تقام في شهر محرم الحرام, ففي بداية توليه الحكم حضر في العاشر من محرم من العام 1921 مجلس عزاء في مدينة الكاظمية, وبعد انتهاء المجلس طلب من كليدار الروضة الكاظمية أن يقيم مجلس عزاء لمدة عشرة ايام في الصحن الكاظمي باسمه وعلى نفقته الخاصة, كما تروي السيدة بديعة إنه في أحد الأيام كان والدها الملك علي يقف في شرفة القصر مع شقيقه الملك فيصل في انتظار استقبال موكب حسيني قادم من منطقة العباسية في كرادة مريم في أيام عاشوراء, فكان والدي كما تقول يضرب بكفه على صدره مواسياً الموكب المار مع الملك فيصل فسألته أن يكف عن ذلك فأجابها "أنا من العائلة العلوية الهاشمية وجدي الإمام الحسين", فكان الملك فيصل يحترم طقوسالأهالي وتقاليدهم في العراق, ففي إحدى السنوات صادف عيد تتويج الملك في شهر محرم الأمر الذي دفعه إلى أن يصدر ارادة ملكية بصرف النظر عن مراسيم التتويج والاحتفال وذلك لحرمة شهر محرم.

بدأ الملك فيصل منذ ربيع عام 1925 يفقد جزءاً من وزنه بعد أن كانت صحته طيلة المدة السابقة جيدة, وبدأت شهيته للطعام تضعف, وكان يشكو دائماً من سوء الهضم ما اضطر طبيب العائلة سندرس باشا, أن يعرض على الملك ضرورة السفر إلى لندن لإجراء بعض الفحوصات والتحاليل لمعرفة السبب, رفض الملك أول الامر هذاالإجراء, لكنه وافق بعد ذلك,وسافر الملك إلى لندن ونزل في فندق (هايدك بارك) وطلب من مدير الفندق بعدم السماح للزائرين الدخول إلى مقر الملك للاطمئنان على صحته.

اتصل الطبيب سندرس باشا بالدكتور كلفوردوبيل أحد أبرز الاطباء المختصين في البحث الطبي, وعرض له حالة الملك فيصل وما هي إجراؤها الطبية الواجب إجراؤها للحفاظ على صحة الملك وعلاجه من حالته التي يعاني منها وبعد مدة اتصل الدكتور كلفورد بالدكتور سندرس يخبره إنه يستطع تحضير دواء مضاد لمرض الملك (الدزانتريالاميبيي) الذي يعاني منه الملك فكان ذلك خبراً ساراً للجميع.

قبل عودة الملك إلى بغداد وبعد شفائه من المرض, وجهت له أكثر من دعوة رسمية من قبل مسؤولين دول أوربا لزيارة المدن فانتهز الملك هذه الفرصة لزيارة بعض مدن بريطانيا والقيام بجولات سياحية والتسوق من مراكزها التجارية, فقد اشترى الملك عدداً كبيراً من البضائع والهدايا لأفراد عائلته حتى قام بشراء بعض الأثاث لمنزله, وكما تشير المصادر إلى أن الملك قام بشراء سيارة نوع (بيبي أوستن) للأمير غازي, فغادر الملك فيصل لندن يوم 9 تشرين الأول 1925, متوجهاً إلى فرنسا ليقضي فيها اسبوعين لغرض الراحة والسياحة وقد زار خلالها بعض المرافق السياحية كمتحف اللوفر, وبرج إيفل, وزار بعض أسواقها, وغادر الملك فيصل فرنسا إلى بغداد في يوم 11 تشرين الثاني 1925 في الساعة التاسعة صباحاً, استعدت بغداد لاستقبال ملكها الذي غاب عنها مدة ثلاثة أشهر للعلاج والشفاء من مرضه وقد تجمع الأهالي لهذا اليوم, وعند نزول الملك من الطائرة كان في استقباله ولده الأمير غازي والأمير زيد والسير هنري دوبس مارشال الجو السير جون هنجنز وعبد المحسن السعدون رئيس الحكومة وأعضاء الوزارة, وبقي الملك فيصل ساعتين يستقبل الحشد الهائل من الأهالي لتقديم التهاني إليه بعد تماثله للشفاء.

ومن المهم أن نشير هنا, أن كل الدلائل تشير إلى إن الملك فيصل عمل بتجرد كبير ونزاهة ذاتية يشهد له الجميع إثناء حكمه, وهذه الصفة عرفت به ليس خلال توليه عرش العراق بل قبل ذلك, والدليل على ذلك هو إن الملك فيصل حول عام 1927 حوالي 162 باون ثمناً عن بدلاته الثلاثة الى لندن.

وتكشف لنا الوثائق أيضاً بعض مصاريف الملك فيصل خلال فترة توليه العرش في العراق, فمثلاً ما تم صرفه على البلاط الملكي في شهر كانون الثاني عام 1931 من الصحون من الحجم الصغير 75,4 روبية أي حوالي ستة دنانير, ومن الصحون الحجم الكبير 37,7 روبية أي حوالي ثلاثة دنانير, ومن اللبن 16,4 روبية أي أقل من دينار وربع, ومن الزبد 16,5 روبية.

عن رسالة (الحياة الاجتماعية للعائلة المالكة في العراق 1921-1958)