في 20 مايس 1932.. (طاغور ) شاعر نوبل في بغدا د

في 20 مايس 1932.. (طاغور ) شاعر نوبل في بغدا د

صادق الطائي

كانت ثلاثينيات القرن الماضي عقدا واعدا في حياة المملكة العراقية الوليدة، رغم الاضطرابات، والتمردات القبلية، والمعاهدات، المسيئة منها أو المفيدة للعراق، إلا إن هذ العقد شهد مولد الأمة العراقية المستقلة، إذ كان العراق أول دولة تخرج من إطار الانتداب وتحظى بالموافقة الدولية على الانضمام لعصبة الأمم كدولة مستقلة في أكتوبر/تشرين الأول 1932، وكان لحصافة الملك المؤسس فيصل بن الحسين الدور الكبير في ما وصل إليه حال العراق حينها.

فقد قدّم العراق بناء على توصية البرلمان في 5 مايو/أيار 1932 طلبا لعصبة الأمم لإنهاء الانتداب، لأن البلد أصبح مهيئا لأن يحظى بسيادته كاملة، وكانت بريطانيا قد وعدت حكومة نوري السعيد الأولى، إذا تم توقيع معاهدة 1930 أن تسعى لإنهاء الانتداب وإدخال العراق عصبة الأمم.

وفي شهر مايو من العام نفسه، كان رابندرات طاغور، شاعر الهند الأكبر، وأول أديب من الشرق يمنح جائزة نوبل للآداب عام 1913، كان في زيارة لطهران هو والوفد المرافق له تلبية لدعوة شاه إيران رضا بهلوي، الذي كان يمهد الطريق أمام مملكته للدخول إلى عصر الحداثة، بخطوات كبيرة مقتديا بتركيا أتاتورك، وما حققته حتى ذلك الحين. يبدو إن أحد مستشاري الملك فيصل الأول أشار عليه باستثمار الفرصة، وتوجيه الدعوة لشاعر نوبل الكبير رابندرات طاغور لزيارة بغداد، عاصمة المملكة، التي تتحضر للدخول إلى مصاف الأمم المستقلة في عصبة الأمم، وهذا ما تم فعلا، إذ غادر رابندرات طاغور طهران بعد أيام من احتفاله بعيد ميلاده الحادي والسبعين في 6 مايو، وتوجه من إيران إلى العراق عن طريق الحدود البرية في مدينة خانقين التي وصلها في 19 مايو، ومنها انتقل إلى بغداد بالقطار، وكان برفقته زوجة ابنه براتيما ديفي، والشاعران الهنديان آميا شكرافارتي وكدرناث شاتيرجي.

رابندرات طاغور، وحسب الكتب التي أوردت محطات من سيرته، ولد في قصر جوروسنكو الشامخ في مدينة كلكتا عام 1861 لعائلة من طبقة البراهمة، من حكماء الأوبنشاد الصوفية الهندوسية، أبوه دافندرانات طاغور، كان سليل أسرة هندية نبيلة عريقة، وكان رابندرا، ويعني الشمس، أصغر أخوته السبعة، تربى في قصر والده تربية النبلاء، وتعلم اللغة والأدب والفلسفة في قصر والده، جريا على عادة نبلاء القوم، الذين لم يكونوا يرسلون أولادهم لمدارس العامة. كتب طاغور الشعر والقصة والرواية والمقالة، كما كان موسيقيا لحن آلاف الأغاني التي كتبها، وتنوعت اهتماماته بين الثقافة والفلسفة والأديان، فكان موسوعيا ملما بمختلف الآداب والعلوم، ارتحل شابا إلى بريطانيا لدراسة القانون، لكنه لم يتم دراسته، وعاد إلى الهند وقد أجاد اللغة الإنكليزية، وترجم بعد ذلك بعضا من أشعاره وكتاباته، التي كان يكتبها باللغة البنغالية، إلى الإنكليزية، ما ساعد على انتشارها عالميا وترجمتها إلى الكثير من اللغات الحية، وقد حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1913، كأول أديب من الشرق يحصل على هذه الجائزة.

وربما رسم الأديب الفرنسي رومان رولان أمتع صورة لطاغور، عندما كتب عنه بعد لقاء جمعهما؛ «حين تقترب من طاغور، يخالجك شعور بأنك في معبد، فتتكلم بصوت خفيض، وإن أتيح لك بعد هذا أن تتملى قسمات وجهه الدقيقة الأبية، فإنك واجد خلف موسيقى خطوطها وطمأنينتها الأحزان التي تهيمن عليها، والنظرات التي لم يداخلها الوهم، والذكاء الجريء الذي يواجه صراع الحياة في ثبات».

من سيستقبل شاعر الهند والوفد المرافق له في خانقين؟ بالتأكيد سيكون الخيار شاعر العراق جميل صدقي الزهاوي، وقد رافقه عدد من الشخصيات الرسمية والأدبية، واصطحب الوفد العراقي الوفد الهندي من خانقين إلى بغداد بعربة قطار، وصلت المحطة العالمية في مركز بغداد، ليجدوا في استقبالهم جمهورا متنوعا على رأسه وزير الدفاع جعفر باشا العسكري، ورئيس مجلس الأعيان السيد محمد الصدر والشيخ محمد بهجت الأثري والشاعر معروف الرصافي والصحافي نوري ثابت وآخرون، وتم الانتقال بالوفد الهندي إلى مقر إقامتهم في فندق «قصر دجلة Tigris Palace « في شارع الرشيد، الذي تطل خلفيته على نهر دجلة.

كتب صباح الناصري، تتبعا لزيارة طاغور للعراق معتمدا على كتابه «رحلة إلى بلاد فارس والعراق»، الذي وصف فيه طاغور رحلته عام 1932، فذكر الناصري أن، الاستقبال الرسمي لشاعر الهند والوفد المرافق له كان ظهر اليوم التالي 20 مايو في القصر الملكي، إذ استقبل ملك العراق فيصل الأول شاعر نوبل رابندرات طاغور، وقد حضر اللقاء الملك علي بن الحسين ملك الحجاز الأسبق، الذي كان حينها لاجئا في العراق، ونوري السعيد رئيس الوزراء، ومحمد الصدر رئيس مجلس الأعيان، وجعفر العسكري وزير الدفاع، بالإضافة إلى شخصيات رسمية أخرى، وقد أقام ملك العراق، وليمة غداء على شرف الضيوف، بينما قرأ شاعر الهند قصيدة مهداة للملك فيصل الأول، وفي أثناء تبادل الأحاديث بين الملك والشاعر الضيف، أبلغه الأخير برغبته في زيارة بدو العراق، وبالفعل تم ترتيب الأمر في اليوم التالي.

زار طاغور مضارب بني تميم في ضواحي بغداد، في ناحية عقرقوف، التي لا تبعد عن بغداد سوى 25 كم، إلا انها كانت حينذاك تعتبر بادية جرداء، واستقبله الشيخ حسن السهيل، شيخ مشايخ تميم في مضيفه البدوي، المكون من خيمة كبيرة، وتناول طاغور والضيوف طعام الغداء المطبوخ على الطريقة البدوية، والمكون من الثريد واللحم المسلوق، وقد رافقه في رحلته هذه فاضل الجمالي السياسي العراقي الذي سيصبح لاحقا رئيسا للوزراء. الأيام التالية من إقامة رابندرات طاغور في بغداد، التي استمرت حوالي أسبوعين كانت حافلة بالنشاطات، إذ انهالت الدعوات على الضيوف من جهات متنوعة ومختلفة، فقد أقام رئيس الوزراء نوري السعيد حفلا على شرف شاعر نوبل في حدائق أمانة العاصمة، حضرها رجال السياسية والثقافة والصحافة، كما حضرها عدد من رجال السلك الدبلوماسي العاملين في العراق، فقرأ معروف الرصافي قصيدة فلسفية، ترحيبا بفيلسوف الهند، كانت بعنوان «الحقيقة المطلقة» مطلعها:

ما للحقيقةِ من بداية كلا، وليس لها نهاية

كما قرأ جميل صدقي الزهاوي قصيدة رحب فيها بطاغور في العراق، بينما تجرأ محمد بهجت الأثري وقرأ قصيدة ذات طابع سياسي، انتقد فيها معاهدة 1930 مع بريطانيا، فيما قرأ طاغور ردا على قصائد الترحيب بعضا من قصائده باللغة البنغالية، وأتبعها بالترجمة الإنكليزية، لتتم بعد ذلك قراءة الترجمة العربية.

كما زار شاعر نوبل المؤسسات التعليمية في العراق نتيجة اهتمامه بالتعليم، كما لبى دعوة وزير التربية عبد الحسين الجلبي، التي أقامها على شرف الوفد الهندي، وطلب الشاعر الضيف أن يشاهد مؤسسات تعليم الفتيات، لأن ذلك في نظره يمثل المعيار الحقيقي للنهوض بالأمم، فرتبت لشاعر نوبل زيارة لدار المعلمات، قدم فيها محاضرة عن التعليم الحر. وكانت دعوة الوداع للشاعر رابندرات طاغور والوفد المرافق له في قصر الشابندر المطل على نهر دجلة، في محلة السفينة في الأعظمية، حضرها عـدد مـن الأدباء والشعراء والصحافيين، وقرأ فيها إبراهيم حلمي العمر وأنور شاؤول، كلمتين بالمناسبة. ومما يذكر إن طاغور، وهو ملحن وموسيقي، أراد أن يستمع للموسيقى والغناء العراقي، فكان له ذلك إذ غنت في إحدى الدعوات المطربة العراقية الست جليلة بعض الأغنيات العراقية، كما أسمعه الفنان محمد القبانجي أنماطا من المقام العراقي. وقيل إن طاغور قرأ قصيدة رقيقة مطلعها (يا بلبل غني الجيرانا .. غني وتفنن ألحانا) أعجبت الشاعر جميل الزهاوي الذي ترجمها، وأسمعها للملحن العراقي صالح الكويتي، الذي سارع إلى تلحينها، لتغنيها مطربته المفضلة زكية جورج ليذيع بعد ذلك صيت الأغنية وتشتهر ويغنيها العديد من مطربي العراق ودول الخليج.وقد أصيب فيلسوف الهند بموجة من المرارة والحزن التي رسخت عميقا في روحه أثر استماعه لحديث قس أنجليكاني بريطاني يعمل في القوة الجوية الملكية البريطانية، الذي حدثه عن الغارات التي تنفذها طائرات البريطانيين لقمع تمردات القبائل في جنوب وشمال العراق في تلك الأيام، فكتب طاغور في كتابه مقطعا ترجمه صباح الناصري قال فيه، «هناك يُقتل رجال ونساء وأطفال، يلاقون حتفهم بقرارات تصدرها سلطات الإمبريالية البريطانية العليا، التي يسهل عليها أن ترش الموت على من لا تراهم لبعدهم الجغرافي عنها.

ويبدو هؤلاء الذيـن لا يحسنون فن القتل الحديث ضعفاء لا قيمة لهم في أعين الذين يمجدون مهارتهم في القتل». غادر شاعر نوبل والوفد المرافق له بغداد على متن إحدى الطائرات الهولندية التي نقلتهم من مطار بغداد إلى كلكتا في الأول من يونيو/حزيران من عام استقلال العراق.

عن صحيفة ( القدس العربي )