جليل كمال الدين وداعاً أيها العبقري الذي لم يعرف قيمة نفسه

جليل كمال الدين وداعاً أيها العبقري الذي لم يعرف قيمة نفسه

د.ضياء نافع

طلب مني المرحوم الاستاذ الدكتور جليل كمال الدين قبل حوالي عشر سنوات في بغداد ان اساهم بكلمة في حفل تكريم اقامته له وزارة الثقافة , فاشترطت عليه ان اتكلم عن جوانبه الايجابية والسلبية معا , فقهقه واجابني ضاحكا بانه يسحب طلبه هذا , واكتب اليوم هذه السطور ليس فقط بسبب طلب من صديقي المحرر الثقافي للمدى الاستاذ علاء المفرجي ,

ولا انطلاقا من القول الكريم المعروف – اذكروا محاسن موتاكم , بل اكتبها ايضا و فعلا من كل قلبي , لان جليل كمال الدين ( 1930 – 2014 ) كان جزءا لا يتجزأ طوال اكثـر من خمسين سنة الماضية من مسيرة حياتي.

منذ ان قرأت له مقالة في مجلة الآداب البيروتية المعروفة في الخمسينات , وذلك ايام العراق الملكي – عندما كنت انا تلميذا في المدرسة - عن معرض الفن العراقي الحديث و تحليلاته و اهمية لوحات جواد سليم وقيمتها وبقية الفنانين التشكيليين العراقيين الكبار في مدرسة بغداد الفنية , وعبر برقيته الشهيرة , التي اذيعت في صبيحة 14 تموز 1958 من اذاعة بغدادبتوقيعه وتوقيع رشدي العامل تأييدا لثورة تموز آنذاك وباسم ادباء العراقوقد استمعت اليها شخصيا عندها ولا زالت ترن في اذني , ثم نشاطه الثقافي الانفجاري الهائل والكبير بعد ذلك ومقالاته المتنوعة في الصحف والمجلات العراقية اليسارية واصداره – اظن مع ناظم توفيق – ترجمته عن الانكليزية لكتاب ماوتسي تونغ حول تفتح مئة زهرة , وعن ترجمته فئران ورجال روايةالكاتب الامريكي شتاينبك , ثم جاءت قضية اعتقاله من قبل سلطات عبد الكريم قاسم , وغضب الجواهري– رئيس اتحاد الادباء عندها - على قاسم نفسه وخصامه ومناقشته الحامية الوطيس كما يقال مع عبد الكريم قاسم وهو في اوج عظمته وتوهجه نتيجة اعتقال الكاتب جليل كمال الدين الذي اراد ان يقول في مقالاته بضرورة اعدام هؤلاء الذين يقفون ضد قاسم , وبقية الاحداث المعروفة لذلك الجيل المعاصر لتلك الايام ... وعندما سافرت من العراق عام 1959 للدراسة في الاتحاد السوفيتي , كان جليل كمال الدين الذي لم اتعرف اليه شخصيا – اسطورة ثقافية بالنسبة لي ليس الا , وقابلته في جامعة موسكو اوائل الستينات , وكنت عندها طالبا في الدراسات الاولية وكان هو طالبا في نفس الكلية ولكن في قسم الدراسات العليا , وهكذا بدأ تعارفنا واستمرت علاقات الزمالة والصداقة في قسم اللغة الروسية بكلية الاداب في جامعة بغداد ثم في كلية اللغات , ثم في منطقة سكننا المشترك في حي الكفاءات ببغداد والى حين افتراقنا قبل سنوات قليلة ليس الا , عند سفري الى روسيا عام 2006 , وقد حاولت الاتصال به هاتفيا عندما علمت بمرضه في السنوات الاخيرة , وتحدثنا قليلا , ولكنه لم يستطع الكلام بشكل طبيعي آنذاك , وتابعت أخباره , وعلمت بوفاته وحزنت جدا لذلك . ان الكتابة عن جليل كمال الدين تتطلب التوقف عند محطات متعددة جدا ومتشعبة في الفكر العراقي المعاصر والاحداث السياسية التي مرت في بلادنا , منذ اعتقال شاكر خصباك في الحلة لان الشرطة اعتبرته جليل كمال الدين الذي كان لولب المظاهرات آنذاك ,وعبر طرده من جامعة بغداد وسجنه لاسباب سياسية , ثم رجوعه للجامعة وتخرجه من قسم اللغة الانكليزية ثم سفره الى موسكو للدراسة والتي بقي فيها عشر سنوات ورجوعه مرة اخرى الى جامعة بغداد للتدريس فيها ثم دخوله السجن مرة اخرى ثم عودته للتدريس في الجامعة , وصولا الى رواية الاستاذة الدكتورة حياة شرارة ( اذا الايام أغسقت ) والذي كان جليل كمال الدين احد ابطالها السلبيين , هذه المسيرة الحياتية الغريبة جعلت من جليل كمال الدين شخصية غريبة ايضا وبكل معنى الكلمة , لا يمكن ان تخضع للمقاييس النمطية في مجتمعنا ابدا , والذي أدٌت به ان يكون غريبا في نفس مجتمعه , ومتفردا في سلوكه وتصرفاته , وموسوعيا في كتاباته . ان الكلام عن جليل كمال الدين يعني الحديث عن الادب العربي وشخصياته المعاصرة مثل السياب والبياتي , ويعني الحديث عن الاتحاد السوفيتي والفكر الماركسي والادب الروسي مثل غوركي وغوغول وايتماتوف , ويعني الحديث عن الادب الامريكي مثل شتاينبك وفوكنر , ويعني الحديث عن الادب الانكليزي مثل شكسبيروتاثير الفكر العربي عليه وانعكاسه في ادبه , ويعني الحديث عن تاريخ بغداد والتراث العربي , ويعني الحديث عن الفلكلور العالمي ودور الامثال والحكم فيه ومواضيع اخرى مختلفة جدا . لقد قال احدهم له مرة , انه لو كان الامر بيديه لحبسه في غرفة مريحة تتوفر فيها كل مقومات الحياة الطبيعية شريطة ان يستلم منه شهريا كتابا او بحثا في موضوع فكري يحدده هو وينفذه جليل كمال الدين , ويمكن القول بانه فعلا عاش في الربع الاخير من حياته هكذا , منعزلا في مكتبته الخاصة الغنية جدا بالمصادر العربية والروسية ( هي اكبر مكتبة شخصية باللغة الروسية في العراق ) والانكليزيةمتنقلا بين زواياها الفكرية المختلفة , وقد دخلت عليه مرة وهو هناك وكان مشغولا جدا بوضع فهرس لعناوين جريدة الثورة – لسان حال حزب البعث - في سجل خاص , فتعجبت من هذا العمل وقلت له ان هذه الجريدة تطبع ربع مليون نسخة ويجري توزيعها في كل مكان في العراق وحتى خارجه , فمن الذي يحتاج الى عملك هذا ؟ فلم يتفق معي وقال انه لا يعرف شخصا يقوم بهذا العمل الارشيفي التاريخي الذي سيحتاجه المؤرخون يوما ما , اما عن مذكراته اليومية والتي بدأ يكتبها منذ ايام دراسته في موسكو واستمر مواظبا عليها طوال حياته , فانها بحد ذاتها تصلح ان تكون مادة ثرة للدراسة , اذ انه كان يسجل فيها كل التفاصيل التي كانت تحيط به وماذا قرأ وماذا سمع وما الذي قال له فلان وفستان وماذا أذاع راديو بغداد ومحطة البي بي سي من لندن ووو كل هذه التفاصيل يوميا , ولم يكن يسمح لاي شخص الاطلاع عليها بتاتا , ويمكن القول ان هذه اليوميات كانت صديقه الوحيد الذي يتحدث معه بصراحة يوميا ويأتمنه ويسليه ويعكس مزاجه اليومي , وكم طلبت منه ان اطلع على بعض سطورها ولكنه رفض رفضا قاطعا . ان الحديث عن جليل كمال الدين يعني الحديث عن مأساة المثقف العراقي المعاصر في النصف الثاني من القرن العشرين الذي اضطرته الظروف الاجتماعية والسياسية للعراق ان يعاني الكثير الكثير ويصل بعض الاحيان الى حد انفصام الشخصية والانحدار الى قاع مظلم ومرعب من الكذب والخداع والنفاق والتظاهر بالاقتناع بما لا يؤمن به بتاتا والازدواجية والانشطار الذي يجلد الروح بسياط التعذيب النفسي, بل وحتى كتابة التقارير عن الاخرين . لقد كنت شاهدا على ما اقول الان , ورأيت كيف كان جليل يضحك ويرقص وكيف كان يبكي وكيف كان ينزوي بعيدا عن الاخرين ويتجنبهم . واخيرا اود ان اقدم للقارئ بعض المواضيع التي سجلتها في مسوداتي والتي اخطط لكتابتها عنه مستقبلا وهي - / جليل كمال الدين وغوركي / جليل كمال الدين والنقد الادبي الروسي في القرن التاسع عشر / جليل كمال الدين وغوغول / جليل كمال الدين وآيتماتوف / جليل كمال الدين والادب الروسي في العراق /جليل كمال الدين مترجما / رسائل الماجستير التي اشرف عليها جليل كمال الدين في قسم اللغة الروسية / وربما ستبرز مواضيع اخرى اثناء تنفيذ كل ذلك . وداعا يا جليل , ايها العبقري الذي لم يكن يعرف قدر نفسه ولا قيمتها , والذي كان يمكن ان يكون - كما قال الاستاذ الدكتور كمال مظهر احمد – شخصية فكرية موسوعية في العراق مثل سلامه موسى او العقاد في مصر, لو عرف كيف يتصرف...