فيلم الأب رحلة  في عقل  ضبابي

فيلم الأب رحلة في عقل ضبابي

ابراهيم البهرزي

لا يمكن لغير السير انتوني هوبكنز ان يؤدي هذا الدور بالمستوى الاستثنائي الذي اداه هوبكنز ،وكأنه وهو يتجاوز الثمانين من عمره يريد ان يقول لأكاديمية السينما الامريكية :هل من مبارز على الأوسكار غيري ؟

هذا الفيلم (انتاج 2021 وإخراج فلوريان زيلر عن مسرحية بنفس الاسم قدمت قبل ثماني سنوات وشارك مؤلفها كريستيان هامبتون مع المخرج زيلر في كتابة السيناريو لها ) هذا الفيلم ليس دراما طبية عن مرضى الزهايمر تقوم باستعراض مشاهد المفارقات والبؤس والإشفاق الذي تتركه مثل هذه الاعمال بقدر ما هي رحلة فولكنرية (نسبة للروائي الامريكي وليم فولكنر وأساليبه الروائية في استبطان عقول شخصياته المشوشة /شخصية بنجي مثلا في رواية الصخب والعنف / مع اختلاف نمط الشخصية عن شخصية الأب في هذا الفيلم ) يحاول المخرج من خلالها ان (يرينا ) حجم التشوش المدمر الذي يعانيه (عقل ) المصاب بهذا المرض ان الذين لديهم تجارب معايشة مع المصابين بهذا المرض سيعانون اشد مشاعر الالم وهم يتابعون الاختلاط والتشوش في الرؤية وفهم سياقات الواقع (رحلت والدتي بعد معاناة لبضع سنوات مع الزهايمر ما اضطرني لمشاهدة الفيلم لثلاث مرات بسبب انقطاعات البكاء ) ربما ليس لسارد الفيلم غير مشهدين حقيقيين فقط (مشهد انتوني هوبكنز حين تخبره ابنته الممثلة أوليفيا كولمان بنيتها السفر الى باريس وحاجتها للبحث عن ممرضة ترعاه بدلا عنها ،والمشهد الأخير لهوبكنز وهو يريد امه في دار الرعاية الاجتماعية ،وما بين هذا وذاك هي مشاهد يتخيلها هوبكنز وعقله المشوش استنادا لعواطفه المكتومة تجاه ابنته وزوجها وممرضة الرعاية ،مشاهد يتم التلاعب فيها بعقولنا ايضا حين نفاجأ بصورة الابنة نفسها باداء ممثلة اخرى (أوليفيا ويليامز ) او نشاهد صورة زوجها جيمس (الممثل روفوس سيويل) وهي يظهر تحت اسم اخر هو بول و في شخصية ممثل اخر (هو مارك جاتس ) وسيظهر كلاهما ايضا في المشهد الأخير بدور الممرض والممرضة !

وكذلك سنشاهد الممرضة التي ارتاح اليها تعود مرة اخرى بصورة ممثلة اخرى يرفض التعامل معها ان ما اراده المخرج زيلر القول هو : لا نحن الذين نتعايش مع مرضى الزهايمر ولاهم ، يدركون المسافة بين ماهو حقيقي في افكارهم وما هو مختلق او نتاج ذاكرة مضروبة بخلاط ٍ عنيف ان الاداء التدميري المرعب لأنتوني هوبكنز وهو يكشف لنا عن الاضمحلال التدريجي للعقل البشري المصاب بهذا المرض والذي يبدو صارما دقيقا حينا وهائما مشوشا حينا اخر ،سعيدا راقصا تارة ، وغاضبا منفعلا تارة اخرى ،هذا الاداء سيعتبر نوعا من الإعجاز لمن عايش مرضى الزهايمر عن قرب ،عمليات النكوص مابين ذاكرة طفولية وبين اوهام ربما كانت اماني او رغبات في حوار متقن ومحسوب دون هذيانات كما هو السائد في الأفلام التي تعالج هكذا حالات مرضية ، يمنح للمخرج وكاتب السيناريو المشارك زيلر ومؤلف المسرحية كريستون هامبتون نصيب العبقرية نفسه الذي كرس فيه السير انتوني هوبكنز موهبته الفذة في هذا الدور اضافة الى مجموعة الممثلين المساعدين أوليفيا كولمان واوليفيا ويليامز بالذات اضافة للظهور المرح للممثلة الجميلة ايموتي بوتس في دور الممرضة المرحة التي كسرت حدة التوتر الذهني الذي هيمن على الفيلم ، كما ان الموسيقى التصويرية التي وضعها لودفيكو اناودي بهيبتها الاوبرالية المخيفة والموجعة كانت اشد تعبيرا عن حجم الروح المدمرة التي عبر عنها هوبكنز والتي تجاوز في المشاهد الاخيرة من الفيلم فيها حتى عبقرية هوبكنز نفسها .