رسالة جيمس بالدوين في التحرر من العبودية

رسالة جيمس بالدوين في التحرر من العبودية

إيمان أسعد

نهاية عام 1962، في ذروة صراع حركة الحقوق المدنية ضد سياسة التمييز العنصري، و فيما كانت الولايات المتحدة الأميركية مقبلة على الاحتفاء بالذكرى المئوية الأولى على إعلان التحرر من العبودية الصادر في الأول من يناير من العام 1863، نشر الكاتب والمفكر الأميركي جيمس بالدوين مقالين في المجلات الأميركية:

«وجدران حبسي ارتجت» على مجلة ذا برؤريسف، و«المصلوب، رسالةٌ من منطقةٍ في عقلي» على مجلة نيويوركر. نال كلا المقالين حفاوةً بالغة وتم جمعهما في كتاب يحمل عنوان «وقت اندلاع النيران» عام 1963 والذي يعد من أهم الكتب التي تتناول بالتحليل مدى عمق جريمة العنصرية وفظاعتها ومسؤولية البيض المباشرة والمتعمدة عنها.

تناول الجزء الأول من الكتاب «وجدران حبسي ارتجَّت» رسالة يبعثها بالدوين إلى ابن أخيه وسميّه جيمس، البالغ من العمر آنذاك أربعة عشر عامًا. يتوجه في هذه الرسالة بالدوين إلى الرجل الأسود اليافع محذرًا إياه من مغبة الانحدار إلى مصير الكثير من الرجال السود وهو تصديق مسمى «الزنجي» وتكبيل هويته بقيود هذا المسمى، وكذلك من مغبة الخضوع لنار الغضب التي ستحرقه قبل أن تحرق سواه؛ إذ أنَّ السبيل لتحطيم قيود استعباد الأبيض لهويته يقبع في استعادة هويته السوداء والفخر بها وإدراكه ألا حدود هناك أمام حقه الإنساني في انتزاع حقوقه كاملة وتحقيق ذاته.

رسالةٌ إلى ابن أخي

عزيزي جيمس

شرعت في كتابة هذه الرسالة خمس مرات، وخمس مرات مزقتها. إذ ما أنفك أرى وجهك، وجهك الذي هو وجه أبيك ووجه أخي. ومثله، كبرتَ وأصبحتَ رجلًا قوي المراس، كئيبًا، حساسًا ومزاجيّا – مع ميلٍ واضح لأن تبدو قاسيًا لأنك لا تريد لأحد أن يظنك رقيق القلب. ولعلك ورثت هذا عن جدك، لا أدري، لكنك يقينًا أنت وأبوك تشبهانه جسمانيًا.

حسنٌ، هو ميتٌ الآن، ولم يتسنَّ له رؤيتك، وعاش حياةً بائسة؛ هزمته الحياة قبل أن يموت بدهرٍ طويل، لأنه في القلب من قلبه، قد صدَّق ما قاله البيض عنه. ولهذا أصبح رجل دين. أنا موقن أن أباك أخبرك شيئًا عما كانت عليه حاله.

لكنك لم تُبدِ لا أنت ولا أبوك أي ميلٍ للدين: فأنت حقًا ابن عصرٍ آخر، جزءٌ مما حدث مع نزوح السود من الإقطاعيات وقدومهم إلى ما أسماها إي. فرانكلين فرير «مدن الدمار». السبيل الوحيد إلى تدميرك هو في تصديقك أنك ما يدعوه العالم الأبيض بالزنجي. أقول لك هذا لأني أحبك، أرجوك، إياك أبدًا أن تنسى.

عرفتُ كليكما طوال حياتكما، حملت أباك بين ذراعي وعلى كتفيّ، قبلته وصفعت مؤخرته وراقبته يخطو خطواته الأولى. لا أدري إن سبق لك أن عرفت شخصًا مذ نشأته؛ إن حدث وأحببت شخصًا أمدًا طويلًا كهذا، رضيعًا ثم طفلًا، ثم رجلًا، حينها سترى الزمن والألم الإنساني والكدح من منظورٍ غريب. فأنا أبصر ما لا يراه أحدٌ من الآخرين كلما نظرت إلى وجه أبيك، إذ خلف وجه أبيك اليوم كل تلك الوجوه التي كانت له فيما مضى.

فليضحك، وسأرى القبو الذي لا يتذكره والبيت الذي لا يتذكره وأسمع في ضحكته اليوم ضحكته حين كان طفلًا. فليلعن، وسأتذكر وقوعه أسفل سلم القبو، وأسمع عواءه، وأتذكر، بألمٍ يعتصرني، دموعه التي انسابت، والتي مسحتها يدي ويد جدتك بكل سهولة. لكن لا يد الآن لها أن تمسح تلك الدموع الخفية التي يذرفها اليوم، تلك الدموع التي أسمعها في ضحكته وفي حديثه وفي غنائه.

أعرف ما الذي اقترفه العالم بحق أخي وكيف بالكاد نجا بجلده. وأعرف، ولهو الأشد هولًا، هذه الجريمة التي أتهم وطني ورجال وطني باقترافها، الجريمة التي لا أنا ولا الزمن ولا التاريخ سيغفرها لهم يومًا، أنهم دمروا وما زالوا يدمرون مئات الآلاف من الأرواح دون إدراكٍ منهم ولا رغبة منهم حتى في معرفة ما اقترفته أيديهم.

أجل، للمرء منا، بل على المرء منا، أن يسعى بكل ما أوتي من قوة لأن يكون قوي المراس وفلسفيًا فيما يتعلق بالدمار والموت، بما أنَّ هذا جل ما صنعته معظم البشرية مذ سمعنا بوجود الإنسان. (لكن تذكر: معظم البشرية ليست كل البشرية). لكن ليس من الجائز بمكان أن يدّعي صانعو هذا الخراب أنهم أيضًا أبرياء. فبراءتهم هذه هي البراءة التي تبيح الجريمة من الأساس.

والآن، سميّي العزيز، أولاء الأبرياء والأناس ذوو النوايا الطيبة، شركاؤك في الوطن، قد تسببوا في ولادتك في ظروف لا تختلف كثيرًا عن تلك الظروف التي وصفها تشارلز ديكنز لنا عن لندن قبل مئة عام، (أسمع جوقة الأبرياء تصيح «لا! ليس صحيحًا! كم أنت ناكرٌ ومرير!») لكني أكتب هذه الرسالة لك أنت، وفيها أحاول أن أخبرك شيئًا عن كيفية التعامل معهم، فمعظمهم لا يعرف حتى بوجودك. أعرف الظروف التي ولدت فيها، فأنا كنت هناك معك. شركاؤك في الوطن لم يكونوا معك، وحتى الآن لم يأتك أحدٌ منهم. جدتك أيضًا كانت هناك معك، ولا أحد اتهمها يومًا بأنها ناكرة ومريرة. وليت الأبرياء يطمئنون يومًا عليها. فليس من الصعوبة بمكان العثور عليها. لكن شركاءك في الوطن لا يعرفون حتى أنها موجودة، رغم أنها عملت في خدمتهم طوال حياتهم.

حسنٌ، أنت ولدت، وها أنت ذا قدمت، قبل خمسة عشر عامًا؛ ورغم أنَّ أباك وأمك وجدتك يتلفتون حولهم في الشوارع التي حملوك فيها، يحدقون في جدران البيت الذي أحضروك إليه، كان لديهم كل حق في أن يدخلوا بك بقلوب مثقلة بالهمّ، إلا أن قلوبهم ما كانت هكذا. إذ ها أنت ذا، جيمس الكبير، من سمي تيمنًا بي – كنت رضيعًا كبيرًا، على عكسي أنا – وها أنت ذا: محبوبٌ من الجميع.

أغدقوا عليك حبهم مذ كنت رضيعًا، حبًا قاسيًا وللأبد، كي يقوّوا عودك في مواجهة العالم متحجر القلب. تذكر هذا: أعرف كم يبدو العالم اليوم قاتمًا في عينيك. وحتى آنذاك بدا قاتمًا أيضًا، وكلنا ارتجفنا يومها. وما توقفنا مذ ذاك عن الارتجاف، لكن لولا أننا أحببنا بعضنا البعض لما نجا أحدٌ منا بحياته. والآن عليك أن تنجو لأننا جميعًا نحبك، وعليك أن تنجو لأجل أطفالك وأطفال أطفالك.

هذا الوطن البريء قد تقصَّد أن تولد في الأيتو حيث تقصَّد أيضًا أن تفنى فيه. دعني أقلها لك صراحةً ما الذي أعنيه بذلك، إذ هنا يكمن لب المسألة، جذور نزاعي مع وطني. ولدتَ حيث ولدت وواجهت المستقبل الذي تواجهه لأنك أسود، ولا لأي سببٍ آخر. وبذا، تقررت حدود طموحك ويتوقع منها أن تبقى على ما هي عليه للأبد. ولدتَ في مجتمع ما انفك يقول لك بوضوحٍ وحشي وبكل السبل الممكنة أنك لست سوى حثالة البشر ولا قيمة لك. مجتمعٌ لا يتوقع منك أن تطمح إلى الامتياز: بل يتوقع منك أن تتصالح مع واقع اعتياديتك. وأينما وليت وجهك، جيمس، على مر الوقت القصير الذي قضيته حتى الآن على هذه الأرض، يقال لك أين يسمح لك بالذهاب وما الذي يسمح لك بفعله (وكيف لك أن تفعله) وأين يسمح لك أن تعيش وممن يسمح لك بالزواج.

أعرف أنَّ شركاءك في الوطن لا يتفقون معي حول هذا الأمر، وأسمعهم يقولون، «علام مبالغاتك هذه». هم لا يعرفون هارلم، أنا أعرفها. وأنت تعرفها. ولا تأخذ بأي كلمة تقال لك، ولا حتى مني- لكن ثق في خبرتك في الحياة. إعرف جيدًا من أين أتيت. إن عرفت من أين أتيت، لا حدود ستحول بينك وبين الذهاب إلى حيث تريد. فكل تفصيل وكل رمز في حياتك إنما تعمدوا وضعه كي تصدق ما يقوله البيض عنك.

رجاءً حاول أن تضع في حسبانك أن ما يصدقونه، ما يفعلونه ويتسببون بتحملك إياه، ليس شاهدًا على دونيتك، بل شاهدٌ على عدم إنسانيتهم وخوفهم. رجاءً، عزيزي جيمس، حافظ على صفاء ذهنك في غمرة تلك العاصفة التي تمور هائجةً في رأسك الفتيّ، عن الواقع الكامن خلف تلك الكلمات: التقبل والاندماج. فلا سبب يدعوك إلى التمثل بالبيض ولا أساس البتة لافتراضهم الوقح أن عاتق تقبلك يقع عليهم. فالحقيقة المروعة، صديقي، هي أن عاتق تقبلهم يقع عليك أنت. وأنا أعني ذلك بمنتهى الجدية.

عليك أنت أن تتقبلهم وتتقبلهم بالحب. فلا أمل آخر يملكه أولاء الأبرياء. فهم في واقع الأمر ما زالوا عالقين في شراك التاريخ الذي لا يفهمونه؛ وإلى أن يفهموه، لن يكون بيدهم أبدًا التحرر منه. إذ توجب بهم التصديق لأعوام عديدة، ولأسباب لا حصر لها، أن الرجل الأسود أدنى من الرجل الأبيض. والعديد منهم مدركٌ عدم صوابية الأمر. لكنك كما ستكتشف لاحقًا، يصعُب على الناس جدًا العمل بالمبدأ الذي يؤمنون به. لأن العمل بالمبدأ التزام، وأن تلتزم يعني وضع نفسك في وجه الخطر.

وفي هذه الحال فالخطر الذي يجوس في عقول العديد من الأميركيين البيض هو خسارة هويتهم. حاول أن تتخيل كيف ستشعر لو أنك استيقظت ذات صباح ووجدت الشمس متوهجة والنجوم مشتعلة. لذعرت أيما ذعر لأنك وجدت نفسك خارج نظام الطبيعة. أي ثوران في الكون مرعب لأنه يصيب في مقتل إحساس الإنسان بواقعه.

حسنٌ، كان الرجل الأسود في عالم الرجل الأبيض بمثابة النجمة الثابتة، العمود الذي لا يتزحزح: ومع تحركه من مكانه، اهتزت الأرض والسماوات في أسسها. أما أنت، فلا تخف. قد أخبرتك أنهم تقصدوا فناءك في الأيتو، بألا تتعدى حدود التعاريف التي أقرها لك الرجل الأبيض، بألا يسمح لك بأن تنطق اسمك كاملًا وصحيحًا.

أنت والعديد منا، قد هزمنا هذه النية؛ وإثر قانونٍ مريع، مفارقة فظيعة، فأولاء الأبرياء من آمنوا أن بحبسهم إياك إنما قد أمنوا على أنفسهم، ها هم الآن يفقدون إدراكهم لواقعهم. ويظل أن أولاء الرجال هم إخوتك، إخوتك الصغار الضالون. وإن كانت كلمة الاندماج تعني شيئًا، فهذا ما تعنيه: أننا نحن، بالحب، سنجبر إخوتنا على رؤية أنفسهم على حقيقتها، الكف عن الهروب من الواقع والشروع في تغييره.

إذ لا تنسى أن هذا هو وطنك، صديقي، فلا تدعهم يدفعوا بك خارجه. فرجالٌ عظماء قد فعلوا صنائع عظيمة هنا و سيفعلونها مرةً أخرى. وبيدنا أن نجعل أميركا ما يتوجب بها حتمًا أن تكون عليه. وسيكون صعبًا، جيمس، لكنك تنحدر من جذعٍ قوي وصلب، من سلالة من قاطفي القطن ومشيّدي السدود وباني السكك الحديدية، من في وجه كل الاحتمالات المرعبة ضدهم، انتزعوا من أنياب الأسد كرامتهم العظيمة التي لا تمس.

وأنت تنحدر من سلالة طويلة من الشعراء العظام، بعضهم أعظم حتى من هومر. وأحدهم هو من قال، لحظة ظننتني مفقودًا للأبد، جدران حبسي ارتجت وقيودي هوت. أنت تعرف، وأنا أعرف، أن وطننا يحتفل بمئويته الأولى على التحرر من العبودية بمئة عام قبل أوانه الحقيقي. إذ لن نكون أحرارًا إلا إن هم تحرروا.

فليبارك الرب جيمس، وليُنعم عليك برعايته.

عن الموقع الالكتروني ثمانية