جيمس بولدوين .. عذوبة وقسوة في آن واحد..

جيمس بولدوين .. عذوبة وقسوة في آن واحد..

د.علي عبد الأمير صالح

ولد الكاتب الزنجي الأمريكي جيمس بولدوين في الثاني من آب عام 1942 وهو الابن الأول لعائلة فقيرة تضم تسعة أبناء كان والده كاهنا بروتستانتيا، وقد منع الفقر بولدوين من متابعة دراسته الجامعية فاكتفي بالتخرج في المدرسة الثانوية في حي هارلم بنيويورك.

أمضي ستة أعوام في مهن عديدة، ففي عام 1944 عمل نادلا في إحدي مقاهي نيويورك وكانت هذه المهنة محطة بارزة في حياة الكاتب وتركت بصمات واضحة في شخصيته الاجتماعية والأدبية فيما بعد. ففي خلال هذه الحقبة الزمنية ارتبط بعلاقة وثيقة بالكاتب الأمريكي الزنجي ريتشارد رايت الذي يعد رائدا من رواد الأدب الزنجي الأمريكي، من خلال عدد من الراويات أشهرها رواية : (أولاد العم توم).

عند ما بلغ بولدوين الرابعة والعشرين من عمره سافر إلي أوربا حيث أقام في باريس قرابة عشرة أعوام متواصلة. وعن هذه المرحلة الباريسية قال بولدين في ما بعد : لقد تعلمت في باريس كيف انضج وكيف اكتشف نفسي واحدد هويتي . والإقامة في باريس جعلت بولدوين يكرس نفسه نهائيا للكتابة والأدب والنضال بالكلمة.خلال هذه المدة الزمنية كتب روايتيه : (اذهب وأعلنها فوق الجبل) و (غرفة جيوفاني) إضافة إلي كتابه (ملاحظات ابن البلد) الذي يضم مقالات عدة. هذه الكتب الثلاثة رسخت مكانته الأدبية بين صفوف الكتاب الأمريكيين الشباب.وفي عام 1957،عاد إلي نيويورك.

في سنة 1961 أصدر بولدوين كتابه الرابع (لا أحد يعرف اسمي)، وهو مجموعة من المقالات اللامعة. هذا الكتاب جلب له سمعة كبيرة و أمسي معروفا لدي جماهير القراء كما انه استرعي اهتمام النقاد.

وفي العام التالي اصدر روايته (بلد آخر) التي نالت استحسانا مماثلا ولقيت هي الأخري رواجا كبيرا كما أثارت جدلا منقطع النظير لما حوته من مشاهد جنسية.

كتب بولدوين روايات أخري منها : (النار في المرة القادمة)، (قل لي كم مضي علي رحيل القطار)، و (مجازر في اطلنطا).

كما اصدر بولدوين عدة مجاميع قصصية منها (ذاهبا للقاء الرجل) التي نشرت عام 1966.إضافة إلي عدد من المسرحيات.

في أواخر عام 1987 مات جيمس بولدوين، وبوفاته خسرت أمريكا والعالم واحدا من ابرز أدباء هذا العصر.مات بولدوين، خذله قلبه؛ هذا القلب نفسه كاد يميت بولدوين منذ عشرين عاما. عندما تعرض لذبحة قلبية حادة وهو في لندن، في العام 1967، ويومها خرج بولدوين معافي من المستشفي ليصوغ تجربة الذبحة القلبية في رواية( قل لي كم مضي علي رحيل القطار) ، فجاءت واحدة من أروع القصص العالمي.

التفرقة العنصرية

احتل بولدوين مكان الصدارة بين روائيي أمريكا المعاصرين. وهو من ذلك الطراز من الكتاب الذين لا يكفون عن تشريح النفس البشرية والتوغل داخل أحراشها. فهو يتخذ من الرواية أداة حاسمة لمواجهة الواقع بكل بشاعته وقسوته. فالجنس والموت والشذوذ والتفرقة العنصرية والفقر والجريمة والبؤس، كلها نغمات رئيسة تتردد في جنبات رواياته. وهو لا يخجل من معالجة أي مضمون طالما أن هدفه هو اكتشاف الإنسان بكل صراعاته وتناقضاته.

إلا إن النقاد ظلموا بولدوين كثيرا فمنهم من اتهمه بالبورنوغرافية وخاصة عندما يعالج المواقف الجنسية الصريحة التي تقترب كثيرا من الأدب المكشوف. لا بل أن ناقدا مثل ستانلي ادجار هيمان أكد أن انكباب بولدوين علي وصف الجنس المكشوف لا يهدف إلي تشريح النفس البشرية ولكنه يرمي أساساً إلي الرواج التجاري. إن نظرة بولدوين القاتمة والقاسية التي لا تحاول أن تخفف من تناقضات الحياة المعاصرة وصرامتها وقسوتها هي التي حدت بالنقاد إلي اتخاذ هذه المواقف غير العادلة تجاه واحد من أهم كتاب أمريكا المعاصرين.

إن الجديد في أسلوب بولدوين الروائي هو انه لا يتعرض للجنس والشذوذ الجنسي حسب بل يلجأ في الوقت ذاته إلي اتخاذ أسلوب متزمت يتميز بالقسوة والصرامة التي لا ترحم كل الأفكار التقليدية التي تقسم البشر إلي عناصر وألوان. فهو يذهب بالقارئ إلي عالم وحشي رهيب تتحول فيه الرغبات الجنسية إلي آلام مروعة وكوابيس مستمرة. ذلك أن بولدوين يجبر قارئه علي مواجهة حقائق الحياة المرة بكل رهبتها وعنفها. فعلي الروائي أن يواجه عنف الواقع بعنف أشد منه. من هنا كانت نظرة بولدوين الفنية والفكرية تتميز بالجدة والحداثة والبعد عن التقليدية والتكرار. فالفن الروائي – في نظره – هو السلاح الذي يشهره الإنسان في مواجهة الواقع المرير.

ومما يمتاز به بولدوين إنه لم يلجأ إلي الوعظ الحماسي علي الرغم من أن المضمون قد يوحي إليه بالخطابة المباشرة دفاعا عن حقوق أبناء جلدته فقد وجد هو في الدفاع عن السود دفاعا عن البيض لأن الحياة والحب و الجنس، كلها عناصر لا تحتمل التجزئة أو التفرقة وقد تميزت تجربته الروائية بالخصوبة الإنسانية والثراء الفكري.

وبرغم القسوة الصارمة التي يعالج بها بولدوين الواقع المرير،فإننا نلمح عذوبة خفية وراء المواقف والشخصيات، فالحياة – علي الرغم من كل شئ – شئ رائع يستحق أن نمتلكه وان نحرص عليه بقدر الإمكان.

ليس هناك بطل زنجي يكمل دوره في قصته دون ان يدرك مرة علي الأقل وعلي نحو هام بأنه محتقر ومخيف أو انه ضائع ومنبوذ.

هو ذا كريمز بطل بولدوين في رواية اذهب وأعلنها فوق الجبل يقول: لقد كابد من اجل الهرب – من هذا الظلام، من هذه الجماعة- إلي ارض العيش العالية والبعيدة جدا. كان الخوف يطارده. خوف قاتل أكثر من أي خوف مر به، وبينما هو يدور ويدور في الظلام، بينما يئن ويتعثر ويحبو خلال الظلام، دون أن يجد يدا أو صوتا أو بابا. من هؤلاء؟ من هم؟ انهم المحتقرون والمرفوضون والمعدمون وحثالة الأرض، وكان هو في معيتهم وهم يكادون ان يبتلعوا روحه . ويقول ليو بردوهامر بطل بولدوين في رواية (قل لي كم مضي علي رحيل القطار) : شيء غريب جري لي، جري في أعماقي. تذكرت أفريقيا. تذكرت أن الأفارقة يعتقدون بأن الموت هو عودة إلي الأسلاف،والتوحد من جديد مع الذين أحببناهم. قفزوا من سفن الرقيق، شاكرين الماء الذي غمرهم، شاكرين أيضا أسنان سمك القرش التي جعلت رحلتهم إلي الوطن سريعة جدا. ثم تذكرت رجلا عظيما جدا وجميلا جدا، عرفته، أحببته حبا جما، رجلا اسود، قتل علي مسمع من زوجته وأطفاله، في شوارع مدينة بائسة من مدن أقصي الجنوب .

وفي الرواية ذاتها يسأل ليو أخاه الذي يكبره بسبعة أعوام كاليب، هل البيض بشر؟

فيرد عليه : ماذا عساك تقول يا ليو؟

اعني – هل القوم البيض – بشر. هل هم بشر مثلنا؟

نظر اليّ . وجهه حزين وغريب جدا. كان وجها مختلفا لم أره من قبل. ارتقينا درجات قلائل أخري، ببطء شديد. ثم أجابني قائلا: كل ما أود ان أخبرك به يا ليو هو – حسن،هم لا يظنون أنهم بشر مثلنا . وفي سياق آخر يقول بولدوين علي لسان كاليب برودهامر : هم يعتبرون السود جميعاً مجرد براز. تذكر ذلك دوماً. أنت أسود مثلي وهم سيكرهونك ما دمت حياً لمجرد كونك أسود. هم غير طبيعيين. هم مصابون بمرض معين. أتمني أن يخلصنا الله منهم جميعاً . يروي كاليب لأخيه ليو قائلاً: يا الهي، أنت تعرف، في الحرب يموت الناس من حولك، يموتون في لمح البصر، يموتون ميتة أسوأ من ميتة الكلاب. يا إلهي، ليو، تتحدث أنت إلي الجندي قربك، وبعد دقيقة ترفع بصرك إليه فإذا برأسه طار بعيدً. أما جسده فلا أحد يدري أين إلا الله .

العويل والنواح

ومن ثم يقول: كنت في العتمة، آنذاك، اعرف أن الله سيغفر لي. كنت أطلق النار لأنني جندي، وكانوا هم يطلقون علي النار أيضاً. فوق أديم هذه الأرض الجميلة كنا نقاتل، هذه الأرض الجميلة التي وهبها الله للبشر كي يستطيعوا أن يبتهجوا وان يكون سعيهم مثمرا وان يتكاثروا، وهبهم الله هذه الأرض كي يسبحوا باسمه، لم يكن فوق أديمها غير الجثث والأشلاء التي تكدست كالحطب، لا شيء غير انفجارات القنابل والصراخ والعويل والنواح والخوف من الموت وشبح الموت والموت الذي يحيط بك من كل حدب وصوب، إلي يمينك، والي شمالك.. فكرت بالعودة يوما إلي تلك الأماكن التي عشنا فيها، حين تضع الحرب أوزارها، ويكون الناس في حالهم الاعتيادي، ليو، كانت تلك الأماكن جميلة وكان بعض الناس حلوين .

الواقع، إن هذه اللغة الجميلة وهذه الرؤية الإنسانية العميقة التي تنطوي علي الحزن يندر أن نجدها عند الكثير من الكتاب المعاصرين، وهي تلامس فينا الأوتار الحساسة، لأننا ـ نحن العرب ـ تعرضنا ونتعرض يوميا شأننا شأن الزنوج في أمريكا إلي العنف والقسوة.. لكننا، نكافح من اجل انتزاع حقوقنا، والاعتراف بعدالة قضيتنا، فقد علمتنا التجارب أن ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.