من تاريخنا الاجتماعي..مقهى أم كلثوم ومؤسسها الحاج عبد المُعين الموصلي

من تاريخنا الاجتماعي..مقهى أم كلثوم ومؤسسها الحاج عبد المُعين الموصلي

د. باسل يونس الخياط

(مقهى ام كلثوم في بغداد )، مقهى تراثي شهير في بغداد ويعود تأريخ تأسيسه إلى العهد الملكي، وكان ولا زال هذا المقهى ينبض بالحياة ويسقي من نفحاته الطرب الأصيل. سُمي هذا المقهى تيمناً بسيدة الغناء العربي كوكب الشرق أم كلثوم (1898- 1975) والتي زارت بغداد عام 1932 وقامت بالغناء في ملهى الهلال القريب من مكان المقهى الحالي.

أسس هذا المقهى المرحوم الحاج عبد المُعين الحاج أحمد الموصلي عام 1958 في بناية الإدارة المحلية (بناية حكومة بغداد المحلية حاليا)، وقد انتقل إلى مدخل شارع الرشيد في بغداد من جهة منطقة الميدان في العام 1961 بسبب التوسع العمراني لمؤسسات الدولة، وقد تم افتتاحه في يوم الخميس المصادف 19 آب/ أغسطس من عام 1961، وقد بقي المقهى مفتوحا لغاية يومنا هذا وتعاقب على إدارته أشخاص عديدون.

لقد كان (مقهى أم كلثوم) في بدايته صغيراً، ثم أخذت الناس تتوافد إليه من مختلف مناطق بغداد والمحافظات. أما رواد هذا المقهى فهم من مختلف شرائح المجتمع من الأدباء والفنانين والمثقفين والرياضيين وطلبة الجامعات، تجمعهم أجواء المقهى المشبعة بالطرب الأصيل. كما كان بعض العراقيين العائدين من الخارج، يتواعدون للقاء في (مقهى أم كلثوم).

مؤسس (مقهى أم كلثوم) هو المرحوم الحاج عبد المُعين الحاج أحمد الموصلي الذي ورث عن أبيه حب جمع التسجيلات الفنية، وقد جمع تسجيلات لمعظم رواد الموسيقى العربية الحديثة أمثال سيد درويش وداود حسني وزكريا أحمد ومحمد القصبجي ومحمد القبانجي، كما امتلك أكبر مكتبة للموسيقى العربية في العراق في فترة السبعينات والثمانينات والتسعينات.

لقد بدأ عشق الحاج عبد المُعين الموصلي لفن أم كلثوم منذ سنة 1940، ومع دخول جهاز الراديو إلى مقاهي الموصل، أخذ الحاج عبد المُعين يجمع كل تسجيلات أم كلثوم. كما كان يسافر إلى مصر ولبنان لشراء التسجيلات النادرة. وقد زار الحاج عبد المُعين أم كلثوم عام 1967 والتقى بها شخصيا في منزلها.

لقد كوَّن الحاج عبد المُعين مكتبة موسيقية شخصية ضخمة من التسجيلات والأشرطة، وكان متعاونا مع كل من يريد استعارة تسجيلاته، حتى أن الإذاعة العراقية كانت تستعير منه بعض التسجيلات النادرة.

لقد كان الحاج عبد المُعين قد افتتح (مقهى أم كلثوم) في قلب مدينة الموصل في منطقة باب الطوب في الجهة المقابلة للمركز العام للشرطة. وكان المقهى يشغل الطابق الأول من بناية قديمة تم هدمها لاحقا لتصبح موقف للسيارات.

ومن المقاهي الأخرى التي كانت تعرض أغاني أم كلثوم في الموصل مقهى (محمود هبراية)، وكان يقع في شارع نينوى وله باب تطل على زقاق ضيق يؤدي إلى محلة (عمو البقال) ويرتاده في الغالب صنف المعلمين.

لقد أخذ الحاج عبد المُعين عائلته معه وذهب إلى بغداد في نهاية الخمسينات وسكن في الشماسية في راغبة خاتون وقام بفتح (مقهى أم كلثوم) في شارع الرشيد عام 1961 .

لقد كان (مقهى أم كلثوم) في بغداد متميزا في كل شيء، وهو أشبه بالمتحف، جدرانه تعج بصور نادرة للسيدة أم كلثوم، مُكوِنة لوحة تحكي قصة الظاهرة الغنائية أم كلثوم منذ بدايتها حتى نهايتها. كما توجد صور لبعض الفنانين الذين تعاملت معهم أم كلثوم، وصورة أخرى فريدة لمؤسس المقهى عبد المُعين الموصلي مع كوكب الشرق عندما زارها في القاهرة، وصور متفرقة أخرى.

ومع دخولك المقهى إما تتجه إلى مكتب الحاج عبد المُعين الذي يتوسط المقهى وتطلب الأغنية التي تود سماعها، أو تجلس فتهب عليك نسمات صوتية تداعب مخيلتك، وتتفاعل مع قِدم المكان وعبق التراث مع انسياب اللحن والغناء الطربي الأصيل. فتشعر وكأنك تعيش في عالم أم كلثوم الرومانسي، بصوتها الشجي وأدائها المميز. ومع رشفة أول استكان من الشاي، يصدح صوتها عبقا: أروح لمين، هو صحيح الهوى غلاب، يا ظالمني،...

لقد كان الحاج عبد المُعين يدير المقهى بطريق ذكية يحترم فيها أذواق رواد المقهى بدون تمييز بينهم. فإذا طلب زبون سماع أغنية مُحددة يقوم بكتابتها على ورقة ثم يضعها بالسره حسب تسلسل الطلبات، وكان الزبون أحيانا يضطر للانتظار ثلاث ساعات أو أكثر لحين عرض الأغنية التي طلبها بسبب كثرة الطلبات.

لقد استمر (مقهى أم كلثوم) يزهو في بغداد طوال ربع قرن للفترة (1961-1995) بإدارة الحاج عبد المعين المتميزة، وفي سنة 1995 توفيت زوجته، فأجبرته الظروف العائلية على أن يترك بغداد ويقفل عائدا إلى الموصل تاركا أجمل الذكريات في بغداد التي أحبها وترك بصماته فيها، كما أحبه أهلها الأصلاء.

لقد بيعت (مقهى أم كلثوم) في بغداد، وعاد الحاج عبد المُعين إلى مسقط رأسه ليفتتح هناك (منتدى أم كلثوم) بعمارة الشوّاف في قلب الموصل في باب الطوب ويديرها لحين وفاته.

السؤال الذي نود طرحه الآن: أين أصبحت مكتبة الحاج عبد المُعين والتي تُعد ثروة وطنية للعراق؟ كم نتمنى أن تقوم جهة مسؤولة بشراء هذه المكتبة النفيسة من أصحابها الشرعيين ووضعها في المكان المناسب لها.