الدكتور ناجي الأصيل .. شذرات وطرائف

الدكتور ناجي الأصيل .. شذرات وطرائف

اعداد : رفعة عبد الرزاق

كنت استمع لاحاديث الاستاذ الراحل سالم الالوسي المؤرخ والاثاري واسجل ما يمكني تسجيله من ذكرياته وفوائده الجليلة ، وكان اسم الاستاذ ناجي الاصيل مدير الاثار العام يترود مرارا في احاديث الاستاذ الاصيل ، واقدم هنا بعض من هذه الاحاديث الطريفة .

الاصيل وتأسيس مجلة ( سومر)

ذكر الأستاذ سالم الآلوسي مرارا أن المرحوم الدكتور ناجي الأصيل صاحب الفضل الأول في صدور مجلة سومر، والثاني هو الأستاذ فؤاد سفر والثالث هو الأستاذ مصطفى جواد”رحمهم الله». وكان الأصيل قد عُيّن مديراً عاماً للآثار سنة 1944 خلفاً للأستاذ يوسف رزق الله غنيمة، وقد رأى أن يصدر مجلة علمية رصينة عن مديرية الآثار، فضلاً عن مطبوعاتها التي دأبت على إصدارها منذ إدارة الأستاذ ساطع الحصري لها في الثلاثينيات، وأن تكون المجلة تضم كل ما يتعلق بالنشاط الآثاري في العراق من بحوث وتقارير. ولتحقيق هذه الفكرة اللامعة، عقد اجتماعاً في مكتبه مع عدد من المعنيين وهم سيتون لويد المشاور الفني في المديرية، وطه باقر أمين المتحف العراقي والدكتور مصطفى جواد الأستاذ في دار المعلمين العالية وفؤاد سفر الملاحظ الفني في مديرية الآثار وكوركيس عواد ملاحظ مكتبة الآثار وبشير فرنسيس مدير التفتيش في مديرية الآثار.

وبعد نقاش مستفيض تقرر أن تصدر المجلة باسم (سومر) لأن الحضارة السومرية هي الأقدم في حضارات العراق، ويذكر الأستاذ الآلوسي أن هذا الاسم كان من اقتراح الدكتور ناجي الأصيل ووافق عليه الجميع، واقترح فؤاد سفر أن يكتب على غلاف المجلة الاسم بالعربية والكتابة السومرية. ويكون شعار المجلة يمثل النهرين العظيمين دجلة والفرات، والمستوحى من تسمية بلاد الرافدين أو مابين النهرين. ولم يزل هذا الشعار معتمداً في جميع مطبوعات الآثار. وأن يكون حجم المجلة من الحجم الكبير (27 في 21) وأن لاتقل صفحاتها عن 150 صفحة بالعربي والانكليزي. وأن يكون إصدارها بشكل نصف سنوي.

وكانت هيئة التحرير مكونة من الدكتور الأصيل رئيساً للتحرير وسيتون لويد نائباً لرئيس التحرير ومن المحررين بشير فرنسيس وطه باقر وفؤاد سفر ومصطفى جواد وكوركيس عواد وسامي الصقار، وأن يكون سالم الآلوسي سكرتيراً لها. وصدر عددها الأول في كانون الثاني 1945.

ناجي الأصيل وتأسيس متحف الموصل

في القدم كعصور ما قبل التاريخ وعصور ما قبل الميلاد وهي مشهورة بكونها تضم بقايا اربع عواصم آشورية هي: اشور، نينوى نمرود (كالخ القديمة) وخرسباد (دور – شروكين القديمة) وقد استمرت الحياة في منطقة الموصل منذ اقدم الازمنة حتى يومنا هذا وقد تنادى المخلصون .. الا تستحق الموصل متحفا بضم اثارها وتراثها الحضاري؟ وكتب كثيرون حول هذا الموضوع في الصحف او في رسائلهم الخاصة نذكر منهم الاستاذ القانوني الاداري والاديب البارع ابراهيم الواعظ (1894 – 1958) رحمه الله الذي كانت تربطه بالدكتور ناجي الاصيل صلات وثيقة وحينما تولى الاستاذ الواعظ منصب رئاسة محكمة استئناف منطقة الموصل كان ينتهز الفرص لزيارة الاثار في لواء الموصل القديمة والاسلامية وبقدر اعجابه وافتخاره بها كان يتألم لما هي عليه من الاهمال وقلة العناية بها وبعثرتها.

وبدافع حبه للاثار وحرصه على حفظها وصيانتها كتب الى صديقه الدكتور ناجي الاصيل الذي كان قد تقلدً حديث منصب مدير الاثار العام رسالة يطلب فيها اليه الاهتمام بالاثار وحمايتها وجمعها في (محل واحد) وقد عزز رسالته بمؤلف للمؤرخ الموصلي الاستاذ احمد الصوفي الموسوم بـ(الاثار والمباني العربية الاسلايمة في الموصل) المطبوع بمطبعة ام الربيعين – الموصل عام 1940 ووشحه بالابيات التالية وبتاريخ 10/3/1945 بلسان الاثار مستنجدة:

اشكر اليك تبعضي وتبعثري

يد البلى ويد الاسافل تلعب

انت الاصيل فنجني من غادر

فالدهر باغ والحوادث قلب

بادر فادركني لانك حازم

واجمع شتاتي ان فعلك طيب

وقد اهتز الدكتور الاصيل طريا لهذه الابيات وعزم على زيارة الموصل وتفقد اثارها ودراسة السبل والوسائل الكفيلة بتحقيق هذه الاماني.

وبتاريخ 15/4/1945 وصل الدكتور الاصيل الى مدينة الموصل وكان في مقدمة المستقبلين متصرف الموصل والاستاذ الواعظ ومدير معارف اللواء وعدد من رجال الادارة والثقافة وفي فندق المحطة – اي محطة قطار الموصل – اقام الاستاذ الواعظ حفلة شاي دعا اليها جمعا من شخصيات الموصل ووجهائها وادبائها والقى كلمة ترحيبية وانشد بيتين من الشعر جوابا على الابيات مارة الذكر (على لسان الدكتور الاصيل):

لبيك ها اني اتيتك منجدا

ومخلصا ممن يجور وينصب

سأفيك شر حوادث ونوازل

واذود من يبقى الهوان ويلعب

وقد وعد الدكتور الاصيل الحاضرين بانه مدرك لأهمية الموضوع وانه سيعمل بكل طاقته على تحقيق اقامة (متحف الموصل) حينما تتوفر الامكانيات لذلك.

وعندما زار الاستاذ ابراهيم الواعظ بغداد احتفى به الدكتور الاصيل فاقام له دعوة غدا – يوم الجمعة 18/5/1945 في حديقة متحف القصر العباسي ببغداد حضرها عدد من موظفي الاثار .

الاصيل والدكتور مصطفى جواد والملك فيصل الثاني

حدثنا الدكتور مصطفى جواد جواد انه كان خلال تعليمه الملك فيصل الثاني اللغة العربية والتاريخ يأتي له ببعض الامثلة والشواهد التاريخية الخاصة بتاريخ العراق، وكان يرغبه في زيارة الآثار، فاستجاب جلالته لهذه الرغبة حيث قام بزيارة المتحف العراقي يوم 6/12/1945 اعقبها بزيارة الى دار الآثار العربية في خان مرجان يوم 13/12/1945 وكان يرافقه الامير رعد نجل الامير زيد ورئيس المرافقين لجلالته العقيد عبد الوهاب عبد اللطيف كان في استقبال الملك هيئة برئاسة الدكتور ناجي الاصيل مدير الآثار العام، والاساتذة: طه باقر امين المتحف العراقي، والمستر سيتون لويد، المشاور الفني في مديرية الآثار العامة، والدكتور مصطفى جواد الملاحظ الفني فيها، والسيد داود ضياء المسؤول عن ادارة متحف الاثار العربية، والسيد سالم الآلوسي دليل المتحف .

كان دخول الملك من باب دار الآثار العربية في خان مرجان في شارع السمؤال وهي باب مستحدثة، فالباب الاصلية تقع في سوق الاقمشة بدلالة الكتابة التاريخية التي تعلو المدخل.

تولى الدكتور ناجي الاصيل تقديم نبذة مختصرة عن الدول والسلالات التي حكمت العراق بعد سقوط الدولة العباسية، وهم الأيلخانيون 656 – 738 هـ، ثم جاء بعدهم الجلائريون من 738 – 814 هـ وبعد الجلائريين حكمت اسر ودول التركمانية القره قوينلو والاق قوينلو وآخرها الدولة العثمانية التي انتهى حكمها للعراق باحتلال الجيش البريطاني بغداد عام 1917 بعدها التفت الدكتور الاصيل نحو الدكتور مصطفى جواد طالبا منه الكلام عن تاريخ الخان الذي تم تحويله بعد صيانته وترميمه الى متحف يضم الآثار العربية.

استهل الدكتور جواد كلامه عن الجلائريين واهتمامهم بالعمران ومن آثارهم ببغداد المدرسة المرجانية التي شيدها امين الدين مرجان على عهد السلطان الشيخ اويس الجلائري عام 758 هـ (1356م)

وتعرف المدرسة هذه الايام بجامع مرجان وفي هذه المدرسة تولى عدد من علماء الاسرة الالوسية التدريس فيها.

اما هذه البناية التي تعرف بخان مرجان، فهي من اوقاف المدرسة المرجانية وقد تم بناؤها عام 760هـ (1358م) وتعرف بالتركية بـ(خان الاورتمة او الاورطمه) اي الخان المستور او المسقوف، وكان البناء بمثابة قسم داخلي لطلاب المدرسة وفندق يؤمه التجار وارباب الاموال والبضائع للبيع والشراء، وكانت مديرية الاثار العامة قد تسلمته من مديرية الاوقاف العامة واصلحته وجعلته دار للاثار العربية والاسلامية التي تضم مجموعة نفيسة من الاثار من بينها تلك التي اكتشفتها دائرة الاثار في كل من الكوفة التي بناها القائد العربي سعد بن ابي وقاص، ومدينة واسط التي بناها الحجاج بن يوسف الثقفي في سنة 83 هـ، والاثار المكتشفة في سامراء، عاصمة العباسيين الثانية بعد بغداد، حين شيدها الخليفة محمد المعتصم بن هرون الرشيد، وهناك مجموعات متفرقة من الآثار المصنوعة من الخشب والمعدن والفخار والحجر ومن المنسوجات المطرزة والمكتوبة، ارجوا مولانا جلالة الملك ان يتفضل بمشاهدتها.

حب ماء: تجول الملك والامير رعد في قاعات العرض وقد تناوب الكلام وشرح الآثار والمعروضات الدكتور الاصيل والدكتور جواد، وعند دخولهم قاعة الاواني الفخارية، جلب نظر الملك فيصل جرة كبيرة أو (حب للماء) مزينة بالزخارف والنقوش البارزة الجميلة فالتفت تحو الدكتور الأصيل مستفسراً فاجابه: يا سيدي هذا نوع نفيس من الاواني الفخارية تتميز بالكتابة والنقوش الناتئة وهو ما يعرف عند مؤرخي الفنون الاسلامية بـ (البار بوتين) وكان يحلي هذا الاناء بيتان من الشعر بالخط النسخي الناتيء فاستوضح عن فحواها ومعناها وهنا جاء دور الدكتور جواد فانحنى متفحصاً مدققاً قارئاً وبعد هنيهة قال: يا سيدي هذا شعر يعبر عن حال هذا الحب وكيف استقر به المقام في بيت أهلٍ للفضل والكرم بعد معاناة ومكابدة!

انا حب للماء في شفاء

ورواء للوارد الضمآن

نلت هذا عند الكرام بصبري

يوم القيت في لظى النيران

ولم يكتف الدكتور جواد بذلك فهمس قائلاً للدكتور الاصيل: مولانا الاستاذ – اما كان الاحرى بالقائمين على شؤون المتاحف والآثار ان يطلقوا كلمة (المأثرة) على المتحف، لانها المكان المخصص للآثار؟

فرد عليه الدكتور الاصيل قائلاً: ولكن كلمة المتحف ابلغ واجمل لانها مكان حفظ التحف، بعدها هرع الحضور لتوديع جلالة الملك .